تعيش الحاضنة الشعبية للثورة السورية في هذه الأيام في غياب مرجعيةِ تحظى بقدر كافٍ من الإجماع الثوري، بالرغم من كونه قد ظهر داخل جسد الثورة السورية، منذ وقت مبكر، صراعٌ على حيازتها أو أبوّتها. هذه الثورة التي كانت حلماً دغدغ عواطفنا طوال سنوات كنا نعيش فيها مع قامات وطنية يعز علينا فراقها في هذه اللحظات الفارقة، وأبرز هذه القامات والشخصيات الوطنية التي جمعت حولها وكرست حياتها للوصول بالجماهير العربية إلى لحظة العنفوان لتمتلك الجرأة لتثور للمطالبة بالحرية والكرامة، كان الدكتور جمال الأتاسي.
نكتب هذه الكلمات في الذكرى الواحدة والعشرين لغياب القيادي الكبير جمال الأتاسي، فسيرته الذاتية كانت أنموذجاً لجيل من المناضلين، تماهى عندهم الخاص بالعام، الوطني بالقومي بالإنساني، فالخاص عندهم كان في سياق العام، إنها السمة الأساسية لذلك الجيل الذين اعتقدوا أن أمتهم على أبواب عصر من النهوض، كانوا جيلاً لا يتردد في الاقتحام، كان معيارهم أن التوقف عن الحركة ممنوع، وأن الانسحاب من المعركة عار.
كان الأتاسي أنموذجاً لذلك الجيل المتمرّد الذي يعبّر عن موقفه بشجاعة ووضوح، فهو اشتراكي يعتبر الأنظمة الاستبدادية والفردية، نظماً متخلفة، تسخر الإشتراكية، كما سخرت الديمقراطية لتكون أداة ديماغوجية في الدعاية والتضليل. والاشتراكية بالنسبة له لا يمكن أن تكون إلا ديمقراطية إذا انسجمت مع نفسها ونشأتها وأهدافها.
فإذا كان جمال الأتاسي قد أدرك في وقت مبكر أهمية الحوار، والتحالف، بين مختلف الاتجاهات الفكرية، والسياسية، داخل المجتمع، فالاتحاد الاشتراكي العربي كان في الأساس تحالف بين فصائل وحدوية عديدة، ثم سعى لتأسيس الجبهة الوطنية في سورية بعد هزيمة 1967، ثم وافق على “الجبهة الوطنية التقدمية” بعد عام 1970، وعندما اكتشف أنه في المكان الخطأ لم يتردد في الانسحاب منها، لكن للسعي على الفور لجمع القوى، والفصائل السياسية، في التجمع الوطني الديمقراطي.
لقد كانت لديه القناعة الكاملة بأن الأمل يكمن بجيل طليعي ثوري متماسك، جيل يتحدى اليأس ويحمل إرادة التغيير، لذلك كان أول من عمل مع أبناء جيله لنقل الوعي بتجربتهم لتنير للجيل الشاب حقائق المرحلة التي عاصروها كما أكد على ضرورة التواصل مع الجيل الجديد إنطلاقاً من كون الإنسان الثوري، لا تنطبق عليه هذه التسمية إلا إذا كان في تواصل ذاتي مع نفسه، وفي تواصل مع الأجيال التالية.
وفي البحث عن المشكلة التي أودت بكل الجهود المبذولة، فهل كانت المشكلة تكمن في الانتهازيين والمتسلقين، أم في القيادات التي كانت دون مستوى مهماتها، بحيث لم تستطع بلورة ذلك النضج الثوري للجماهير، في حركة ثورية قائدة. لماذا لم يثمر ذلك الجهد النضالي الهائل الذي قامت به قامات شامخة في وضع الأمة على سكة التطور، والحرية، والكرامة.
فلقد كانت الثورة في فكر الدكتور جمال الأتاسي، هي الطريق الوحيد إلى تحرير الإنسان، وأن العمل الثوري الدائم هو السبيل إلى أن يتجاوز الإنسان وضعه وإلى أن ينتقل من العبودية والضياع إلى الوجود الحر الكريم. ففي نهاية القرن الماضي، بدأ يرى بأن هنالك بوادر وعي ثوري جديد في العديد من المجتمعات الشعبية العربية، ووجد تعبيراتها في مواقف طلائعها السياسية، وهذا ما يعكس نظرة ثاقبة، وصائبة، لدور الطلائع الشابة في المرحلة القادمة من التغيير. هذه الطلائع الشابة التي تمثلت الثورة كما تعلمتها، امتلاكاً معنوياً، وقد صبغوها، في فترتها الأولى، بألوان أحلامهم كما بألوان دمائهم.
وإن كان الفعل الثوري للشباب تركّز على تنظيم المظاهرات وأشكال الاحتجاج الممكنة، وإيصال الصوت إلى الخارج عبر وسائل الإعلام والإنترنت، بما فيه كشف جرائم النظام بحق المحتجين وأوساطهم الاجتماعية. إلا أن ذلك افتقر إلى إمكانية تحويل هذه الطاقة الثورية إلى قوة سياسية تجابه قوة النظام وتخترق تماسكه. وهنا كان دور القيادات السياسية والفعاليات التي نوه عليها الدكتور جمال الأتاسي في دور النخب والطلائع الثورية السياسية، الجهة التي يمكنها أن تحوّل الطاقة الثورية إلى قوة سياسية ويجب أن تحوز درجة معقولة من السيطرة على هذه الطاقة، وهو الأمر الذي غاب بشكل شبه تام عن الثورة السورية.
لقد أفضى عدم تكامل سلسلة الثورة السورية، إلى هدر طاقتها، وإلى تسرّب هذه الطاقة إلى طواحين قوى غير سورية. مع الوقت، وضعف المردود السياسي، وتحوّل شباب الثورة إلى لاجئين أو عسكريين يخدمون سلطاتٍ لا علاقة لها بالثورة. لقد واجهت مؤسسات المعارضة القديمة غالباً صعوبة في النزول من على غصنها العالي، لأن قيمتها، حين كان لها شيء من القيمة، جاءت أصلاً بسبب هذا العلو. الواقع الذي يعطي اليوم فرصةً لبروز مؤسّسات معارضة جديدة تستمد قيمتها هذه المرّة من “انخفاض” غصنها.
إننا وفي هذه الظروف الصعبة التي يمر بها شعبنا نتذكر أقوال الدكتور جمال الأتاسي، والتي ألزمنا بأنه في هكذا ظروف يتوجب على كل مواطن أن ينتبه إلى ما يجري حوله على امتداد الوطن. فنحن على نقطة من نقط التاريخ الحاسمة وليس أمامنا إلا أحد موقفين: أولهما أن تخدعنا ظواهر الأمور فنقف جامدين لا نتحرك، نؤثر الراحة على استمرار النضال ونفضل السكوت على المضي في الكفاح، أو تفلت منا حركة عصبية على غير هدى، ثم نفقد الاحساس بالزمان والمكان ويضيع منا الاتجاه الصحيح ثم يتبعثر بعد ذلك كل ما أحرزه النضال الشعبي لأمتنا.
إننا على قناعة بأن ما طرحه الدكتور جمال الأتاسي من فكر تنويري يحمل إمكانية بقائه ويمكن أن يكون مشروع المستقبل بامتياز. فبالرغم من كون الوطن مستغرق في كل ماهيات الهدر الانساني، والوجود البشري لمعظم مكونات الشعب السوري، هذا الحال الذي يلفنا جميعاً بهالات الألم والأمل، ويقض مضاجعنا، ونهاراتنا، بأخباره المفجعة، فوطن كانت لديه مثل هذه القامات الشامخة، شعبه عظيم يستحق أكثر من ذلك بكثير، ولابد من العمل لتحقيق ماسعت إليه وحلمت به تلك القامات الوطنية للأجيال القادمة، بحيث تعم راية الديمقراطية وحقوق الانسان وكرامة المواطن.