هل تلعب روسيا آخر أوراقها شرقيّ الفرات؟

عبدالله النجار

شهدت مدينة القامشلي بين 20 و25 نيسان الجاري اشتباكاتٍ بين قوات الشرطة “الأسايش” التابعة لقوات سوريا الديمقراطية من جهة، وقوات الدفاع الوطني التي تتمركز منذ ثماني سنوات في حي طيّ العربي جنوبي مدينة القامشلي من جهة أخرى، شارك فيها المئات من قوات الأسايش المسلحة تسليحاً جيداً تأتي في مقدمته قناصة “زاغروس” القادرة على اختراق الدروع، بينما قدر عدد مقاتلي الطرف الآخر ما بين 70 إلى 100 مقاتل يبدو تسليحهم ضعيفاً قياساً بالطرف الأول وعبارة عن مسدسات حربية وأسلحة صيد بالإضافة إلى عدد قليل من قطع الكلاشينكوف، وذلك وفق الصور التي بثتها وكالة أنباء “هاوار” التي رافقت قوات الأسايش والتي تقدم نفسها على أنها وكالة الأنباء الرسمية “لروجافا ” أي “كردستان سوريا” ومرتبطة بقوات سوريا الديمقراطية.
استغرقت الاشتباكات فعلياً خمسة أيام بينما تصرّ “هاوار” على أنها سبعة تعزيزاً لانتصار داعميها، كما حظيت بمراقبة وتغطية إعلامية خاصة احتكرتها وسائل الإعلام المقربة من الأسايش فقط، وأسفرت عن مقتل 22 شخصاً بحسب “هاوار” نفسها، من بينهم 6 مدنيين وعنصران كرديان من الأسايش و 14 عنصراً عربياً من الدفاع الوطني. وهو وقت طويل وأرقام كبيرة بالنظر إلى الفارق بين أعداد الطرفين المتقاتلين وتسليحهما، خاصة أنه لم يتم استخدام الأسلحة الثقيلة، بالإضافة إلى أن المساحة التي جرت فيها المعركة لا تكاد تبلغ نصف كيلو متر مربع، وتمخضت الاشتباكات عن طرد الدفاع الوطني إلى أطراف الحي الجنوبية.
كما حظيت باهتمام دولي حيث علق الجنرال كينيث ماكنزي قائد القيادة المركزية الأميركية على ما جرى، داعياً إلى اتباع الحوار طريقاً لحل المشكلة، ونالت نصيبها من الاهتمام أيضاً في إحاطة مجلس الأمن الدولي الأخيرة عن الوضع الإنساني في سوريا.
توقفت الاشتباكات بعد مفاوضات طويلة أدارها مركز المصالحة الروسي وشارك فيها وجهاء ومتزعمو عشائر عربية وكردية، أسفرت عن توقيع هدنة بين الطرفين المتقاتلين بضمانة الشرطة العسكرية الروسية وقوات سوريا الديمقراطية، بينما بقي النظام بعيداً عن الاتفاق.
وفي تغطيتها لما جرى، أصرّت وكالة سبوتنيك الروسية على توصيف القتال بأنه صراع قومي بين العرب والأكراد معتبرة الهدنة التي تم التوصل إليها إنجازاً روسياً كبيراً، كما أصر المراسل العسكري الروسي في رسالته الإعلامية لوكالة سبوتنيك على القول إن قوات روسيا الاتحادية تقوم بعملية حفظ سلام في القامشلي وتوزع المساعدات الإنسانية على الشعب السوري، وستواصل عملها لضمان سلامة السكان المدنيين.
وعلى أرض الواقع سيرت الشرطة العسكرية الروسية دورياتها في مدينة القامشلي للفصل بين الطرفين المتحاربين، ووزعت قواتها بعض المساعدات الغذائية على سكان الحيّ العربي، كما قدم الصليب الأحمر الروسي خدماته الطبية أيضاً، وبذلك بات للقوات الروسية ولأول مرة انتشار عسكري ضروري ومبرر في أقصى الشرق السوري، لارتباطه بعمليات حفظ سلام بين فصيلين مسلحين غير حكوميين ينتميان إلى قوميتين مختلفتين، في منطقة طالما بقيت محرمةً عليها وكان انتشارها فيها خطّاً أحمر ومحلّ صدامات دائمة بين العسكريين الروس والأميركان حتى إنه كان حلماً بعيد المنال، غير أن اشتباكات القامشلي جعلته في متناول اليد.
