تضارب خطط الاستثمار في ملف الأزمة السورية وتفاقم مشكلة التفاهم حول تحديد نسب التحاصص بين اللاعبين المؤثرين في المشهد والتحول اللافت في مواقف عواصم عربية حيال الأزمة وانفتاحها على تسويات “مشروطة” مع النظام، هي اليوم أبرز العقبات في طريق نجاح الثورة ودعم الثوار في الوصول إلى ما يريدونه في مشروع سوريا الجديدة.
يدعو وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لإنهاء حالة قانون قيصر “انظروا ماذا يحدث في سوريا نتيجة هذا القانون “. موسكو قلقة أن ينهار النظام تماما على كل الجبهات. يرد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن قائلا إن “الفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية على أيدي نظام الأسد أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية الرهيبة”. المفوض الأعلى لشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، يعلن بدوره “أن النظام وتصرفاته هما المسؤول الأول عن اندلاع الأزمة الإنسانية، وليس العقوبات”.
يحذر لافروف من مخاطر تفكيك الدولة السورية، في حال واصلت واشنطن سياسات تشجيع النزعات الانفصالية. بالمقابل أعلنت الإدارة الأميركية الجديدة عن رفضها الاعتراف بأية محاولة لإعادة انتخاب بشار الأسد وفرضه مجددا على الشعب السوري بقرار وخطة روسية. وضعية التمترس بين فريق الداعمين للنظام وتلميع صورته وإبرازه كلاعب لا يمكن الاستغناء عنه بقيادة روسية إيرانية، وبين فريق الرافضين والمعارضين لمواصلة الطريق مع نظام يتحمل مسؤولية تدمير بلاده وإلحاق الكارثة الإنسانية والاقتصادية والسياسية بها بإشراف واشنطن وعواصم أوروبية، واكبها في الأشهر الأخيرة انبعاث طرف ثالث من بين الركام عبر عن نفسه من خلال بيانات جامعة الدول العربية لطرح تسويات وحلول جديدة تعيده إلى المشهد السوري أكثر مما يكون هدفها إطالة عمر النظام.
بين أولويات موسكو في سوريا اليوم ترسيخ العقود العسكرية والتجارية البعيدة المدى الموقعة مع النظام والانتخابات الرئاسية واللجنة الدستورية والمعابر وإعادة الإعمار، وبين ما تتمسك به واشنطن من أوراق قانون قيصر ومحاسبة رموز النظام على أفعالهم والمرحلة الانتقالية والورقة الكردية. تحاول موسكو فرض ما تريده مستغلة تمددها العسكري والسياسي وعلاقاتها مع طهران وأنقرة. وواشنطن مدعومة من قبل العديد من العواصم الأوروبية وتل أبيب ترى أن التصدي لحلفاء أستانة في سوريا لا بد أن يكون له الأولوية لأن إضعاف الحلف الثلاثي هناك يعني إضعافه في ملفات إقليمية أخرى. فشل شركاء أستانة في تجاوز الكثير من الحواجز والعقبات للتقدم باتجاه تسوية ثلاثية ممكنة، عزز فرص اللاعب الأميركي لاسترداد ما فقده من ثقل ودور في الأعوام الثلاث الأخيرة للتأثير على الملف.
تستعجل روسيا لحصد ما زرعته في سوريا وليكون مقدمة لتمدد إقليمي أوسع في الشرق الأوسط وشرق المتوسط، وأميركا بايدن تقول إن الانسحاب وتسليم الملف لموسكو ليس بين خيارات اليوم وإن هزيمة الروس في سوريا ستعني تراجعهم في المنطقة والبلقان والقرم والقوقاز، وعواصم إقليمية ترصد عن قرب ما يجري أو تذكر بحصتها في أية تسوية محتملة. لكن اللافت كان بروز محور “المتضرر الثاني من الأزمة ” بعد الشعب السوري، والذي من حقه كما يقول أن يتدخل لطرح صيغة الحل وهو مجموعة من العواصم العربية التي تسعى لتسجيل اختراق أمام الطاولة السورية ومحاولة استرداد ما فقدته من ثقل إقليمي.
عدل العديد من العواصم الفاعلة من سياسته السورية بعدما تعقد المشهد واختلطت الحسابات. أوروبا تريد حماية نفسها من موجات لجوء جديدة بعدما وصل العدد إلى مليون سوري وافد تستضيف ألمانيا نحو الثلثين منهم. حاولت أوروبا مفاوضة تركيا قبل 5 أعوام لكنها اليوم تريد من واشنطن أن تتولى إدارة الملف نيابة عنها حيث توجد روسيا وتركيا وإيران في الجانب الآخر. أنقرة متمسكة برفض أي مشروع انفصالي على حدودها الجنوبية وتصر على ضمانات المنطقة الآمنة لإبعاد نفوذ قسد عن المنطقة وتسهيل عودة مئات الآلاف من السوريين إلى أراضيهم. طهران في وضعية “أب العريس” يده الأولى في جيبه والثانية على قلبه. لبنان والأردن والعراق ينتظرون الفرج. وإسرائيل تركز على حماية حدودها الشمالية وهمها مواجهة الخطر الإيراني أكثر من محاولة معرفة ما الذي سيحل بالنظام.
حقيقة أولى هي أن دعم المشروع العربي في سوريا قد تكون له الأولوية لكن بعد تبلور الرؤية الواضحة والمحددة حول معالم خارطة الحل السياسي التي يطرحها. حقيقة أخرى ليس سهلا تجاوزها وهي استحالة الجمع بين فشل المعارضة السورية في الوصول إلى ما تتبناه وتدافع عنه وبين إلزامها بأي حوار بضمانات عربية تكون على حساب القرارات الدولية والأممية ولا تضمن تثبيت معالم المرحلة الانتقالية بمشاركة وطنية شاملة تجمع رموز وشخصيات تمثل كل شرائح المجتمع السوري دون تحفظ أو استبعاد أو تهميش وفي إطار أسس غير قابلة للنقاش بينها وحدة سوريا وعروبتها وديمقراطيتها.
حقيقة ثالثة وهي أن رؤية سورية متكاملة وجامعة تناقش في مؤتمر وطني عام عملية الخلاص برعاية جامعة الدول العربية ودعم إقليمي لهذه المبادرة خطوة مهمة نظريا أو على الورق ربما. لكن الانطلاقة لا بد أن تبدأ مع تحول حقيقي في مواقف داعمي المشروع الانفصالي وتبني طرح المشروع الوطني الذي يضع جميع الأفراد أمام مساواة سياسية وقانونية واجتماعية بعيدا عن الرهان على المشروع الأميركي الأوروبي الهادف لخطة التقسيم في سوريا تحت ذريعة احترام حق تقرير المصير.
حقيقة أخرى بطابع إقليمي ودولي تقول إن تصاعد النبرات الغربية والأممية ضد النظام لتذكيره بما ينتظره سياسيا وحقوقيا وإنسانيا في المرحلة المقبلة هي للإعلان عن رفض بقائه في المشهد قبل أن تكون رسائل تحذير لروسيا وإيران ولبعض العواصم العربية التي تريد إنعاشه. من هنا فإن حوار المعارضة السورية في الداخل والخارج ينبغي أن يكون سريعا وشفافا وأن لا يتحول إلى عقبة أمام بناء سوريا الجديدة وعكس ذلك سيطيل عمر الأزمة ويعطي النظام المزيد من الفرص للبقاء أمام الطاولة مستفيدا من حالة التخبط والتشرذم السياسي والشعبي والانقسامات الإقليمية والدولية حوله.
إعلان واشنطن أنها بصدد مراجعة ما قد تفعله لتعزيز آفاق التسوية السياسية في سوريا. وتعهد 18 عاصمة أوروبية الالتزام بضمان عدم إفلات النظام من العقاب على أفعاله في العقد الأخير لا بد أن يواكبها موقف عربي واضح يعكس حقيقة أنه لا الأسباب التي أبعدت النظام عن الجامعة العربية تغيرت ولا أسباب ابتعاد الجامعة العربية عن سوريا تبدلت.
نماذج إقليمية ودولية كثيرة شهدها العالم وتشبه الحالة السورية. ينتفض الشعب ضد نظامه مطالبا بإصلاحات سياسية واجتماعية واحترام حقوق المواطن. يتحرك النظام عبر آلته العسكرية مدعوما من قوى خارجية لقمع الثورة. يتعقد المشهد وتخرج الأمور عن مسارها. سوريا دفعت الثمن الباهظ لكن شعبها تعلم الدرس في المنطقة وهو لن يمنح الجوائز لأطراف إقليمية ودولية تريد أن تخرج كرابح أول مما جرى حتى ولو كانت المفاوضات تجري فوق تلال الدمار.
رغم الكثير من التشاؤم بعد مرور عقد على الثورة لم تتغير قناعتنا. نحن أمام فرصة تحول جديدة في الملف السوري. المقاربة الأميركية الجديدة تجاه الوضع في سوريا ستكون مختلفة عن سابقتها وتفاعل تعقيدات المشهد ستدفع موسكو وغيرها من العواصم لتكون أكثر جدية باتجاه تقديم تنازلات إذا ما تأكد لها أن البعض يريد حقا البحث عن فرص تسوية في سوريا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا