بات الانفتاح العربي على العراق ظاهرة تستوقف الالتفات إليها. وهي إيجابيةٌ على الرغم من ملاحظات وثغرات قد يُشار إليها هنا وهناك. والمقصود هنا هو الانفتاح الخليجي في المقام الأول؛ السعودي والقطري والكويتي على وجه التحديد؛ إلى جانب الانفتاح المصري والأردني على العراق الذي كان له دوره المؤثر على مرّ العصور في تحديد ملامح المنطقة على مختلف المستويات؛ لكنّه تحوّل بعد سقوط نظام صدّام حسين إلى ساحةٍ مفتوحةٍ أمام التمدّد الإيراني الذي وصل إلى المفاصل الأساسية في الدولة والمجتمع العراقيين. والعوامل التي أوصلت الوضع العراقي إلى ما هو عليه راهناً عديدة، منها: الأخطاء التي كانت إثر التدخل الأميركي القوي الذي أدى إلى إسقاط النظام عام 2003، وما ترتب على ذلك من انهيار للدولة العراقية بكلّ مؤسساتها؛ وعزوف السنّة عن المشاركة الفاعلة في العملية السياسية الناشئة التي انطلقت بعد 2003، وارتفاع منسوب التعصّب المذهبي نتيجة الجهود والسياسات الإيرانية التي اعتمدت بصورة أساسية على مليشيات الأحزاب التي كانت تتلقى الدعم والتوجيه من النظام الإيراني.
وبلغ التحكّم الإيراني ذروته مع تشكيل “الحشد الشعبي” خارج إطار الجيش وأنظمة الدولة في عهد رئاسة نوري المالكي للحكومة، بذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لتتحوّل تلك القوات لاحقاً إلى ذراع عسكرية إيرانية التوجيه، وبأموال وعناصر عراقية؛ الأمر الذي أحدث خلخلة كبرى في البنية المجتمعية العراقية التي كانت تعاني أصلاً من التفكّك والهواجس المتبادلة نتيجة السياسات القمعية التي مارسها نظام صدام حسين، بحق جميع المكونات العراقية، تحت شعارات قوموية كبرى، كانت وسيلةً للانقضاض على الداخل الوطني العراقي، للتحكّم فيه من موقع المستبد المتعطّش للسلطة المطلقة.
لقد استخدم النظام الإيراني العراق ساحةً لمشروعه التوسعي، عبر استغلال الورقة المذهبية لغايات سياسية، وتمكّن، مع الوقت، من إزاحة المرجعيات الشيعية الوطنية الأساسية وتهميشها، ليغدو هو مرجعية المليشيات المرتبطة به عضوياً. وقد استفاد قادة هذه المليشيات على الصعيد الشخصي من استقوائهم بالنظام الإيراني، وتجسّد ذلك في عمليات الفساد الكبرى التي حرمت العراقيين من ثروات بلدهم، وجعلتهم ضحايا البطالة والحاجة، وحرمتهم من أبسط الخدمات، مثل الماء النظيف، والكهرباء، والحدّ الأدنى المطلوب من الرعاية الصحية والتعليم المقبول.
ومع تراكم مفاعيل الفساد، تكشّفت العورات، وخرج العراقيون، خصوصاً في المحافظات الجنوبية حيث الهيمنة الإيرانية، في انتفاضة عارمة، مطالبين بالعدل ومحاسبة الفاسدين، الأمر الذي لن يتحقق من دون امتلاك العراقيين زمام أمور مجتمعهم ودولتهم.
هناك رغبة عراقية على أعلى المستويات في تطوير العلاقات مع الدول العربية، سيما الخليجية منها. والوجود العربي المؤثر في العراق يحقق نوعاً من التوازن المطلوب، ويمنح القوى العراقية الوطنية التي تعمل من أجل المشروع الوطني العراقي مزيداً من الدعم، والقدرة على التعامل مع الضغوط الإيرانية في الجنوب والوسط، والضغوط التركية في الشمال. وهناك توجّه جاد لدى المسؤولين العراقيين في القيادة السياسية الراهنة لإبعاد العراق عن الصراعات الإقليمية، وجعله جسراً للتواصل بين الجميع. وربما يؤثر هذا التوجه في موقف النظام الإيراني نفسه على المدى الطويل، بعد أن يقتنع بأنّ عقوداً من عقلية “تصدير الثورة”، والتدخل في شؤون دول الإقليم ومجتمعاته، لم تجلب إلى منطقتنا سوى الحروب والتدمير والتهجير، فإيران كانت، وستظل، قوة إقليمية مهمة في المنطقة، لكنّ عليها أن تقتنع بأنّها ليست القوة الوحيدة، ولا يمكنها أن تصبح كذلك؛ ومصلحة الشعب الإيراني توجب تحوّل إيران إلى قوة متعاونة، متفاعلة إيجابياً مع محيطها الإقليمي، لتتحوّل من ثم إلى جزء طبيعي فاعل من المجتمع الدولي.
وفي المقابل، نسمع دعوات تطلقها دول عربية للانفتاح على النظام السوري، وهي ترمي إلى تدويره، لا إلى مساعدة الشعب السوري الذي يعاني بأسره من استبداد هذا النظام، وما فعله بسورية والسوريين طوال عقود، خصوصاً منذ انطلاقة الثورة السورية في العام 2011. وما نراه في هذا السياق أنّ الوضع العراقي يختلف عن الوضع السوري، ومن الطبيعي أن تُعتمد لكلّ وضع الوصفة التي تناسبه، فالنظام في سورية أعلن الحرب على السوريين، ومارس، ويمارس، القتل والتدمير والتهجير ضدهم. وهناك مئات آلاف من المعتقلين والمغيبين ممن لا يُعرف عن مصيرهم شيء. ويعتمد هذا النظام على الدعم الإيراني ومليشيات حزب الله، والمليشيات المذهبية العراقية والباكستانية والأفغانية التابعة للنظام الإيراني، ليستمر؛ وكلّ هذا لا يقابله ما يماثله في الوضع العراقي.
يساهم الانفتاح العربي على العراق في تعزيز مواقع القوى التي تريد الخير للشعب العراقي؛ بينما الانفتاح نفسه على النظام السوري يساهم في ديمومة محنة السوريين ومعاناتهم جرّاء ممارسات هذا النظام الذي ما زال يصرّ على أنّ ما واجهه كان مؤامرة كونية لإسقاطه، وهو “النظام العلماني الحامي للأقليات”. هذا في حين أنّه على أرض الواقع متحالفٌ مع نظام ولي الفقيه في إيران، ومع مليشيات حزب الله المذهبية في لبنان.
وهو النظام نفسه الذي مارس الاستبداد في حق كلّ السوريين، بمن فيهم معارضوه من العلويين، وهو الذي استغلّ الطائفة العلوية في مشروعه التسلطي، بتحويلها إلى خزّان بشري لجيشه ومليشياته وأجهزته القمعية؛ هذا في حين أنّ النخب العلوية الحريصة على مستقبل شعبها ووطنها كانت، وما زالت، معارضةً لكلّ ما فعله، ويفعله، هذا النظام ضد السوريين عامة.
وقد أثبتت تجارب الانفتاح السابقة على هذا النظام، خصوصاً في عهد بشار الأسد، عدم جدواها، بل أدّت إلى نتائج عكسية. ونتذكّر جميعاً الجهود الكبيرة التي بذلتها السعودية، في عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز الذي حاول معالجة الوضع بعد جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، وأقنع سعد الحريري عام 2009 بقضاء ليلةٍ رهيبة مع بشار نفسه في محاولة لإقناع الأخير بعدم تسليم كامل أوراقه إلى النظام الإيراني، لكنّ تلك الجهود لم تسفر عن المرجوّ المطلوب، فالنظام السوري شموليّ مغلق، قد وضع لنفسه من الآليات والمحددات بموجب “دستوره وقوانينه” ما يمكّنه من الاستمرارية. وهو غير قابل للإصلاح. محوره رأس النظام، وأركانه عناصر الزمرة الحاكمة اللامرئية التي تتحكّم بمفاصل السلطة والاقتصاد. وفي سبيل المحافظة على ذاته بعد الثورة الشعبية العارمة التي شملت معظم شرائح الشعب السوري، ومن جميع المكونات، وفي غالبية المناطق السورية، وثّق هذا النظام العلاقات مع النظام الإيراني، حتى تمكّن الأخير من التغلغل في الدولة والمجتمع السوريين، خصوصاً الجيش والأجهزة الأمنية. كما تمكّن من فرض نفوذه وسطوته عبر المليشيات المذهبية التي أُدخلت إلى البلاد بناء على أوامر إيرانية؛ وما زالت تعمل وفق تعليماتٍ وأوامر تتلقاها من الإيرانيين. وليس سرّاً تباهي المسؤولين الإيرانيين ومسؤولي حزب الله، في مناسبات عدة، بفضلهم في الإبقاء على نظام بشار، وذلك في تنافسٍ ملحوظ مع الروس الذين من جانبهم، صرّحوا بما يشير إلى دورهم الحاسم في المحافظة على بقاء النظام عام 2015، والذي كان، وفق التسريبات، على وشك السقوط. واليوم يعاني هذا النظام من تآكل داخلي بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة، نتيجة الحرب التي أعلنها النظام على الشعب والبلاد، ونتيجة الفساد الشمولي الذي بات من معالم هذا النظام والمستفيدين منه.
لقد أصبح وجود النظام السوري عقبة كأداء أمام إمكانية ترميم النسيج المجتمعي الوطني السوري مقدمة لتوحيده على أسس سليمة. ويستمد هذا النظام أسباب وجوده واستمراريته من الاستقواء بالقوى غير السورية، ويبني استراتيجيته على إبعاد السوريين عن دائرة القرار، ويمنعهم من المشاركة في إدارة بلدهم، ويحول دون إسهامهم في بلورة معالم مصيرهم وسعيهم من أجل مستقبل أفضل لأجيالهم المقبلة. لذلك، نرى أنّ الانفتاح العربي المطلوب في سورية هو الذي يكون على الشعب لدعمه وتمكينه من الخلاص من نظامٍ كان، وما زال، السبب في محنة السوريين.
الوضع في العراق مختلف، فالنظام البرلماني الذي اعتمد هناك منذ إسقاط نظام صدام حسين، فتح الأبواب أمام العراقيين، على الرغم من كلّ المثالب وحالات الفساد الكبرى التي كانت، وما زالت، متفاقمة بين المسؤولين العراقيين، سيما بين المرتبطين عضوياً مع النظام الإيراني، لاختيار وجوه جديدة، سواء في البرلمان أم في الحكومة والرئاسة، وهيئات الدولة ومؤسساتها؛ وهذا ما يفتح الآفاق أمام تغييرات إيجابية تدريجية في حال توفر دعم معنوي، ومادي، وسياسي، للقوى والشخصيات الوطنية العراقية، الغيورة على شعبها وبلادها، وترغب في بناء عراق مستقل، والقادرة على طمأنه سائر مواطنيه من جميع المكونات، ومن دون أيّ استثناء.
وبناء على ما تقدّم، نرى أنّ الانفتاح العربي على العراق والاستثمار في مشاريع تنموية تركّز على البنية التحتية، ودعم قطاع الصحة والتعليم لصالح جميع العراقيين، سيعزّز مواقع القوى الوطنية العراقية التي لا تريد أن يكون وطنها ساحةً لمشاريع الآخرين، بل تعمل على أن يكون العراق ميداناً لتقاطع المصالح بين مجتمعات المنطقة ودولها. وهذا لن يتحقق من دون تعزيز الأمن والاستقرار في العراق، الأمر الذي يستوجب ضبط الميليشيات، وإخضاعها لسلطة الدولة. أما أن تدّعي تلك المليشيات بأنّها قانونية، وتمارس، في الوقت نفسه، التسلط على الدولة، وتزعزع استقرار المجتمع العراقي ومجتمعات المنطقة، فهذا هو الوضع الشاذ الذي لن ينهض العراق من دون القطع معه.
المصدر: العربي الجديد