لم يدافع النظام عن قوات الدفاع الوطني ولم يقدم لها الدعم وتركها لمصيرها، كما أنه لم يفاوض أو يوقع نيابة عنها، وبدا وكأنه طرف ثالث لا علاقة له بالموضوع، رغم أنها جهة رسمية منظمة تابعة له، ولها هيكليتها وإداراتها ومبانيها وميزانيتها وشعارها الخاص وتنتشر في كل المحافظات السورية، وتتلقى تسليحها من مستودعات جيش النظام واستفادت خلال الحرب السورية من التغطية الجوية لقوات النظام والقوات الروسية أيضاً.
عن قصد أو بدون قصد ذهبت الأسايش ووجهاء العشائر الداعمون لها ومسؤولو الإدارة الذاتية وحزب الاتحاد الديمقراطي PYD نحو تأكيد الصورة التي أرادتها روسيا، فوصفت في بياناتها عناصر الدفاع الوطني بالمرتزقة ودعت الحكومة السورية إلى وضع حدٍ لها، الأمر الذي بدت معه الميليشيا وكأنها مجموعة من المبادرين المدنيين غير المنضبطين هبوا إلى حمل السلاح من تلقاء أنفسهم ولا يمثلون “الحكومة السورية”، وهو ما عزز الرواية الروسية القائمة على وقوع صراع عربي كردي.
ولم تخرج تصريحات قادة الدفاع الوطني السياسيين والعسكريين في القامشلي عن هذا السياق، فهي كذلك لم تدع النظام لمواجهة “المحتل وعملائه”، ولم تنتقده لاتخاذه موقف المتفرج عليها وهي تذبح رغم ملاصقتها ومجاورتها لفوج قواته العسكري في جبل طرطب القريب، بل ناشدت العشائر العربية للوقوف في وجه “قسد” وإطلاق معركة مقاومة شعبية عامة لتحرير كل المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة.
تبدو تجربة الاشتباكات الأخيرة هدية من السماء لروسيا، ماذا لو تكرر الصراع أو تم استنساخه في مناطق أخرى من الجزيرة، في مدينة الحسكة مثلاً أو القحطانية أو المالكية أو اليعربية أو رميلان قرب حقول النفط حيث تتداخل التجمعات العربية والكردية وتتمركز القواعد الأميركية التي سوف تصبح جزراً متناثرةً في بحرٍ من الدوريات الروسية؟
ماذا لو حصل بالفعل صراع قومي وفق النمط الذي شاركت في تقديمه الأطراف المشار إليها أعلاه، والتي تجاهلت جميعها الإشارة إلى أن ميليشيا الدفاع الوطني هي قوات عسكرية رسمية منظمة تتبع لحكومة دمشق؟ صراع لا تتدخل فيه قوات النظام وربما تتنصل منه أيضاً ولا يتم فيه استهداف القوات الأميركية.
صراع يبقى محصوراً بين العرب ممثلين بقوات الدفاع الوطني والعشائر المؤيدة للنظام بحسب ما قدمته سبوتنيك من جهة، وبين المقاتلين الأكراد في “قسد” الذين يتمركزون في محافظة الحسكة تحديداً من جهة أخرى.
إن انزلاق الصراع إلى هذه الحالة مفيدٌ لروسيا التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الطرفين تجعلها مؤهلة مرة أخرى للقيام بدور الوسيط ونشر دورياتها لحفظ “السلام”، وهو ما يعني أن الصراع القومي قد يكون وسيلة لتمدد القوات الروسية شرقا نحو المناطق النفطية بحجة حفظ السلام وهي حجة لا تقل قوةً عن حجة قتال تنظيم داعش التي يتذرع بها الأميركان للبقاء حول حقول النفط هناك.
في المنطقة التي نتحدث عنها لن يكون هناك مجال لاتهام العرب بالانتماء إلى تنظيم داعش، فهم مؤيدون للنظام وقاتلوا داعش ومن قبلها الفصائل الإسلامية والجيش الحرّ ولا يزالون حتى الآن ينظمون المسيرات المؤيدة لرأس النظام، كما أنهم قدموا في العام الماضي المرتزقة للقتال إلى جانب قوات حفتر في ليبيا.
أسئلةٌ كثيرة تطفو على السطح ليس لها أجوبة حالياً، منها ما يتعلق بحقيقة الاشتباكات فيما إذا كانت عفوية أم مفتعلة، ومن الذي افتعلها؟ ومن الذي قتل وجيهاً عربياً في حي يسيطر عليه الأكراد كان يقوم بدور الوساطة بين الطرفين المتقاتلين؟
ويبقى السؤال الأهم مرتبطاً بقدرة جميع الأطراف على تحمل تبعات ذلك، أو استعدادهم لتلافيها ودفع الضريبة اللازمة؟

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى