قراءة في رواية: براري الحمّى

أحمد العربي

إبراهيم نصر الله روائي وشاعر متميز، فلسطيني الاصل، كتب العديد من الروايات والأشعار، حصل على جائزة البوكر العربية للرواية عام ٢٠١٨م.

براري الحمّى رواية تعتمد طريقة السرد بصيغة المتكلم، وهي أقرب لحوار داخلي نفسيّ لبطلها الاستاذ محمد حماد، فيها تداخل بين الواقع والهذيان، لا تسلسل زمني في الرواية، المكان هو جنوب السعودية المحاذية لليمن، في مدن صغيرة موغلة بشظف العيش، فقر وصحراء وحرّ لا يطاق، بشر يعيشون في ظروف حياة قاهرة. محمد حماد مدرس مبتعث للتدريس في السعودية، تم فرزه الى مدينة “القنفذة” و”سبت شمران” جنوب السعودية. هناك يستيقظ محمد حماد صباحا ليكتشف أن زميله المدرس الذي يسكن معه في نفس الغرفة غير موجود، لقد اذهله عدم وجود زميله، بحث عنه ولم يجده، ذهب للشرطة وأبلغ عن غياب زميله، وعندما سئل عن اسم الزميل اعطاهم اسمه هو اي محمد حماد، وكذلك مواصفاته، لم يتفهم الشرطة هذا التطابق بين الاسمين والمواصفات، لكن محمد حماد مصرّ على افادته. كما جاء الى الاستاذ محمد خمسة أشخاص على درّاجات نارية، اخبروه انه ميت وانهم يريدون منه مبلغ مئة ريال تكاليف دفنه، استغرب ذلك واخبرهم انه حيّ ولم يمت، لكنهم رفضوا ذلك وتركوه على حاله وغادروا. محمد يعيش في القنفذة معلما وحيدا فيها، القنفذة قرية صغيرة اهلها قلائل، متكيفين مع طقسها الحار جدا، محمد دائم الإحساس بالجحيم يتّقد حوله وفي دماغه، السماء تسقط جحيما من اللهب، الجبال تعكس اللهب، رمال الصحراء حوله بحر من الرمال الحارقة، حتى البحر الأحمر بجوار البلدة، لا يزيد عن بحر من اللهب، الناس يعيشون مع بعض الحيوانات، تواصلهم مع المناطق الاخرى صعب جدا، لا قادمون جدد للقرية إلا المدرّسون الذين يتغيرون كل سنتين، لا طرقات معبّدة بين المدن، سيصل الطريق الى القنفذة بعد سنتين، وسيكون عيدا لكل الناس. الارض رمل لا تخصب، المياه عزيزة وغير متوفّرة، وعندما تأتي الأمطار تأتي على شكل سيول تهاجم الجبال والوديان، تترك وراءها كل ما يصادفها من حيوان ونبات وإنسان حطاما، في فعل قتّل وحشي قاسي، البئر الوحيد في القرية يبتلع الكثير من شبابه عندما يحاولون ان ينزلوا فيه لأي سبب كان. يشترك مع أهل البلدة في العيش؛ الصقور والخفافيش والذئاب والقرود، كلها تقتات على بعضها، وعلى بقايا ما يزيد عن البشر، في هذا القفر والفقر والحرّ الحارق واحساس الغربة، يفتقد محمد لحضور المرأة الانثى، الانثى والصحراء أعداء، جاره بالسّكن رجل مسنّ أعلن الحرب عليه خوفا على زوجته الصغيرة الجديدة، رغم أنه لم يظهر منها الّا ظلّ اسود، وانتهت المشكلة عندما ابعد زوجته الصغيرة وأعاد زوجته المسنّة الى جوار منزل الاستاذ، في هذا القفر تتحول المرأة لهاجس وهوى وحاجة ملحّة تهاجم الجسد والروح مثل صقور الصحراء التي تنقض على فرائسها بغتة. محمد لا يتقبل غياب الأستاذ محمد الاخر، الذي لن يكون سوى نفسه التي أضاعها في هذا القفر الحار وجهنّم الأرض حيث هو، سيتفهم الشرطة ذلك و يتركوه لحاله، أهل القرية يتعاملون معه كغريب سرعان ما يغادر عند انتهاء ابتعاثه، سيعود إليه الأشخاص الخمسة مطالبينه بالمئة ريال، سيعطيهم ألفا لينتهي من إلحاحهم. تعرّف على ابا محمد الرجل المصر على زراعة الصحراء دون كلل، رغم غياب الأمل بأن تنتج تلك الرمال زرعا، سيكتشف ان تلك الديار موغلة في القدم، وعصيّة على الحياة وطاردة لها، سيتعرّف على فاطمة كحبّ مستحيل فتاة من رغبة وغياب، حضورها شبه مستحيل، وحضورها لا يتأكد منه محمد أبدا، سيبقى يعشقها ولا نتأكد من حصول الوصال ام لا. سيبقى محمد مسكون بغياب زميله الذي هو نفسه، مسكون بالحرّ ومحاط بالرمل والغياب، ينتظر حبا مع فاطمة مستحيل التحقق، وغياب التواصل مع بشر نسيهم الخالق في صحراء تأكل حياتهم في جحيم يومي معاش دوما.

 تنتهي الرواية بمجيء الأشخاص الخمسة ليأخذوا الاستاذ على أنّه جثّة محمد الى المقبرة حيث كانوا قد قبضوا تكاليف دفنه سابقا.

في تحليل الرواية نقول:

اننا امام رواية متميزة لإبراهيم نصر الله، رواية تتحدث عن تجربة عاشها الكثير من المعلمين العرب ، الذين استعانت بهم الدولة السعودية قبل عشرات السنين، لتحاول ردّم هوّة نقص المعلمين عندها، حيث وزّعتهم على قراها ومدنها المبعثرة في صحراء لا ترحم، الرواية مشاعريّة و هذيانيّة مليئة بالهلوسات، الحدث الروائي قليل، لكنها صرخة استغاثة انسانية في مواجهة ظروف حياة قاسية، الطبيعة المجرمة بحق البشر، والبشر الساكنين في تخلف موغل في القدم، وبغياب العلاقات الإنسانية السويّة وأهمها الحب، لذلك تفتتح الرواية بغياب ذات الاستاذ عن كيانه ويصبح غريبا اقرب للجنون، وتنتهي بموته، فهكذا حياة مستحيلة في هكذا شروط.

الرواية صرخة انسانية في مواجهة كل ظروف القهر الطبيعية والمجتمعية.

وهذا مصدر فرادتها وروعتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى