في فقرتها الأولى، تنص القاعدة “42” من “قواعد مانديلا” لمعاملة السجناء، على أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تصل القيود أو الجزاءات التأديبية بحق السجناء، إلى حد التعذيب، أو غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو المهينة. وبموجب تلك القاعدة تحظر العديد من الممارسات ومنها: الحبس الانفرادي المطول. كذا حبس السجين في زنزانة مظلمة أو مضاءة دون انقطاع. ويحظر أي نوع من أنواع العقاب البدني، أو خفض كمية ما يقدم للسجين من الطعام أو مياه الشرب. وفي فقرتها التالية تنص هذه القاعدة، على أنه لا يجوز أن تتضمن الجزاءات التأديبية منع السجناء من الاتصال بأسرهم.
كانت الفقرة السابقة واحدة من 122 قاعدة أصدرتها الأمم المتحدة عام 2015، فيما سيعرف بالقواعد الدنيا لمعاملة السجناء، وتكريماً للسجين الأشهر عالمياً، دعيت باسمه “قواعد نيلسون مانديلا”. وللعلم تلك القواعد لم تكن تخص السجناء السياسيين، بل السجناء ومحجوزي الحرية على وجه الإطلاق. ولم تحاول الأمم المتحدة تمييز السجناء السياسيين أو معتقلي الرأي، رغم أنه عرف عالمي أن يكون لهؤلاء شروط اعتقال تمييزية إيجاباً.
ستشير القواعد في العديد منها إلى الحق الطبيعي للسجناء بالاطِّلاع المنتظم على الأحداث ذات الأهمية عن طريق قراءة الصحف اليومية والاستماع إلى البرامج الإذاعية، إضافة إلى شروط الزيارات والمراسلة والاتصال بالعالم الخارجي، وتؤكد على ضرورة توزيع السجناء على سجون قريبة من منازلهم، والسماح لهم بالاتصال بذويهم وأصدقائهم على فترات منتظمة بالمراسلة كتابةً، وإذا كان متوفراً، فبالوسائل الإلكترونية وغيرها، عدا استقبال الزيارات بانتظام طبعاً. وتتطرق القواعد إلى تفاصيل علاقة السجين بمحاميه الخاص، وضرورة إتاحة الفرصة وكل ما يلزم من تسهيلات لزيارة المحامي للسجناء لاستشارته دون تنصت ولا رقابة، بل وبسريّة تامة.
أن تقرأ تلك القواعد بتفاصيلها وأنت سوري، فهو يشبه أنك تقرأ في “قواعد الحب”. أو أن تقرأ رواية رومانسيّة خيالية لا تمت للواقع بأي صلة. وما سيجعل الأمر مخجلاً، أن تلك القواعد صادرة عن الأمم المتحدة التي يحتل نظام الأسد مقعداً فيها، وعلى مدى العشر سنوات الماضية، كان الحضور في قاعات الأمم المتحدة، قد استمعوا إلى شهادات تنطوي على فظاعات مهولة، لناجين من سجون الأسد، وفي أروقتها تم عرض صور أحد عشر ألف سوري مقتولين تحت التعذيب في مختلف معتقلات سوريا، مقتولين بموجب “قواعد الأسد” لمعاملة السجناء.
سيشعر المدقّق لكل قاعدةٍ من تلك القواعد، أن الأسد جعل من سوريا بلداً لا ينتمي لقواعد هذا الكوكب. دون أن نغفل طبعاً، أن أرباب هذا الكوكب يؤمنون بشدة بالكلمات المكتوبة والقواعد المدوّنة، ويديرون ظهرهم ببراعة ودون حياء، لما يحدث من كارثة مستمرة في الواقع.
عام 1986 حاول المحامون النقابيون المعتقلون في سجن عدرا، في الجناح 2، وهو جناح المعتقلين السياسيين، أن يشرحوا لمدير السجن العميد “أمين العلي” بعضاً من نصوص الدستور السوري، والقوانين المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات، خلال مطالبتهم له بتحسين شروط توقيفهم، وكان أن أصغى لهم بصدر رحب ليجيبهم في النهاية: “صباطي هو القانون والدستور”. كان هذا كل ما تعلّمه الرجل في مدرسة الأسد لحقوق الإنسان.
في عام 1955، اعتمد مؤتمر الأمم المتحدة الأول المعني بمنع الجريمة ومعاملة المجرمين، القواعد الدنيا لمعاملة السجناء، ثم تم تطويره وتنقيحه واعتمد ثانية عام 2015 تحت مسمى “قواعد مانديلا” كدليل إرشادي لحكومات الدول لحماية حقوق الأشخاص المحرومين من الحريّة. نعم عام 2015 حين كانت صور قيصر قد ملأت شاشات الكرة الأرضية. ليتحول ما يجري للسوريين في بلادهم إلى صدمة رجّت الرأي العام، فلم يسبق للعالم أن ترك نظاماً لنصف قرن، يفعل بشعبه ما فعله النظام السوري بالسوريين. لكن في الواقع لم يُتخذ أي إجراء حاسم لوقف المذبحة.
يتصادف أن يوم 17 أبريل/ نيسان هو “اليوم العالمي للمعتقل السياسي”. حيث تجري به العديد من النشاطات حول العالم، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين في عديد من الدول. أما في سوريا، حيث لا يوجد سوري لم يسمع عن عديد من الأسر التي تنتظر أبناءها من ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، دون أية معلومة عن أولئك المفقودين، فلن يلتفت أي سوري لهذا اليوم، وكذا ستبدو “قواعد مانديلا” التي تحث على احترام الكرامة الإنسانية لدى السجناء وتقديرهم كبشر، ستبدو لنا، وكأنها تعاليم تخص بشراً آخرين في عوالم أخرى، لم يسعنا بعد كسوريين أن نعرفها.
ولعل ما قاله يوماً “بركات العش” مدير سجن صيدنايا والمشرف سابقاً على مجزرة تدمر، يتضمن أوضح تلخيص لقواعد الأسد لمعاملة السجناء، وعلى نحوٍ خاص، السجناء السياسيين. كانت بداية وصولنا إلى سجن صيدنايا المُفتتح حديثاً نهاية عام 1987، عندما جاء العقيد العش إلى مهجعنا. من ضمن ما تحدث به كان أن ألقى علينا كمعتقلين جدد وواصلين حديثاً من فرع فلسطين، السؤال التالي: هل لديكم فكرة عن سجن صيدنايا؟ الصديق سليم أسعد أجابه: “سمعنا أنه سجن مصمم حسب المعايير الدولية، وسوف تراعى فيه المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، ومبادئ الأمم المتحدة”. العش، وبدون أي تمهل، قاطعهُ ساخراً: المواثيق الدولية؟ حقوق الإنسان!! مبادئ الأمم المتحدة!! هذه نحن نستخدمها لنمسح بها “……”.
اليوم، وبعد ما شهدته سجون بشار الأسد في العقد الأخير من جرائم فاقت خيال أعتى المجرمين، تبدو حكومات العالم بجهاته الأربع، تشارك بركات العش رأيه بالاستخدام الأمثل للمواثيق الدولية وحقوق الإنسان، وبخاصة قواعد معاملة السجناء.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا