بعد عشر سنوات.. سيناريوهات الحلّ في سورية في موازين كتّاب ومحلّلين سوريّين

غسان ناصر

المحتويات

حسام ميرو: الحامل السوري الديمقراطي

د. سمير التقي: في سيناريوهات الحلّ السوريّ

إبراهيم العلوش: سياسة تجفيف المستنقعات

عقاب يحيى: الخيارات البديلة

د. مضر الدبس: مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة

أسامة العاشور: الواقع والتوقّع

حسن النيفي: القضيّة السوريّة في ضوء المآلات الراهنة

غسان المفلح: لا حلّ في الأفق

مهند الكاطع: العمليّة السياسيّة لم تبدأ حتّى نعلن فشلها

بهنان يامين: سورية الثورة الى أين في نهاية عامها العاشر؟

فراس علاوي: السيناريو العراقي الأقرب إلى الحلّ في سورية

بعد اندلاع الثورة السوريّة -في آذار/ مارس 2011- التي طالبت برحيل بشار الأسد وأركان نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد، دفع أحرار سورية وحرائرها -على مدار السنوات العشر الماضية- أثمانًا باهظة على درب الجلجلة نحو الحرّيّة والديمقراطية وبناء دولة القانون المواطنة.

أثمانٌ وثّقتها (الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة الذي وثق مقتل 227413 مدنيًا بينهم 14506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري، وأكثر من 12 مليون يكابدون المشقات لتأمين قوتهم اليومي، وعيش أكثر من مليوني إنسان في فقر مدقع، وغير ذلك من المآسي والخسائر البشرية والاقتصادية ودمار نسبة كبيرة من العمران والبنيّة التحتيّة التي خلفها الإرهاب الأسدي – الروسي – الإيراني.

ومع تزايد التعقيدات في الملفّ السوريّ في ظلّ غياب الحلّ السياسي وتواصل الصراع العسكري على امتداد الجغرافيا السوريّة الممزّقة، وبعد أن صارت البلاد مسرحًا لموسكو لاستعراض القوّة طمعًا في استعادة دورها الدولي بوصفها قطبًا عالميًا، واستخدام الأرض السوريّة وما عليها حقل تجارب لتحسين أداء أسلحتها الفتاكة وجعلها معرضًا دائمًا لبيع أسلحتها الجديدة، فضلًا عن انسداد أفق الحلّ السياسي وتكاثر الدول المتدخلة في الشأن الداخلي السوريّ، إذ يقبع رأس النظام تحت الحماية الروسيّة والإيرانيّة، وتتبع المعارضة السوريّة، بل المعارضات لحكومات إقليميّة دوليّة، ما يؤكّد عجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد بلا وصاية خارجيّة، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستوريّة أي تقدّم ملموس على الأرض، وإبقاء القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقاليّة في سورية (صدر عن مجلس الأمن الدولي في 2015)، مجمّدًا بفعل التدخلات الخارجيّة، والتلاعب الأسدي الروسي في المحافل الدوليّة، وكذلك انتشار أنباء عن تشكيل (مجلس عسكري انتقالي) مشترك بين النظام والمعارضة بوصفه حلًا بديلًا، وأمام غياب خريطة طريق وبرنامج تنفيذي وآليّات واضحة، وضمانات دوليّة ملزمة للوصول إلى حلّ يقبل به الشعب السوري الثائر، تفشّت في صفوف السوريّين حالةً من اليأس الشعبي العامّ من إمكانية إصلاح النظام، والتخلّص من الاستبداد والفساد عن طريق التغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، مع هذا كله يفتح مركز حرمون للدراسات المعاصرة، مع دخول الثورة عامها الحادي عشر، ملفًا خاصًّا حول سيناريوهات الحلّ في سورية، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة التي يحضر لها الروس ورأس النظام في دمشق، فكان أن استضفنا نخبة من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين السوريّين المنتشرين في أصقاع الأرض بعد أن شتّتهم الإرهاب الأسدي المتحالف مع الاستبداد الديني، وذلك للوقوف على طروحاتهم ورؤاهم للحلّ الذي ينتظره السوريّون الذين ذاقوا مرارة الحرب ووحشيّة نظام البراميل وحلفائه، طلبًا للخلاص من آل الأسد، ونيل الحرّيّة والكرامة، ونقل بلدهم من بلد يحكمه الاستبداد إلى بلد ديمقراطي تعدّدي.

 

حسام ميرو: الحامل السوري الديمقراطي

في ضوء معطيات مركّبة ومعقّدة مثل أوضاع الوطن السوريّ، يبدو سؤال الحلّ الإستراتيجي للأزمة السوريّة سؤالًا إشكاليًا من جميع جوانبه، وإذا كان مفهومًا من الصيغة العامّة للسؤال أنّ المقصود هو الحلّ السياسي لهذه الأزمة، إلّا أنّ مفهوم الحلّ السياسي في الحالة السوريّة يحتاج إلى تفكيك، فنحن بداية لسنا أمام أزمة فشل حكومة محددة، أو فشل ائتلاف حاكم، كما في الدول الديمقراطيّة، بل أمام أزمة وجودية عصفت بالكيان السوريّ نفسه، وهي تطرح منذ سنوات أسئلة كثيرة حول مستقبل هذا الكيان كما عرفه السوريّون بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي في 1946.

منذ صدور بيان (جنيف1) في 30 حزيران/ يونيو 2012، ذهبت المسألة السوريّة (من المفيد لنا في إطار البحث عن حلّ إستراتيجي التمسّك بمفهوم المسألة السوريّة) نحو التدويل، خصوصًا مع التفسيرين المتضاربين لنصّ البيان من جهة واشنطن وموسكو، وهو الأمر الذي سيترك تداعياته على مجمل مسار التدخل الخارجي في المسألة الوطنيّة، بكونها صراعًا لم يعد محليًا خالصًا، بل إقليميًا ودوليًا.

البحث عن حلّ سياسي مرّ بمراحل عدة، لكنّها بالمجمل اختزلت، بشكلٍ أو بآخر، في مسألة السلطة، في الوقت الذي كان فيه الواقع السوريّ يتحرك بسيولة كبيرة، ويطرح مسائله الكثيرة، ونحن اليوم، بعد عقد كامل من الحدث السوريّ التاريخي نجد أنفسنا أمام أسئلة تتعلق بالدولة، ونظام الحكم، والهويّة الوطنيّة، ودور الجيش والأمن، ومنزلة الجماعات والأفراد في الدستور، إضافة إلى كلّ هذه الأسئلة، ثمّة واقع يتضمّن ملفّات وطنيّة وإنسانيّة واقتصاديّة، لا يمكن القفز من فوقها، فأي حلّ سياسي مقبل لن يكون ناجعًا ومستدامًا من دون أخذ الأسئلة والملفّات الرئيسية الكبرى بالحسبان.

على سبيل المثال: كيف يمكن لنا أن نتصوّر حلًّا سياسيًّا لا يأخذ بالحسبان واقع النقد السوريّ، وعدم وجود احتياطات نقدية، وحالة التضخم الاقتصادي والمالي الناجمة عن عقد كامل من الصراع؟

ملفّ اللاجئين والنازحين من الملفّات التي تحتاج إلى تصوّر إستراتيجي متكامل، إذ لا يمكن تصوّر أي حلّ سياسي لا يفتح الباب أمام عودة اللاجئين والنازحين، وتكلفة هذا الملفّ، من النواحي القانونية والمالية واللوجستية، تحتاج إلى تمويلات دوليّة كبيرة، وضمانات من جميع الأطراف، وليس واضحًا بعد إذا كان بالإمكان، ضمن أي حلّ، ومهما كان نوعه، أن تُؤَمَّن تلك التمويلات.

بالنظر إلى تجارب كثيرة، فإنّ الحلول السياسيّة في حال توافرها قد لا تكون حلولًا تقدّميّة، بمعنى أنّها قد تكون مقدّمة لتثبيت وقائع التشظي الجغرافي والديموغرافي، بكلّ حمولاته ما دون الوطنيّة، وتلك الحلول هي من قبيل (سلام ما بعده سلام) على الطريقتين اللبنانية والعراقية، لكن مفهوم الحلّ الإستراتيجي ينبغي أن يقوم على تأمين تنمية مستدامة لجميع مقوّمات المجتمع والدولة، والمقصود الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة.

إنّ فشل المسارات السياسيّة والعسكريّة من آستانا وسوتشي واللجنة الدستوريّة، وعمل روسيا على إعادة تعويم النظام، كلّها تؤكّد أنّنا ما زلنا بعيدين عن إنتاج حلّ سياسي إستراتيجي، فحلول كهذه لا بدّ لها من حوامل موضوعية وذاتية. فمن الجانب الموضوعي، ما تزال القوى الإقليميّة والدوليّة المنخرطة في الصراع السوريّ -وعلى الرغم من وجود القرار الأممي 2234- بعيدة عن التوصل إلى تفاهمات حول الحلّ السياسي، فأجندة هذه الدول، بما فيها الدول الضامنة الثلاث، روسيا، وتركيا، وإيران، غير متطابقة، بل متناقضة إلى حدٍّ بعيد.

الحوامل السوريّة في اللحظة الراهنة ضعيفة، فـ(المعارضة السوريّة) بصيغتها الرسميّة، أصبحت تعبيرات عن إرادات الدول الداعمة لها، من حيث الشرعيّة والوجود، وبالعودة إلى ظروف تشكيلها والقوى المنضوية فيها وتمويلها وممارساتها، فهي أقلّ من ناحية الممكنات الموضوعية من أن تكون فاعلة في إنتاج حلّ سياسي إستراتيجي، أمّا المعارضات الديمقراطيّة، من أحزاب وتيارات وحتى تكتلات، فهي في أوضاع لا تسمح لها، أن تكون مؤثّرة في إنتاج حلّ من هذا النوع.

الأمل في إنضاج حلّ سياسي إستراتيجي يتوقف، بشكلٍ من الأشكال، على إنضاج حامل سوريّ ديمقراطي، وهو ما يتطلب من هذه القوى إعادة بناء نفسها من كلّ النواحي للعمل وفق برامج إستراتيجيّة، ليس من أجل خوض انتخابات أو الدخول في مؤسّسات تفاوضية، بل من أجل بناء تيار ديمقراطي شعبي، يستعيد في أثناء عمله وحركته أهمّية الحامل السوريّ الوطني في إنتاج الحلّ السياسي، بوصفه عملية انتقال من الجمهورية الثانية التي انتهت في 2011 إلى الجمهورية الثالثة التي طال انتظارها.

 

د. سمير التقي: في سيناريوهات الحلّ السوريّ

في بضع مئات من الكلمات، أنت تكتب كلامًا عموميًا يختزل الحقيقة بالضرورة، ويصبح الكلام أحيانًا فجًا وفاحشًا.

طالما كانت سورية الجغرافيا جسرًا، أفقر من أن تحتل وأهمّ من أن تترك لشأنها في إقليم يتداعى بحدِّ ذاته. بل غالبًا ما كانت تابعة، لا خاضعة، لحضارات غنية.

حين كانت تضعف بلاد الشام كانت تنقسم بين غساسنة ومناذرة، وحين تقوى تحاول أن تكون عاصمة للعواصم، وكان أهل الشام كقوم سياسي من طراز فريد، يجترحون نهضة تعيد بناء ثقافة الإقليم وسياسته، بل العالم. فكانت الديانات وكانت الحركات القومية. بذلك أصبحت بلادنا أس الأيديولوجيا.

سورية، في أصل تكونها الجغرافي – الاقتصادي، هي وحدة واحدة بطبيعتها. لكن لكونها جسر عبور، قسمها أقوامها بحسب العصبيات.

الأصل في الدولة أن تكون أمة لذاتها، وبالفعل نشأت على هذه الجغرافيا السوريّة بعد الاستقلال محاولة لتشكيل دولة/ أمة سوريّة من بشر طامحين في الحياة المشتركة. وبدل بناء سورية الدولة/ الأمة الناشئة، سرعان ما قفز الطامحون لتحميل مشروعنا الوطني عبء العالم بأسره. وكما في كلّ مرّة، تتجاوز سورية ذاتها لتحمل أحمال الإقليم كله، كانت سورية تنكسر. فما بين حلم (وحدة العرب) من الخليج إلى المحيط وإحياء (خلافة المسلمين)، وتحرير (المغتصبات)، تفكّكت سورية وتذرت.

في التاريخ؛ نادرًا ما استتب نظام عالمي. والنظام الراهن مؤقت وطارئ يتداعى ويعاد تشكيله بعد سبعين عامًا، وتتداعى معه كلّ الحقوق. حيث صارت سورية ثقبًا أسود يشكّل أضعف حلقاته. انهارت مقوّمات اتّفاقات (يالطا)، وقبلها (فرساي) و(سايكس – بيكو) و(سيفر). في حين ما تزال المسألة الشرقية الناجمة عن الانهيار المحتوم للإمبراطورية العثمانية حيّة، وانهارت معها أربع إمبراطوريات أخرى بعد الحرب العالميّة الأولى.

السوريّون من جهتهم يناشدون ويطالبون ويدينون ولا من مجيب في نظام عالمي منكفئ، تتراجع فيه كلّ الحقوق. على جانب آخر وفي غفلة من السوريّين، جرى في سوتشي إقرار جملة مبادئ لـ(سايكس – بيكو) الجديد يتضمّن تقسيم سورية. أشعر برغبة جامحة في أن أهز السوريّين فردًا فردًا بغض النظر عن ولاءاتهم لأقول: إنّ (سايكس – بيكو) الجديد قد طبق، ولسذاجة كثيرين ما يزالون يشترون وعود وحدة الأراضي السوريّة. ليس تقسيم سورية محتمًا، وبالمقابل لن يأتي يوم يتدخل فيه أحد في هذا الكون لتوحيدنا. ولا أحد يهتم. وفي أحسن الأحوال قد يقررون تفويض عسكري أو رجل دين ليجمعنا على الاستبداد. أهمّ ما في الأمر أنّه في إطار صراع البقاء لم يعد لدى كثير من السوريّين سوى تأجير بنادقهم للمحتلّين، فيصفق (وطن)” سوريّ لطائرات تقصف هنا ويشجب الطائرات ذاتها حين تقصف هناك.

لأجل كلّ ذلك أقول: إذا استبعدنا حربًا إقليميّة تعاقب الأشرار وتنصر الأخيار، وإن استبعدنا انسحاب المستعمِرين المختلفين، وإذا فهمنا انهيار منظومة الحقوق؛ ندرك أنّه غالبًا ما تذهب الحقوق حتّى لو بقي المطالبون، أقول ليس لنا خيار إلّا المصالحة، أمّا الإيمانات بالحتميات التاريخية ونظريات المؤامرة فمثواها الجنة وليس في سورية الآن. من دروس التاريخ ندرك أنّ ستالين انتصر في الحرب وخسر كلّ روسيا في السلام، وكان العكس في ألمانيا واليابان. وإذ تنتهي الحروب الأهلية بجلوس الملوثة أيديهم لإنتاج حلّ ما، يحسمه عاملان: ميزان القوى، وأفق استدامة الحلّ. انتصر النظام عسكريًّا ثلاثة أرباع انتصار، وهزمت المعارضة عسكريًّا ثلاثة أرباع هزيمة. لكن أيًا منها لم ينتصر ولا ربع انتصار في الحوكمة واستدامة السلام.أمّا عن الديمقراطيّة فلقد وعاها العالم منذ ألفي عام، وعلى الرغم من التبشير بها لم تبدأ في التحقق إلّا حين صارت ضرورية للتطور البشري. وهي لم تصبح كذلك إلّا في نموذج الدولة الليبرالي حيث أقلّ ما يمكن من الدولة وأكثر ما يمكن من الحرّيّة. أمّا مشكلة الهويّات العرقية – الطائفية، فلقد حلّها التاريخ إمّا بالاستبداد والدم، أو بالديمقراطيّة. السلم الأهلي لا يتحقّق من دون اعتراف ومشاركة طوعية تامّة للهويّات. لا حلّ مع الديمقراطيّة إلّا بالوحدة الطوعية وأي قسر أو قمع للهويّات يعني عودة الاستبداد بأسوأ أشكاله.

في هذه الظروف، وبغض النظر عن مظالمها، الأكثرية هي صاحبة المصلحة يجب أن تضحي من أجل الحفاظ وحدة البلاد. ليس ثمّة حلّ سياسي دولي في سورية. لا أحد يهتم بعد أن أصبحنا مصرفًا لكلّ نتن الصراعات الإقليميّة. أمّا بشار الأسد فلقد صار غير ذي أهمية، لو غاب لن تتوقف الحرب وإن بقي فهو غير قادر على شيء، ولكلّ هذه الأسباب أرى سيناريوهات الحلّ في سورية احتمالًا بين ثلاث: أولها، سيناريو أن تستمر الأمور على عواهنها. ويستقر مزيد من عفن أمراء الحرب. والسيناريو الثاني أن تحتاج إحدى دول الإقليم (بما في ذلك روسيا) إلى إغلاق الجرح السوريّ، فتجلب بسطارًا ما لإدارة حلقة جديدة من عذابات الحرب الأهلية وخرابها لتنفجر في كلّ حين. وأمّا الثالث، فهو المصالحة. الثورات، نمط خاصّ من الحروب الأهلية يفترض فيها أصلًا الانتصار الصفري، فإن لم يتحقّق تصبح المصالحة في الحرب الأهلية توافقية بين العسكر الملطخة أيديهم بالدم. لم يقدم التاريخ أي مخرج آخر. بل إنّ من الوهم أن نتصوّر أن تقوم أي قوّة إقليميّة بتسهيل المصالحة. كلّهم سعداء بخمود النار واستمرار الخراب في حين غاب صوت السوريّين.

في ظلّ الطموح الديمقراطي، لن تحدث المصالحة إلّا طوعيًا ضمن شروط بين كلّ المكوّنات الإثنو- طائفية للشعب السوريّ وخارج منطق الحرب الأهلية ومنطق الفوز والخسارة. أمّا الحلول فلن تكون عادلة، ومنصفة، بل تستند إلى ضرورة طمأنة الجميع في ظلّ شرخ عميق.

المصالحة مجتمعية طوعية أولًا بين مكوّنات كلّ الشعب السوريّ على أساس الاعتراف المتبادل بالمصالح وإدراك صعوبة بناء الثقة على مدى عقود. الحديث عن الدستور وسوى ذلك محض مضغ للهواء، بل إنّ جل ما يمكن إنجازه الآن هو وثيقة ما فوق دستوريّة بمنزلة عقد اجتماعي يصوغها المتحاربون. وإلّا فالخراب.

 

إبراهيم العلوش: سياسة تجفيف المستنقعات

كلّ الحروب الداخليّة في المنطقة جرى امتصاصها بسياسة التجفيف طويل الأمد مثل لبنان والعراق والسودان. وسورية لن تكون استثناءً، ودورنا نحن السوريّين، خلال مسيرة التجفيف هذه، هو الذي سيحدّد ما نكسبه من نقاط وحلول خلال المرحلة القادمة.

من الواضح أنّ الجهات الدوليّة تجفف المستنقع السوريّ، وهي تنتزع انتصارات النظام العسكريّة بتطبيق قانون (قيصر)، وتُفاجئ الشبيحة وهم ينزلون من دباباتهم ليجدوا أنفسهم وقد كسبوا بلدًا جائعًا ومدمّرًا ومحاصرًا بعد انهيار البنية التحتية وهرب الكفاءات، إضافة إلى انتزاع القوى الأخرى سيادة القرار من نظام الأسد، فالروس والإيرانيون والأميركيون والأتراك يهيمنون على قرارات إدارة البلاد، ولم يعد أمام المنتصرين من شبيحة الأسد إلّا أنّ يختاروا بين التبعية للروس أو للإيرانيين، وهم المحتلّون الذين اختارهم الأسد في مقابل المحتلّين الآخرين.

تعيد الجهات الأوروبيّة تأهيل إدلب وتعمل على انتزاع مخالب التنظيمات المتطرّفة وأنيابها هناك، ويدير الأميركيون الجزيرة والفرات بتفويض للقوّات الكرديّة التي تتصدّر المشهد، بينما تدير تركيا المناطق التي تقع تحت سيطرتها من اعزاز حتّى رأس العين، وروسيا تركض لاهثة من درعا إلى الحسكة من أجل الإمساك بملفّات تمكّنها من إعادة تأهيل نفسها بديلًا من إيران.

لقد انتهت الحرب كما صرح النظام ورجالاته وعادت السياسة إلى احتلال الاهتمام الأكبر في الملفّ السوريّ، وانحسر دور الميليشيات الطائفية التي ساعدت النظام في أعمال التدمير والتخريب وبدأت تنخر جسد النظام نفسه، وحان دور السياسة واللعب الدولي، فهل تستطيع الجبهة الوطنيّة التقدّميّة احتلال مكانها في القرارات الداخليّة؟ وهل يستطيع حزب البعث إعادة نفسه إلى الحياة السياسيّة بعدما كان صامتًا أمام أعمال التخريب والتعذيب والتهجير الطائفي؟ وهل البنية السياسيّة والثقافية للنظام قادرة على القيام بدور الدفاع السياسي عن النظام بعدما أصبحت كسيحة في مقابل الشبيحة، وفي مقابل الاحتلال الإيراني وميلشياته الطائفية، وفي مقابل الهيمنة المتعاظمة لمستعمرة (حميميم) على القرارات السوريّة؟

استيقظت النخب المساندة لنظام الأسد عارية وغير قادرة على فعل شيء، ولم تعد قادرة على إصدار مواقف مقنعة للناس الجائعين ولا لأهالي المعتقلين ولا لضحايا الحرب وأيتامها، وليست قادرة على تبرير الصلاحيات المطلقة للإيرانيين والروس، فقد باع العسكر والمخابرات البلاد بأبخس الأثمان.

من هنا، تكون أهمّية دور السوريّين في الحلول القادمة، فمليون سوريّ في أوروبا وملايين أخرى في تركيا وفي لبنان يجب أن تتحرك اليوم مدافعة عن نفسها وتستطيع أن تتظاهر أمام السفارات الروسيّة والإيرانيّة وأن تطالب بالمعتقلين وتطالب بمحاكمة المجرمين من نظام الأسد، وما محاكمة (كوبلنز) الألمانية إلّا خطوة أولى ضمن خطوات كثيرة واعدة ضدّ نظام الأسد الذي يحرص السوريّون جميعًا على عدم إفلات مسؤوليه من العقاب.

البدائل المطروحة لنا نحن السوريّين للحلّ هي الاستفادة من الزمن المخصّص للتجفيف، والاستفادة من الضغوطات الدوليّة بمضاعفتها عبر صنع رأي عامّ ضاغط على المحتلّين، يطيل تخبطهم، ويجعل إعادة تأهيل نظام الأسد شبه مستحيلة، وإن حصل فيجب أن نجعلهم يدفعون ثمنًا غاليًا مقابله، بجعل المطالبات السوريّة تتدفق بشكلٍ دائم عبر التظاهرات والميديا والمؤتمرات واللجوء إلى المنظمات الإنسانيّة العالميّة التي لها باع طويل في مساعدة السوريّين على توثيق جرائم النظام.

نستطيع الانتصار على النظام بالجهد الإنساني والسياسي في مرحلة التجفيف المقبلة بسبب ضعف مكوّناته السياسيّة، ونستطيع تقليل عدد الناجين من العقاب ضمن صفوف نخبة الأسد، ونستطيع إحباط المناورات التي يتلاعب بها، مثل محاولة النظام الفاشلة في ترشيح أسماء الأسد بدلًا من بشار متّخذًا من سياسة بوتين في تبادل الرئاسة مع رئيس وزرائه، مثالًا يحتذى في التلاعب بالناس وبالقوانين التي مارسها في روسيا. لقد فاز أمراء الحرب في لبنان وكرّس انتصارهم استيلاءهم على اتّفاق الطائف، وها هم يقودون بلدهم اليوم إلى حرب أهلية جديدة، ويجب ألّا نسمح بفوز أمراء الحرب في سورية بالاستيلاء على مباحثات جنيف أو غيرها، على الأقلّ كي لا يقودوا الأجيال القادمة إلى حروب أهلية ستطال الجميع.

 

عقاب يحيى: الخيارات البديلة

نحن على أبواب الذكرى العاشرة للثورة وما تزال الأزمة السوريّة موصدة الطرق في وجه أي حلّ يحقّق الحدّ الأدنى لطموحات الشعب السوريّ ومطالبه بعد أن قدّم التضحيات الغالية ثمنًا للحرّيّة وإقامة نظام تعدّدي، مدني، ديمقراطي بديل لنظام الاستبداد والفئوية والفساد.

ـ الأسباب كثيرة يتداخل فيها الذاتي بالعامّ. الداخلي بالخارجي، ويظهر الدور الخارجي ثقيل الوطأة وكبير الأثر إن كان عبر تدويل (المسالة السوريّة)، أو من خلال الاحتلالات الأجنبية، أو عدم وجود اتّفاق، أو قرار دولي يلزم النظام بالانصياع لقرارات الشرعيّة الدوليّة، وبخاصّة دور الولايات المتّحدة الأميركيّة وقرارها الذي ما يزال بعيدًا عن الحسم، أو الاقتناع بوجوب إنهاء النزيف السوريّ بإيجاد حلّ سياسي يستجيب لإرادة معظم السوريّين من جهة ولمجموعة القرارات المتّخذة في الهيئة الدوليّة بدءًا من بيان (جنيف 1) ووقوفًا عند القرار الأممي 2254.

الأسباب المتداخلة كثيرة سنحاول إيجازها بما يأتي:

1-عند انطلاق ثورات الربيع العربي جاءت التدخلات الخارجيّة عاملًا حاسمًا في إنهاء عدد من الأنظمة الاستبدادية، وكانت الحالة الليبية نموذجًا صارخًا لها، دفعت السوريّين إلى الرهان على مثلها، وتجلّى ذلك في خطوات المجلس الوطني ورهاناته، ما كان له كثير التداعيات، وأهمّها وضع ذلك الرهان بديلًا من الحاضنة الشعبيّة وبناء علاقات طبيعية معها وللعامل الذاتي، فكانت الفجوة التي اتّسعت مع انتشار العَسكرة، وتحوّلاتها السريعة التي أنتجت ظواهر سلبية منها التهميش السياسي، والإسلامويّة المتنوّعة وعلى رأسها بروز تنظيمات متشدّدة كـ(القاعدة) و(داعش) وتلوينات مختلفة دخلت على الخط وفتحت الأبواب واسعة لشتّى التدخلات الإقليميّة والخارجيّة التي كان من أهمّ نتائجها: سحب الملفّ السوريّ من أيدي أصحابه ووضعه في يد القوى المموّلة والفاعلة، ومنع توحيد تلك الفصائل التي انتشرت كالفطر وإتباعها للقيادة السياسيّة، وإنشاء ما يعرف بغرفتي (الموك) و(المول) اللتان تحكّمتا في القرار والدور.

2-الجميع يعرف طبيعة النظام الأقلوية، العنفية، واعتماده نهج الحلّ الأمني-العسكري، وهو ما مارسه منذ الأيام الأولى للثورة حينما كانت سلمية، وبما يعني أنّه لن يقبل بأي حلّ سياسي ولو كان خطوات صغيرة ويراه بداية النهاية له، وأنّه لن يوافق على القرارات الدوليّة إلّا مجبورًا ومنصاعًا وهو الأمر الذي لم يحدث.

3-على العكس من ذلك، حين كانت فصائل الجيش السوريّ الحرّ تسيطر على أكثر من 70% من الأرض السوريّة، وحين كان النظام على شفير هاوية الانهيار في نهاية 2012 و2013 كان التدخل الإيراني حاسمًا لمنع السقوط، ثمّ الاحتلال الروسي الذي لا بدّ أنّه جاء بضوء أخضر أميركي وغيّر موازين القوى بشكلٍ ساحق على الأرض لمصلحة النظام، وفرض وقائع ما يعرف بمناطق خفض التصعيد التي التهمها وأعاد معظمها إلى النظام وفرض ما يعرف بالمصالحات وإنهاء وجود عدد من الفصائل المسلحة.

4-بعد تلك التطورات توضّح الموقف الدولي المعلن بأنّ الحلّ العسكري ممنوع، وأنّ صيغة (لا غالب ولا مغلوب) هي المتّفق عليها، وأنّه لا سبيل سوى الحلّ السياسي.

-لقد وافق الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وبعد تباينات كبيرة داخله، على الدخول في مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتّحدة وظهر جلّيًا رفض النظام لأي استجابة، وتطبيق ما أعلنه وزير خارجيته بإغراق المعارضة بالتفاصيل، واستهلاك الوقت من دون تحقيق أي خطوة إيجابية.

-من جهة أخرى حدثت دحرجات متتالية على صعيد القرارات الدوليّة ومضمون بيان (جنيف 1). فقد مورست ضغوط متعدّدة تحت شعار (توسيع تمثيل المعارضة) لمنع بقاء الائتلاف الطرف الرئيس في المعارضة لتمسّكه الشديد بثوابت الثورة، فكان مؤتمر (رياض 1)، ثمّ (رياض 2) الذي أدخل منصّات عدة كالقاهرة وموسكو، وأضعف تمثيل الائتلاف، وكان الأهمّ من ذلك تلك الزحزحة لجوهر بيان (جنيف 1) القاضي بتشكيل هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وتحديد مرحلة العمليّة الانتقاليّة التي تكون فيها القضايا الدستوريّة والانتخابات ترجمة ونتيجة لها لا مقدّمة.

-المبعوث الدولي الخاصّ إلى سورية السابق، ستيفان ديمستورا، ولتحريك وضع المفاوضات، وربّما لاستمراره في مهمّته خرج بما يعرف بالسلال الأربع، ثمّ اختصرت بسلّة واحدة هي اللجنة الدستوريّة ببصمة روسيّة واضحة، بينما غاب الأهمّ الخاصّ المتعلّق بهيئة الحكم الانتقالي والاستعاضة عنها بتصريحات غير رسميّة، أو غير معتمدة عن (البيئة الآمنة).

-المفاوضات في اللجنة الدستوريّة، وبعد عام من المماحكات والصراعات لتشكيلها -وهي للمناسبة من مخرجات (مؤتمر سوتشي)- استمرّت أربع جولات كانت نتيجتها عبثية تدور في الفراغ واستهلاك الوقت نتيجة مواقف النظام الرافضة لأي تجاوب مع جدول الأعمال، والدخول في صلب الموضوع. ما يطرح سؤالًا مهمًّا عن الجدوى ومبرر الاستمرار، وأقلّه طرح نقاط كشروط لأي جولة قادمة.

الخيارات البديلة، أو المساندة:

الأساس في أي مفاوضات هو ميزان القوى لدى كلّ طرف لأنّه العامل الفاعل في النتائج.

-على صعيد ميزان القوى يبدو النظام راجحًا، نتيجة قراره الواحد ومؤسّساته المتعاضدة، والأهمّ من ذلك وجود حلفاء مساندين له بقوّة وعلى رأسهم روسيا، بينما حالة المعارضة خلاف ذلك إن كان لجهة وضعها غير الموحّد في الموقف والقرار، أو لموقعها على الأرض وما لديها من أوراق، أو لجهة تحالفاتها وعلاقاتها، وبعد الخسائر التي منيّت بها الفصائل العسكريّة بات وضعها أكثر ضعفًا، فضلًا عن افتقارها إلى تحالفات قوية، فعلاقاتها الخاصّة بالحكومة التركيّة قائمة على توافقات رئيسة، وبقية العلاقات، وبخاصّة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة وتأثيرها في بقية دول العالم المحسوبة على أنّها أصدقاء الشعب السوريّ فإنّها لا ترتقي إلى مستوى الدعم المطلوب، وما زالت لا تخرج عن إدارة هامشية للملفّ السوريّ بينما تولي اهتمامها الرئيس لقضايا عالميّة وإقليميّة أخرى في مقدّمها العلاقة مع إيران.

-إنّ الإشكال الرئيس عند المعارضة السوريّة لا يكمن فقط في تشتّتها واختلاف الرؤى والمواقف في ما بينها وحسب، بل في علاقاتها بالحاضنة الشعبيّة من جهة، وبالدول ذات الفاعليّة من جهة أخرى.

-إنّ الأساس والسبيل في تغيير هذا الوضع، وامتلاك أوراق فاعلة تكمن في بناء علاقات طبيعية مع الحاضنة الشعبيّة للثورة وجميع الفعاليّات والقوى السياسيّة وإقامة أوطد العلاقات الدائمة معها ضمن ما يعرف بـ(الاصطفاف الوطني) الذي يسعى إلى التوافقات العامّة ووضع الجهد في المنحى العامّ لمواجهة الأخطار والتحدّيات التي يعيشها الوطن، وتأمين مستلزمات الوصول إلى التغيير المنشود، وذلك من خلال مجموعة من الخطوات التي يجب أن يتضمّنها ويضمن تحقيقها برنامج عمل واقعي، وفي مقدّمها:

1-تجديد الخطاب الوطني باتّجاه التوجّه إلى كافّة أطياف الشعب السوريّ ومكوّناته بما يتجاوز الجهات المحسوبة على الثورة والمعارضة إلى تلك (الكتلة الرمادية)، وحتّى المحسوبة على النظام سوى من تلوثت أيديهم بدم الشعب، والاهتمام، أيضًا، بفئات شعبنا تحت سيطرة سلطات الأمر الواقع (قسد وهيئة تحرير الشام) والتوجّه إليها بخطاب المصالحة والتسامح والسلم الأهلي، والاهتمام بمعاناتها وأوضاعها المعيشية والحياتية، وصولًا إلى مساهمتها في بناء مستقبل بلادنا.

2-العمل لإقامة أوسع التحالفات مع القوى السياسيّة السوريّة المحسوبة على المعارضة، والفعاليّات الثوريّة لتجسيد التشاركية، وفتح المجال للحوار الوطني الأوسع الذي يهدف ليس إلى التوافقات حول القضايا الرئيسة وحسب، بل إلى عقد مؤتمر تشاوري وطني يناقش أوضاع الثورة والمخارج، ويعزز السلم الأهلي، ويعالج هيئات المعارضة، بما فيها -بل أساسها- الائتلاف الوطني.

3-الانتقال من حالة المعارضة إلى مفهوم الدولة خاصّة للمناطق المحرّرة بتكريس منظومة الحكم الرشيد، وتمكين الحكومة السوريّة المؤقتة من ممارسة دورها التنفيذي المأمول، وبناء الجيش الوطني المهني، وتعزيز دور المجالس المحليّة، والفعاليّات السياسيّة والشعبيّة.

4-تعزيز الشرعيّة والمشروعيّة عبر تلك العلاقات مع الحاضنة الشعبيّة، والعمل في الوقت نفسه على نزع شرعيّة النظام ورفض الانتخابات التي قد يجريها هذا العام، والعمل على منع إعادة تأهيله، والسعي إلى تقديم كلّ ما يلزم لتحويل رأس النظام وكبار رموزه إلى محكمة الجنايات الدوليّة.

5-إنّ أسبابًا عدة تدعو إلى الاستمرار في المفاوضات في جنيف، لكن يجب العمل على تغيير الشكل والمجرى عبر الإلحاح على وضع هيئة الحكم الانتقالي على جدول المفاوضات كبند رئيس، وتعيين مدّة زمنية لعمل اللجنة الدستوريّة ونهج المفاوضات وآلية التعامل.

6-العمل الحثيث لتغيير الموقف الدولي باتّجاه فرض الحلّ السياسي، وبخاصّة مع الطرف الأميركي، لاتّخاذ القرار الواضح بإلزام النظام بالانصياع للقرارات الدوليّة، وتطوير العلاقات مع الدول العربيّة، وبخاصّة تلك التي تقف مع ثورة الشعب السوريّ، ومع الحكومة التركيّة لما لها من حيثية خاصّة كدولة جوار، وكأكبر دولة تحتضن اللاجئين السوريّين، ودورها في المناطق المحرّرة.

7-وإذا كان أمر الحسم العسكري مبعدًا فإنّ دوره لن يلغى ويجب أن يكون حاضرًا بقوّة في ميزان القوّة وفي معركة التغيير ضمن إطار المقاومة متعدّدة الأشكال التي تأتي في مقدّمتها حركات الاحتجاج والتظاهر، وسياسات النظام بالتجويع والحرمان والقمع وملاحقة المعارضين، بكلّ الوسائل السلمية التي يبدعها الشعب السوريّ.

8-إنّ التفكير بإمكانية إجراء انتخابات برلمانية للسوريّين في المناطق المحرّرة وأماكن اللجوء أمر يجب بحثه ووضعه على سلم الاحتمالات بكلّ ما يقتضيه ذلك من تفاهمات بين السوريّين المعنيين، ومع الجهات الإقليميّة والدوليّة.

9-إنّ استعادة القرار الوطني وتغيير ميزان القوى لمصلحة الثورة هو تحصيل مدى الإنجاز في هذه النقاط التي طرحت، وقد أولى الائتلاف -وبخاصّة في دورته الحالية- الاهتمام الكبير لتجسيد البديل عبر وضع برنامج شامل يتناول الاستناد إلى الداخل السوريّ والوجود في المناطق المحرّرة وفتح عدد من المقرات، وإنجاز وثيقة تجديد الخطاب الوطني، وتشكيل لجنة خاصّة بالحوار الوطني قامت بجهد ولقاءات مستمرّة مع عدد مهم من الفعاليّات السوريّة، وإنجاز الرؤية السياسيّة، ووثيقة الحقوق والحرّيّات، والاهتمام بمنطقة الجزيرة والفرات عبر لجنة خاصّة، وكذا في لجنة الجنوب التي تضمّ كلًّا من محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، والإعداد لمؤتمر اللقاء التشاوري الوطني وتقديم ورقة المشروع الوطني في زمن منظور، والتقدّم خطوات مهمّة في إعداد وثائق الحوكمة الرشيدة والانتقال إلى المأسسة الدوليّة، وكذا المطالبة بتغيير نهج اللجنة الدستوريّة وطريقة عملها، والتركيز على بند هيئة الحكم الانتقالي واعتماد وضعها في رأس جدول عمل المفاوضات.

-إنّ السعي الحثيث لتغيير الموقف الأميركي باتّجاه وضع ثقل الإدارة الأميركيّة في الملفّ السوريّ يمثّل اليوم هدفًا مهمًّا يجب الوصول إليه مع الإدارة الجديدة التي لم تفصح -حتّى الآن- عن توجّهاتها التفصيلية في الشأن السوريّ، وتقوم ممثّلية الائتلاف إلى جانب المؤسّسات السوريّة واللجان الفاعلة بدور متواصل للتوصل إلى نتائج إيجابية للموقف الأميركي، وهو ما يتطلب أيضًا تكاتف جميع السوريّين المعنيين للضغط على مراكز التأثير والقرار في أميركا وصولًا إلى موقف فاعل سيكون له أثره في الدول الأوروبيّة وبقية دول العالم، من شأنه منع روسيا من السيطرة على الملفّ السوريّ والتفرد به، وإيقاف المدّ الإيراني والمشروع الخطر الذي يجري تطبيقه في بلادنا.

د. مضر الدبس: مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة

تعلمنا صيرورة الثورة وتحوّلاتها الابتعاد عن الوصفات الجاهزة وخرائط الطريق الناجزة حين التفكير في حلّ المشكلة السوريّة، وهذا بتقديرنا واحدٌ من أكثر دروس الثورة السياسيّة أهمّيةً؛ فهذا النوع من الصيرورات متعرّج ومتغيّر ومتحوّل، ولا يُقابل بالتنظير المسبق أو المقولب، ولا بالإسهاب في تحليل الأخبار، وفي النبوءة بالسيناريوهات، وتبادل التسجيلات الصوتية والمرئية في غرف التواصل الاجتماعي، ولا يقتصر العمل فيه على توقّع سلوك الدول والتحليل المسهب لجمل سفرائها ووزراء خارجياتها وكلماتهم، بل تقابل هذه الصيرورة التاريخية في تقديرنا بدءًا من التدريب على الشعور بالمسؤولية شعورًا عقلانيًا ووطنيًا، بمسؤولية الكلمة والفعل، الخطاب والسلوك، الكلام والصمت، إلى ما هنالك، وتقابل أيضًا بالفكر السياسي الذي يرتكز على الإبداع والابتكار.

إنّ منهجية الدوران في أفق المجتمع الدولي والإقليمي، والاستناد إليه في مقاربة المسألة السوريّة ومآلاتها المستقبليّة، منهجيةٌ أثبت فشلها مليون مرّة. وبطبيعة الحال هذا الكلام لا يقلل من أهمّية الوضع الدولي والإقليمي وتأثيره في المشهد السوريّ، ولكنّه بالضرورة كلامٌ يعلي من شأن ما تقلل هذه الطريقة عادةً من شأنه وأهمّيته ولا توليه أهمّيةً، وهو ما يمكن أن نسمّيه مشروع بناء مجتمع سياسي سوريّ حقيقي وصونه بأيادٍ سوريّة، بعد كلّ هذا الإخفاق والابتذال.

لا مجال للحديث عن إمكانية التفكير الإستراتيجي من دون بناء هذا المجتمع السياسي السوريّ، وبناء مؤسّسات متماسكة ومتناغمة تمثّله وتعمل بتفويضٍ منه، ولذلك يكون السؤال عن حلول إستراتيجيّة للمشكلة السوريّة هو نفسه السؤال عن آفاق بناء هذا المجتمع السياسي وإمكانيته، والجواب عن هذا الأخير هو في الوقت نفسه جوابٌ عن كلّ تساؤل يدور في فلك ما العمل؟ وما الحلّ؟

كثيرةٌ هي الأفكار التي يمكن للمرء أن يقولها اليوم في بناء مجتمع سياسي سوريّ، ولكن أكثرها أهمّيةً في هذه العجالة فكرة إطلاق حوار عمومي سوريّ يضم السوريّين كلّهم باستثناء الطغمة الحاكمة ومن تلطخت أيديهم بدماء السوريّين. وأن يتكوّن رأس مالٍ اجتماعي سوريّ ينتج من إعادة ثقة السوريّين في بعضهم وإعادة ثقتهم في قدرة السياسة على تغيير أحوالنا الخانقة وحلّ مشكلاتنا الكبيرة والمستعصية. يومها لن تكون أهمّيةٌ تذكر لمحاولات حلفاء الطغمة في إعادة إنتاجها، بل يومها يمكن بناء مقاربة قوية لعلاقات سورية الخارجيّة على أسس ومعايير جديدة مختلفة ترتكز على المصلحة الوطنيّة السوريّة وفنّ تحقيقها.

أميل إلى التوقف قليلًا عند سؤالكم عن مكان أميركا من كلّ ما يجري، ويبدو لنا في هذا السياق أنّ ملخص السياسة الأميركيّة (أوباما / ترامب) يمكن رؤيتها في مستويين: مستوى الصراع على سورية حيث تبنت رؤية تقوم على حماية الحلفاء واستنزاف الأعداء، وفي مستوى الصراع في سورية أظهرت دائمًا تردّدًا وارتباكًا ولم يكن إسقاط النظام أولويةً لديها. يعني يمكن أن نقول إنّ ما كان يعرف بـ(مبدأ أوباما) قد وسمّ السياسة الخارجيّة الأميركيّة في سورية بمجملها، وهو مبدأ انتشر منذ أن كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عضوًا في مجلس الشيوخ، إذ تبنى في آرائه حول السياسة الخارجيّة، ما بات يعرف بـ(مبدأ أوباما) الذي يميل إلى عدم توريط الولايات المتّحدة في معارك خارجيّة، وأنّ أميركا ليست مضطّرة إلى الدخول في حروب استنزاف جديدة في المناطق العربيّة والإسلاميّة، ويمكن التعامل مع التحدّيات كافّة من خلال دعم الحلفاء بالسلاح والتدريب. للمرء أن يلاحظ أنّ هذا المبدأ قد ألحق الخسارة بالمصالح القومية الخارجيّة الأميركيّة ذاتها أكثر ممّا حقّقه من فوائد، زاد التدخل السلبي الإيراني في المنطقة كلّها وتمدّدت قوتها ونفوذها وأدوات الضغط الإقليمي لديها وخصوصًا في العراق، وفي اليمن، وارتكبت جرائم في سورية، وأعمالًا تخريبية في البحرين، وتمدّد حزب الله وتمادى في تعطيل الدولة اللبنانية وتدخل عسكريًّا في سورية، ودخلت ليبيا في متاهة الفوضى، وعاد العسكر إلى حكم مصر بعد بوادر ولادة مشروع دولة ديمقراطيّة، اضطّربت الأوضاع في أوكرانيا ولم تعد المدن الغربية بمنأى عن الإرهاب، توسّع نفوذ التنظيمات الإسلاميّة الراديكالية وسيطرتها، وعُزز الدور الروسي في العالم، إلى آخر ما هنالك من تغيّرات يمكن تصنيفها في المجمل بأنّها خسارة للمصلحة القومية الأميركيّة في المنطقة. لذلك يمكن القول إنّ الأميركيين شركاؤنا في الخسارة والإخفاق هذا المرّة، والأوروبيين أيضًا. ومن المبكر الحكم على مستقبل هذا الإخفاق مع الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن ولكن المؤشرات الأولية لا تبُشر بخلاف ذلك.

 

أسامة العاشور: الواقع والتوقّع

– سورية مقسمة واقعيًا إلى ثلاث مناطق نفوذ: أميركي في شرق الفرات بمساحة 25%، وتركي في الشمال بمساحة 11%، وروسي – إيراني في غرب سورية ووسطها بمساحة 64%، وتفاقمت الأزمة الاقتصاديّة والتحدّيات التي تواجه صدقية النظام أو بقاءه حتّى في أوساط الموالين له.

– استمرار تناقضات القوى المتدخلة في سورية وخلافاتها؛ بين موسكو الراغبة في تقويض هيمنة أميركا على الصراع السوريّ ومخرجاته واحتلال دور إقليمي ودولي مؤثّر، وواشنطن التي منعت روسيا من تحويل التقدّم العسكري الذي حقّقته إلى نصر سياسي، إضافة إلى التناقضات الناتجة من طموحات الأمن القومي التركي وأطماع إيران الطائفية وأمن إسرائيل، وكلّها لا علاقة لسورية وثورتها بها.

– تعطيل روسيا والنظام المفاوضات بأشكالها ومساراتها كافّة، والعمل على تأهيل النظام عبر الضغط لعودته إلى الجامعة العربيّة ووساطة لإبرام اتّفاق سلام مع إسرائيل، وإجراء انتخابات رئاسيّة، وجمع الأموال لإعادة الاعمار من دون إشراف الامم المتّحدة.

– استمرار مطالبة الولايات المتّحدة وبعض الدول الأوروبيّة بتثبيت وقف إطلاق النار في شمال سورية، وتقديم الدعم لمشروع (الإدارة الذاتية)، وممارسة الضغوط الدبلوماسية والاقتصاديّة على النظام وحلفائه ورفض المشاركة في إعادة الإعمار إلى حين إنجاز الحلّ السياسي.

المتغيّرات في عهد الإدارة الأميركيّة الجديدة:

لا تمثّل القضيّة السوريّة للإدارة الأميركيّة الحالية أولوية إستراتيجيّة ولا تهديدًا حيويًا، وما تخشى منه واشنطن في سورية هو التمدّد التركي والنفوذ الإيراني والتأثير الروسي، وتتعامل مع هذه الخشية عبر تفعيل الحلول الدبلوماسية والحوار ومن المرجّح أن تسمح لإيران بالاستمرار في الحفاظ على مناطق تمدّد نفوذها الإقليمي، مقابل التخلّي عن البرنامج النووي وعدم التعرّض لـ(أمن إسرائيل)، والحفاظ على وجود قوّات عسكريّة أميركيّة محدودة في شرق الفرات للضغط على تركيا وحماية مناطق سيطرة قوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، ومحاربة تنظيم الدولة (داعش)، بالتوازي مع استمرار عقوبات قانون (قيصر)، للضغط على روسيا والنظام لقبول الحلّ السياسي.

السيناريوهات المتوقّعة

استمرار الوضع الراهن وتعطيل الوصول إلى حلّ سياسي لاعتقاد الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين أنّ اللعب على الوقت من مصلحتهم، وأنّ أميركا وأوروبا في نهاية المطاف سيقبلون ببقاء نظام الأسد والتفاوض معه كما فعلوا مع كوريا الشمالية وطالبان، وهذا يعني تحوّل سورية إلى دولة معزولة عن الاقتصاد العالمي ومنبوذة في المستوى السياسي والدبلوماسي، وازدياد المعاناة المعيشية للشعب السوريّ وعدم عودة اللاجئين، وبقاء سورية مقسّمة إلى مناطق نفوذ.

ازدياد الصراع بين القوى المتدخلة ووكلائهم المحلّيين -الذين لا يحمل أي منهم مقوّمات الاستمرار- وداخل كلّ منطقة نفوذ وانتشار العوز والمجاعة، وفقدان الأمن، وتحوّل سورية إلى دولة فاشلة تشكّل كارثة لحقوق الإنسان وأرضًا خصبة للمتطرّفين وعدم الاستقرار الإقليمي.

اتّفاق اللاعبين الدوليين على سورية دولة موحّدة دستوريًا، ولكنّها مكوّنة من ثلاث فدراليات جغرافية منطقة إدلب، ومنطقة شرق الفرات، ومنطقة غرب سورية ووسطها، تحتفظ كلّ منها بصلاحيات واسعة في شؤونها الداخليّة. ويحظى هذا الخيار بقبول ضمني روسي – أميركي بعد حلّ القضايا العالقة بينهما وموافقة إيرانيّة بشرط ضمان الاتصال الجغرافي بين العراق وسورية ولبنان ورفض حزام تركي.

اتّفاق دولي على تطبيق القرار الأممي 2254 وفق القراءة الروسيّة وأطراف مؤتمر آستانا يتضمّن عملية انتقال سياسيّة تحافظ على النظام، مع مشاركة أجزاء من المعارضة في الحكم، الأمر الذي لا يتوافق مع إعادة البناء والتمهيد لعودة اللاجئين على نطاق واسع، وسيكون غالبًا بالضدّ من رغبة الولايات المتّحدة الأميركيّة.

اتّفاق دولي على تطبيق الحلّ السياسي بموجب ما نصّ عليه القرار 2254 وفق التسلسل الذي ورد فيه بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتّحدة، يُنهي حكم الأسد ويستبدل به نظامًا ديمقراطيًا تعدّديًا عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي، ثمّ دستور، ثمّ انتخابات من دون الأسد ومجرمي الحرب، ويفتح الأفق لحلّ مشكلة اللاجئين والتغير الديموغرافي والفقر وإنهاء الجماعات المسلحة والخروج تدريجي للوجود العسكري الأجنبي من سورية، وهو أصعب الخيارات وأعقدها لتعارض مخطّطات القوى العالميّة والإقليميّة وتعددها، والأهمّ من ذلك كلّه تفرّق القوى الحاملة للمشروع الوطني السوريّ ولافاعليتها، ولكن ما يدفع إلى هذا الخيار أنّه لا استقرار ولا عملية بناء شاملة، من دون انتقال سياسي حقيقي متوافق عليه، دوليًا وإقليميًا وسوريًّا.

 

حسن النيفي: القضيّة السوريّة في ضوء المآلات الراهنة

جسّدت نهاية 2016 ، وبداية 2017 ، مفصلًا ربّما يكون الأكثر أهمّيةً في سيرورة أحداث الثورة السوريّة، وأعني بذلك استعادة سيطرة النظام على حلب الشرقية، وترحيل ما يقارب 200.000 مواطن من سكانها بالباصات الخضراء، ومن ثمّ بداية مسار آستانا، وكان هذا المفصل إيذانًا بمرحلة جديدة من المواجهة بين قوى الثورة ونظام الأسد، كان من أبرز سماتها بدء التقهقر العسكري للفصائل العسكريّة، بالتوازي مع استعادة النظام معظم المناطق التي كانت خارج سيطرته، بخاصّة ما سُمّيَ بمناطق خفض التصعيد (حمص – الغوطة الشرقية – درعا – القلمون)، ومن ثمّ تمكّن النظام لاحقًا –وبدعم مطلق من حليفيه الروسي والإيراني- من الإجهاز على معظم البلدات الإستراتيجيّة حول إدلب (خان شيخون، سراقب، معرة النعمان، كفرنبل)، فيما حالت المصالح المتشابكة بين موسكو وأنقرة دون اجتياح مدينة إدلب. في حين لم تكن التداعيات السياسيّة أقلّ فداحةً، ذلك أنّ مسار آستانا لم يعد مختصًّا بالقضايا الميدانية والإنسانيّة كما ادّعى القائمون عليه منذ البداية، بل أصبح –كما أراده الروس– المسار البديل من جنيف، وقد عُزّز هذا المسار بقبول فكرة ديمستورا حول السلال الأربع في لقاء جنيف الرابع في 23 شباط/ فبراير 2017 ، ليصبح القرار 2254، بعد القفز من فوق بنوده الإنسانيّة المُلزِمة، وبخاصّة (12 و13 و 14) هو المرجعية الأكثر تداولًا، ربّما لكونه أكثر استيعابًا للتفسيرات والتأويلات المختلفة، ولكن على الرغم من ذلك، فإنّ القيمة الفعليّة للقرار المذكور قد تلاشت حيال مخرجات لقاء سوتشي الأول (30 كانون الثاني/ يناير 2018) الذي اختزل العمليّة السياسيّة بتشكيل لجنة لكتابة الدستور أو تعديله.

يعزو كثيرون الاستعصاء الحاصل في عمل اللجنة الدستوريّة إلى عدم جدّية نظام الأسد في تفاعله مع العمليّة السياسيّة، ومحاولاته الرامية إلى المماطلة واستثمار الوقت، بموازاة تمسّكه واستمراره في الحلّ الأمني. ربّما يعكس هذا التفسير فهمًا عامًا، مبعثه سلوك النظام حيال عملية المفاوضات، ولكنّه لا يعكس بالضرورة الفهم العميق لبنية نظام الأسد وماهيّته، ذلك أنّ مماطلة النظام وعدم تفاعله مع القرارات الأممية واستمراره في نهج القتل والاستئصال إنّما هو نتيجة سبب، تعود جذوره إلى أنّ السوريّين لم يكونوا في مواجهة نظام مستبدّ فاسد كما في بلدان ثورات الربيع العربي الأخرى فحسب، بل هم في الأصل في مواجهة استبداد مُركَّب (سياسي وطائفي) ساهم في تحويل السلطة من (نظام حكم ذي طابع مؤسّساتي)، إلى (طغمة أو عصابة) ولكنّها عصابة أقوى تماسكًا وأشدّ صلابةً من نظام الحكم، من جهة أنّها لا تقبل التفكيك بالوسائل الليّنة أو السياسيّة، فهي إمّا أن تنشطر أو تنفجر فتتهاوى كلّيًّا، أو تبقى قائمة. وفي ضوء هذا الفهم، لا يبدو مُستغربًا هذا الانسداد الذي تواجهه العمليّة السياسيّة، ولا يبدو مُستغربًا أيضًا أن يستنجد كثيرون بالسؤال: أين هو الدور الأميركي حيال المآلات الراهنة للمسار السياسي السوريّ؟ وما الذي يجب على قوى الثورة فعلُه؟

لا جديد في القول: إنّ القضيّة السوريّة منذ إدارة أوباما، مرورًا بإدارة ترامب، وحتّى إدارة بايدن، لم تكن أولوية لواشنطن، ولعله من الصحيح أيضًا أنّ التفرّد الروسي بالملفّ السوريّ إنّما كان نتيجة النأي الأميركي، ولكن ما لا يمكن نكرانه أيضًا، هو أنّ الحضور الأميركي كان -وما يزال- قائمًا، إذ تكفي الإشارة إلى بعض المواقف:

1 – الموقف الأميركي، ومن خلفه الموقف الأوروبي، هو العثرة الأساسيّة أمام رغبة الروس في تحويل منجزهم العسكري إلى مُنجز اقتصادي وسياسي، من خلال رفض واشنطن وأوروبا دعم أي عملية إعادة إعمار من دون الوصول إلى حلّ سياسي وفقًا للقرارات الأممية.

2 – واشنطن كانت هي الكابح الحقيقي أمام عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربيّة، ذلك أنّ الرسالة التي وجّهتها الإدارة الأميركيّة إلى الخارجيّة المصريّة في أواخر 2019 كانت صارمة بهذا الخصوص.

3 – إقرار قانون (قيصر) وجملة العقوبات الاقتصاديّة التي تضيق الخناق على نظام الأسد، إنّما هي أميركيّة بامتياز.

ولعل هذا التأرجح في الموقف الأميركي، بين النأي عن التدخل المباشر من جهة، والاستمرار في فرض العقوبات الاقتصاديّة والضغط الإعلامي من جهة أخرى، إنّما مبعثه الحقيقي هو أنّ حضور القضيّة السوريّة في الأجندة الأميركيّة ليس حضورًا مُستهدفًا بذاته، بل هو مُلحَقٌ بالموقف من إيران، ذلك الموقف الذي اتّسم –تاريخيًا– بكثير من التعقيدات والمتناقضات، وما يزال حتّى الوقت الراهن مفتوحًا على احتمالات عدّة. أضف إلى ذلك، أنّ النأي الأميركي -في جزء كبير منه- ذو صلة بمسعى الإدارة الأميركيّة إلى استنزاف الموقف الروسي، أو إغراق موسكو في جحيم المقتلة السوريّة، وعدم تمكين بوتين من الحصول على ما يريده من سورية -إستراتيجيًّا واقتصاديًّا- بالسهولة التي يتخيلها.

لعل حالة الانسداد أمام أي تقدّم في المسار التفاوضي بين النظام والمعارضة، إنّما تجسّد استمرار صراع المصالح بين الدول النافذة على مسرح الجغرافيا السوريّة، بل ليس ثمّة ما يشير إلى اقتراب هذا الصراع إلى الحسم، وفي موازاة ذلك، يتساءل كثير من السوريّين: هل ثمّة جدوى من التعويل على عملية سياسيّة قد أُفرِغتْ من محتواها الجوهري، وما بقي منها (لجنة الدستور) ليست سوى وسيلة يستثمرها النظام لكسب الوقت وتمرير حلوله الأمنيّة وإعادة تعويمه من جديد؟ وهل يمكن التعويل على ما سيسفر عنه صراع المصالح الدوليّة والإقليميّة، مع العلم التامّ بأنّ المصلحة السوريّة هي طرف غائب في أولويّات مصالح الدول المتصارعة؟ وعلى الرغم من تباين الأجوبة المتوقّعة عن الأسئلة السالفة، فإنّه يمكن القول: ثمّة مساحة أخرى للمواجهة، يمكن أن يخوضها السوريّون، وهي المساحة المتبقية التي لا يملك النظام وحلفاؤه فيها أوراق قوّة، ولا يمسكون بزمام المبادرة، وأعني بذلك المواجهة الحقوقية والإنسانيّة، ذلك أنّ السقوط الأخلاقي لنظام الأسد بسبب سلوكه الموغل في التوحّش، قد أتاح المجال للعالم أجمع أن يقف على مئات الآلاف من الأدلّة والوثائق التي تكفي لبدء مواجهات عنيفة يخوضها السوريّون أمام جميع المحاكم المعنية في العالم، ولئن بدت تلك المواجهات ذات الطابع الحقوقي والإنساني ذات مردود غير مباشر يرقى إلى مستوى معاناة السوريّين، إلّا أنّها –بلا شك – تعود بمردود تراكمي منبثقٍ من تضحيات السوريّين ونضالاتهم، وغير خاضع للوصاية والاستثمار الدوليين.

إنّ تحوّل النشاط الحقوقي لعدد من الكفاءات السوريّة من حقول النشاط الفردي إلى العمل المؤطّر والقائم على التنسيق بين الأفراد والمنظمات الحقوقية، بغية الوصول إلى أصحاب القرار والمرجعيات القضائية الدوليّة والتأثير فيهم، لهو من الأولويّات الراهنة، ليس لأنّه سيكون بديلًا من سبل أخرى للمواجهة، بل لأنّه -على الأقلّ- يساهم في بقاء القضيّة السوريّة حيّةً في الضمائر والأذهان.

 

غسان المفلح: لا حلّ في الأفق

في الواقع هنالك مغالطة تحمل تشويهًا وتضليلًا وتبريرًا للجريمة. هذه المغالطة تستند إلى حيثية تقول الآتي: إنّ ما حدث في سورية، يتحمّله الشعب السوريّ والمعارضة السوريّة.

يستند هذا الرأي إلى أنّ العالم القوي غير متدخل في الشأن السوريّ. أو أنّ هذا العالم القوي الذي تمثّله دول مجلس الأمن قانونيًا، وتمثّله أيضًا دول الاتّحاد الأوروبي بالتحالف مع أميركا التي هي واجهة القوّة في العالم، لم يجد بديلًا للأسد، أو لم يجد بديلًا سياسيًّا يؤمّن مصالحه في سورية غير الأسد، من جهة أخرى تتردّد عبارة لهؤلاء تقول: “كلّ شيء نرميه على إسرائيل” أو أنّ “سببه إسرائيل”. في عبارة ذات طابع استنكاري بالطبع، في الإقليم السيادة الكبرى لأميركا والصغرى لإسرائيل أقلّه فيما يُسمّى دول الطوق. سلطات غاشمة مع دول فاشلة. هذه إستراتيجيّة قديمة جديدة وتتجدّد، وفي كلّ مرحلة يلبسونها رداءً جديدًا. ليس أدل على ذلك من أنّ روسيا وإيران لا تستطيعان الرد على إسرائيل في غاراتها شبه اليومية على سورية. فلمن تكون السيادة في الأجواء السوريّة إذًا؟ في المقابل نلاحظ أنّ الطيران التركي لا يستطيع اختراق المجال الجوي للمناطق الخاضعة لسيطرة الأسد. بينما يقصف الطيران الروسي في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا. النتيجة عندما تقول إسرائيل هذا يعني نسبيًا أميركا أيضًا.
قبل أن نحاول استيضاح هذه القضيّة، لا بدّ لي من القول، إنّه منذ 2005 -العام الذي بدأ فيه احتكاكي المتواضع مع السياسة الأميركيّة- كان كلّ عام يمضي أجد أنّ أي رهان إنساني على السياسة الأميركيّة هو محض هراء. لكن في المقابل لا فكاك من هذا الأخطبوط العالمي. ما يجعلك تطرح على نفسك السؤال الأهمّ في معادلتنا السوريّة بخاصّة والشرق أوسطيّة بعامّة: كيف يمكننا التعامل مع هذا الأخطبوط؟ كيف يمكن التعامل من قبل المعارضة السوريّة مع هذه الأميركا؟

وجدت بعد انطلاق الربيع العربي، والثورة السوريّة بخاصّة، أنّ هذا السؤال يحتوي على جانب عبثي، قبل معرفة الإجابة عن سؤال: ماهي علاقة أميركا بالنظام السوريّ وسورية والشرق الأوسط؟
هذا السؤال هو ما شغلني كثيرًا في الحقيقة وما يزال. لأنّني حاولت مرارًا وتكرارًا الهرب من عنوان طالما واجهني وأنا أبحث في هذا الحقل، وهو (أميركا تدير الشرق الأوسط، بشركاء أم من دون بحسب كلّ ملفّ). نعم أميركا تدير الشرق الأوسط.

أميركا متدخلة بشكلٍ كثيف في كلّ دوله ومجتمعاته. هذا الأمر لم يعد يحتاج إلى كثير من الشرح والتفصيل. ما تعيشه شعوب المنطقة منذ عقود هو نتاج لهذا التدخل. ولا بدّ لنا من التأكيد أنّ كلّ القوى المتدخلة في سورية لاحتلال ثورتها، كلّ القوى من دون استثناء -وعلى رأسها روسيا- تدخلت للحفاظ على الأسد أميركيًا من خلال تشاركها مع أميركا الذي يبدو في لحظات تنافسيًا أو صراعًا.

هذه القوى متشاركة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في الإستراتيجيّة الأميركيّة. الإستراتيجيّة الأميركيّة التي تقوم في أحد ركائزها على أنّ القضيّة التي لا تريد أميركا حلّها، أو تريد تزمينها وتعفين وضعها حتّى، ترميها إلى أروقة الأمم المتّحدة. حيث لا حلّ حتّى الآن أو في الأفق. إذا حدث تأهيل الأسد، ماذا يعني أولًا تأهيل الأسد؟ هل يعني عودة كلّ سورية المحتلّة إلى سيطرة الأسد؟ أم هي إجراء انتخابات شكلانية بحماية روسيا وإيران وإبقاء الوضع الحالي كما هو؟ ثلاث سيادات: أميركيّة في شرق الفرات، وتركيّة في غربه خارج الخريطة الأسدية من جهة، وأسدية إيرانيّة روسيّة مشتركة من جهة أخرى.

تركت أميركا أسدية هزيلة؛ قصر الشعب في دمشق ومقعدًا في الأمم المتّحدة، والشعب السوريّ ضرر جانبي. أمّا سياديًا فأسدية ما قبل الثورة لم تعد موجودة ولن تعود.

أميركا من القوّة في الشرق الاوسط، أنّها لا تحتاج إلى جحافل جيوشها، كي تأتي إليه لتغيير نظام سياسي، أو لفرض أجندة سياسيّة ما. ما هو موجود من جيوش أكثر من كافٍ. ها هي جربت في سورية بـ 900 جندي فقط احتلّت 60.000 كم2 وهي المنطقة الأغنى في سورية. على الرغم من أنف بقية الحبايب. حتّى إنّها لا تحتاج إليهم. يكفي أن تُبقي العلم الأميركي مرفوعًا فوق منطقة تحدّدها. هذه القوّة تراكمت عبر سبعين عامًا وأكثر. هي من حوّلت روسيا وإيران وتركيا في سورية إلى قوى تخريبية لا أكثر ولا تستطيع هذه الدول وبقية دول الملفّ السوريّ، فرض حلّ سياسي من دون أميركا. ما علاقة أميركا إذًا بأنظمة المنطقة؟ لماذا لا تهتمّ بقتل شعوب المنطقة سواءً من أنظمتها أو من أنظمة أخرى بما فيها أميركا؟ الشعب السوريّ ليس استثناء. في الحصيلة لن يكون هنالك حلّ عبر الأمم المتّحدة، وليس هنالك حلّ في الأفق الأميركي. خطورة هذا الوضع ببساطة إبقاء ثلاث مناطق أمنيّة عسكريّة، إلى زمن لا أحد يتكهن بنهايته. ما يعني حالة شبيهة بما جرى في الجولان المحتلّ. لا حرب ولا سلم منذ أكثر من خمسة عقود، والموت بالتقادم لقضية الجولان. ما يعني بشكلٍ أو بآخر إنتاج وضع تقسيمي غير “مدستر” وغير معلن إلى ما شاء الله. هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا بالنسبة إلي، وأتمنى أن أكون خاطئًا.

 

مهند الكاطع: العمليّة السياسيّة لم تبدأ حتّى نعلن فشلها

لا يخفى على أحد بأنّ العمليّة السياسيّة في سورية تعاني جمودًا كبيرًا وشللًا شبه تامّ في كافّة المستويات والأطر التنظيميّة ومنذ سنوات طويلة، بل لم تعد المعارضة السوريّة اليوم تحظى بأي دعم دولي حقيقي، وعشرات الدول التي كانت تُسمّي نفسها بـ (أصدقاء الشعب السوريّ) أحجمت عن تقديم أي دعم حقيقي للشعب السوريّ في ثورته ضدّ نظام الاستبداد في وقت باكر ومنذ 2013 ولأسباب عدة يطول شرحها، لكنّها لا تخرج عن دائرة المخاوف الغربية من نتائج ثورات الربيع العربي التي ربّما لا تنسجم مع سياسات المجتمع الغربي تّجاه الشعوب العربيّة، وجاءت مسألة الجماعات الإرهابية الراديكالية مثل (داعش) و(النصرة)، شماعة تبرّر للمجتمع الدولي تقاعسه عن مساندة الشعب السوريّ في ثورته العادلة. فلم تعد المسألة السوريّة مدرجة على قائمة اهتمام المجتمع الدولي وبشكلٍ خاصّ الولايات المتّحدة الأميركيّة التي لا يبدو أنّها تستعجل الخطوات للعمل على حلّ جذري (حلّ سياسي) يسمح بإنهاء معاناة الشعب السوريّ، بل على العكس تمامًا، لم تزد الخطوات التي قامت بها الولايات المتّحدة منذ عهد أوباما ومرورًا بعهد ترامب الأمور إلّا تعقيدًا، وبخاصّة مع اتّخاذ أميركا خطوات قضت بفرض حظر على وصول الأسلحة النوعية إلى معارضي النظام، وقامت تحت شعار (الحرب على الإرهاب) بدعم الميليشيات الانفصالية التابعة لـ(حزب العمال الكردستاني) التي كانت حتّى نهاية 2015 متحالفة عسكريًّا بالكامل مع النظام، بل حمتها من النظام بعد توتر العلاقة بين الطرفين، وذلك بفرض حظر طيران على مناطق شرق الفرات، في الوقت الذي بقيت طائرات النظام ومدفعيته تقصف الشعب السوريّ والمعارضة في باقي المناطق السوريّة.

على أي حال، لم تعد الحلول العسكريّة مطروحة اليوم مع كلّ هذا التعقيد في المشهد العسكري على الساحة السوريّة، وكلّ الآمال كانت معقودة على أن يتحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته لتنفيذ قرارات الأمم المتّحدة الخاصّة بسورية (2118 و 2254) التي تتطلب تضافر جميع الدول الفاعلة للبدء بدعم خطوة الانتقال السياسي الذي يمثّل الخطوة (السلّة) الأولى من خطوات الحلّ في سورية، وبدلًا من ذلك، فقد حصل التفاف على جميع خطوات الحلّ السياسي، وجرى التركيز على مسارات جانبية لم تزد الطين إلّا بلّة، كمسار آستانا أو مسار اللجنة الدستوريّة التي أدخلت السوريّين في متاهات مضيعة للوقت، قبل البدء بمفاوضات ماراثونية مع النظام المماطل حول (شكل الدستور) كما لو كانت هذه أساس معضلة السوريّين، فالمجتمع الدولي كان يعرف أنّ النظام غير جاد، ولم يكن أحد يتوقّع أي توصل إلى نتائج إيجابية من هذه الخطوة العكسية تفتح بوابة أمل لبحث باقي الملفّات، ولم يجنِ السوريّون من كلّ هذا سوى إطالة أمد معاناتهم وتردي واقعهم الاقتصادي والمعيشي بشكلٍ كارثي وفظيع ينذر بكارثة تهدّد حياة من تبقى من الشعب السوريّ ومستقبلهم.

لا أظن أن العمليّة السياسيّة بدأت حتّى نعلن فشلها، والنظام -في رأيي- هو محض واجهة للتعطيل، أمّا من يقف خلف حالة الجمود والتعطيل في الحلّ السياسي فهو القوى الدوليّة والإقليميّة الفاعلة في الشأن السوريّ، وبشكلٍ خاصّ أميركا، وروسيا، وتركيا، وإيران، وبعض الدول الأوروبيّة التي ما تزال مصالحها متضاربة ولم تصل إلى تسوية حقيقية تسمح لها بدفع العمليّة السياسيّة في سورية إلى الأمام وإنجاز حلّ سياسي منسجم مع قرار الأمم المتّحدة 2254 ليتحقّق انتقال سياسي وإطلاق سراح المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين، وإنجاز باقي القضايا والبدء بطي مسيرة مؤلمة يعيشها الشعب السوريّ منذ عشر سنوات.

بالنسبة إلى الروس، شكّلت سلسلة الاتّفاقيات التي عُقدت مع النظام السوريّ المتهالك، الورقة التي استند إليها الروس في تحقيق مصالحهم، وتعزيز وجودهم العسكري وموقفهم السياسي في الساحة السوريّة، حتى لم يعد للنظام أي دور يذكر وفقد كثيرًا من نقاط التحكم والقرار والسيطرة لمصلحة الروس، لذلك في ظلّ عملية الجمود السياسي -التي قلنا إنّها بسبب تضارب مصالح دوليّة وإقليميّة في سورية بالدرجة الأولى- سيسعى الروس إلى الاستمرار في مسرحية تنصيب بشار الأسد رئيسًا من دون قرار لسورية. أمّا بالنسبة إلى الأميركيين وحتّى المجتمع الدولي، فوجود بشار الأسد في السلطة غير مرتبط بتاتًا بمسألة الانتخابات الرئاسيّة في سورية، وفي حال كانت هناك نية أو توافق للشروع في عملية سياسيّة حقيقية، ستُدعم عملية انتقال سياسي للسلطة، حتّى لو كان ذلك بعد تنصيب بشار الأسد بيوم واحد.

 

بهنان يامين: سورية الثورة الى أين في نهاية عامها العاشر؟

تطوي الثورة السوريّة -وقد يسمّيها بعض حراكًا ثوريًّا أو فورة، لا تهمّ التسمية- عامها العاشر لتخطو نحو العام الحادي عشر، فإلى أين تتّجه سورية؟ هل هناك آمال بأن يوجد حلّ، فالمستعمِر الروسي يحاول أن يلمع صورة النظام حينًا بإجراء انتخابات رئاسيّة، ويطرح المجلس العسكري تارةً أخرى بديلًا من النظام القائم، وطورًا آخر يدعو إلى اجتماعات اللجنة الدستوريّة، التي ولدت مخصية سواء بكامل هيئتها أم بهيئتها المصغّرة.

الحقيقة المرّة والمبكية في الآن ذاته، ألا حلّ في الأفق للمسألة السوريّة، فالنظام يسعى إلى لعبة الانتخابات الرئاسيّة، والكلّ يعرف بأنّ مثل هذه الانتخابات غير شرعيّة، والمعارضة تتقبل أحيانًا الطرح الروسي بالمشاركة في الانتخابات الرئاسيّة، وكذلك المجلس العسكري الذي قد يكون مناف طلاس رئيسًا له، ولقد دخلت (الإدارة الذاتية) على الخط الروسي لتتقبل المساهمة في المجلس العسكري.

كلّ هذه الحلول هي حلول خارجة عن قرارات الأمم المتّحدة التي دعت إلى سلطة انتقاليّة، تؤسّس لدولة وطنيّة ديمقراطيّة، بقي النظام والمستعمِر الروسي والإيراني والتركي والأميركي، يحاول منع قيام مثلها، ولقد نجحوا إلى حدٍّ ما في إجهاض هذه الخطوة التي لم يتقبلها النظام المستبدّ، والكلّ يكذب على الشعب السوريّ، وبخاصّة على قواه الوطنيّة الديمقراطيّة التي تسعى بصدق إلى نقل سورية من دولة فاشلة إلى دولة فعليّة، تعتمد الإرادة الشعبيّة في تكوين دستورها.

هل الانتخابات الرئاسيّة السوريّة شرعيّة؟ طبعًا ليست كذلك؛ لأنّ الشرعيّة يجب أن تستمدّ شرعيّتها من دستور سوريّ شرعي، فدستور 2012 الذي جاء مسخًا ونسخة مشوّهة عن دستور 1973، دستور حافظ الأسد، فمن وضع هذا الدستور، والدستور الذي قبله، ليسوا من ذوي الاختصاص بالقانون الدستوري، بل هم مجموعة شكّلتها الأجهزة الأمنيّة لكي تؤكّد دكتاتوريّة الجالس في قصر قاسيون، سواء أكان بشار أم مناف أم أم.. إلخ.

من هنا فإنّ أي انتخابات في كافّة المستويات، من أسفل الهرم إلى قمته، هي انتخابات غير شرعيّة، وبالطبع إن جرت فإنّ نتيجتها معروفة، ألّا وهي إعادة انتخاب بشار الأسد، فترة رئاسية جديدة، أي سبع سنوات أخرى من المخاتلة، والاحتيال، والقتل، والتشريد، والتدمير، واستمرار هذا الحكم سيوصل بالطبع إلى مزيد من التأكل في الجسد السوريّ.

هل يستطيع المجلس العسكري المطروح، أن يشكّل حلًّا للسلطة السياسيّة في سورية؟ قطعًا لا لأنّ أي دارس للأوضاع السياسيّة، ليس في سورية فحسب، بل في كلّ المنطقة، يصل إلى نتيجة حتميّة، بأنّ سبب هذا البلاء هو العسكر، وما ينتجه العسكر من أجهزة أمنيّة. من هنا فإنّ مثل هذا المجلس ليس بشرعي لأنّه لا يمثّل تطلعات الشعب السوريّ، فهم لم يثوروا من أجل استبدال عسكر بعسكر، فالعسكر مكانهم الثكنات لا السياسة، ويجب أن يخضعوا للسياسي وليس العكس، وإن أراد العسكر أدوارًا سياسيةً، فعليهم الاستقالة من مناصبهم العسكريّة، ويكون ما بين استقالة أحدهم ومشاركته في السلطة السياسيّة مدة زمنية مقبولة لكي يتأهل إلى دخول المعترك السياسي، والابتعاد عن الجيش، وإلّا سنكون أمام نموذج (ميانمار) حيث ينقلب فيها العسكر على السلطة كما يحلو لهم ذلك.

هناك من يقول إنّ (الإدارة الذاتية) الكرديّة -أقول الكرديّة لأنّ باقي المكوّنات السوريّة لا وجود لها في هذه الإدارة، وإن وجد بعض منهم فهم (ديكورات)- هي نموذج ناجح بديل للسلطة السياسيّة في دمشق، وهذا القول باطل لأنّ هذه الإدارة خاضعة لـ(حزب العمال الكردستاني) التركي، المتمركز في وادي قنديل، وممارستها هي ممارسة شبيهة بممارسات النظام، ولنا مثال في تصرفاتها في محافظات الرقة، ودير الزور، والحسكة، أي في منطقة الجزيرة السوريّة، فضلًا عن خضوعها للسياسة الأميركيّة، ولدكتاتوريّة عبد الله أوجلان. إنّ سياسة (تكريد) محافظات الجزيرة أوصلت إلى التدخل العسكري التركي ما بين رأس العين وتل أبيض وهي منطقة عشائر عربيّة، لا أكراد فيها وإن وجدوا فهم أقلّيّة ضئيلة.

كلّ هذه الطروحات، وغيرها، لا تشكّل حلًّا للمسألة السوريّة، كونها طروحات استعمارية ومرفوضة من القوى الديمقراطيّة السوريّة، الطامحة إلى قيام دولة المواطنة الديمقراطيّة قائمة على أسس دستوريّة تفصل ما بين الدين والدولة، وترسي دولة عصريّة تدخل سورية إلى الحداثة.

 

فراس علاوي: السيناريو العراقي الأقرب إلى الحلّ في سورية

عقد كامل مضى على انطلاق الثورة السوريّة شهد فشلًا كاملًا للمجتمع الدولي في الوصول إلى حلّ يرضي السوريّين، ولعل أبرز أسباب هذا الفشل هو الانقسام الدولي وتضارب المشروعات الدوليّة في سورية، ما أنتج عددًا من الصراعات الثانويّة السياسيّة والعسكريّة على الأرض السوريّة، فعلى الرغم من التوافق الدولي على القرار 225‪4 إلّا أنّ الاختلاف على تفسيره وفق مصالح الدول المتدخلة أدى إلى زيادة هذا الخلاف، وازدياد حدّة الانقسام أدى إلى نشوء مسارات سياسيّة أخرى، وتسبب في انقسامات في أجسام المعارضة التي بدأت تخضع لتوافقات دوليّة وإقليميّة، أبرز تلك المسارات مساري آستانا وسوتشي التي أنتجت ما سُمّيَ اللجنة الدستوريّة، في قفز على تراتبيّة القرار 225‪4 الذي يقرّ بيئة آمنة، ثمّ هيئة حكم انتقالي، ثمّ دستور، ويلي ذلك الانتخابات.

مسار اللجنة الدستوريّة بشكلٍه الحالي يتناسب مع الرؤية الروسيّة التي عملت مع النظام على تكتيكات تفاوض من شأنها إغراق اللجنة بالتفاصيل والابتعاد عن بحث دستور وفق رؤية السوريّين، ومن ثم الوصول إلى الانتخابات المزمع القيام بها في منتصف العام الحالي 202‪1. إذ يرغب الروس من خلالها دعم انتخاب بشار الأسد بحسب دستور 201‪2. وما الدعم الروسي والإيراني المقدّم للأسد -لا يختلف اثنان على أنّه المرشح أو الفائز الوحيد في هذه الانتخابات الشكليّة، إلّا لتثبيت أقدامهم من خلال إعادة تعويم النظام واستخدام هذا التعويم ورقة ضغط في التنافس مع الأميركان في سورية.

هذا الدعم يتزامن مع تراجع الاهتمام الأميركي -ومن ثم الأوروبي- بالملفّ السوريّ وإلحاقه بملفّات أخرى أبرزها الصراع الأميركي – الإيراني في المنطقة، وهذا التراجع الواضح يفسر ذهاب الروس بعيدًا في فرض حلولهم في سورية وإن كانت حلولًا مرحليّة لكنّها تؤثّر في الوضع الراهن. هذا الاستعصاء في الوضع السوريّ يجعل استشراف أي حلول من الصعوبة بمكان، وبخاصّة مع إدارة بايدن التي تشبه نوعًا ما في إستراتيجيّتها بالتعاطي مع الملفّ السوريّ ما ذهبت إليه إدارة أوباما التي رهنت الملفّ السوريّ بمباحثات الاتّفاق النووي مع إيران، ومن ثم الابتعاد عن سياسة الضغط الأقصى التي اتبعها ترامب. ليدخل الصراع مرحلة التنافس في سورية على الرغم من الامتعاض الإسرائيلي سيكون الذهاب بعيدًا في إعطاء إيران حيّزًا أكبر من التمدّد في محيطها الجغرافي أحد المشكلات الأساسيّة التي تهدّد أي حلّ في سورية.

الاستعصاء الحاصل في الملفّ السوريّ مردّه الأساسي لرؤى ومصالح سياسيّة واقتصاديّة متعلّقة بالدول المتدخلة، وأيضًا لتجارب سبقت الملفّ السوريّ في العلاقة بين الدول المتدخلة، كما حصل في العراق حين استفرد الأميركان بالحلّ، ما أثار في حينها امتعاض الروس، وكذلك كما حصل في الملفّ الليبي حيث أقصِيت روسيا من الحلّ هناك ما جعلها تعود لاحقًا عبر عمليات عرقلة وتعطيل أي حلّ. وهناك صراعات جزئيّة لا يمكن الوصول إلى الحلّ في سورية من دون المرور عبرها وإيجاد حلول لها، فمن أجل الوصول إلى حلّ شامل في سورية لا بدّ من إنهاء حالة التنازع والتنافس على الجغرافيا السوريّة، وبناء إستراتيجيّة تقوم على إنهاء النزاعات المحليّة وصولًا إلى حلّ سياسي شامل يضمن مصالح الدول المتدخلة، ولعل أبرز هذه الصراعات هي:

1 – الصراع التركي – الكردي (حزب العمال الكردستاني/pkk)، حيث أصبح شمال وشمال شرق سورية مسرحًا له إذ تسعى تركيا إلى منع قيام كيان كردي في وقت تحاول فيه بعض الأحزاب الكرديّة استغلال الوضع السوريّ لإقامته، ومن ثم إبعاد خطر (pkk) عن الداخل التركي للحفاظ على أمنها القومي، وأي انخراط في عملية سياسيّة تضمن من خلالها تركيا تحقيق أهدافها ستساهم في الاقتراب من حلّ شامل في سورية، ولعل تطوير اتّفاق أضنة 199‪8 بين تركيا وسورية قد يعد محفزًا لقبول تركي بالحلّ السياسي المرتقب.

2 – الصراع الثاني هو الأميركي – الإيراني، وهو صراع متشعب ومتغيّر بحسب الإدارات الأميركيّة، لذا فازدياد حدّة الصراع أو التوصل إلى اتّفاق سيؤدي إلى اقتراب الحلّ في سورية، لكن لكلّ حلّ تأثيره المختلف ونتائجه المختلفة. من هنا نستطيع تقييم الموقف الأميركي من خلال التصعيد الإسرائيلي أو تراجع مستوى التصعيد كما حدث في إدارة أوباما، إذ يلعب دورًا أساسيًّا في التوصل إلى اتّفاق أميركي – إيراني.

المشكلة الأساس المتعلّقة بهذا الملفّ هي تحوّل الملفّ السوريّ إلى ملفّ ملحق وليس ملفًّا أساسيًّا في الحلّ بالمنطقة، لذلك فإنّ إدارة الصراع في سورية من هذا المنطلق تعتمد بشكلٍ كبير على مدى اشتراطات كل من إيران وإسرائيل ومدى تحقيق التوافق بينهما أميركيًا من حيث الوصول إلى اتّفاق شامل مع إيران يعيد إحياء الاتّفاق النووي، لكن بشروط جديدة وفق رؤية إدارة بايدن. من جهتها فإنّ السلطة في إيران تلقفت الرغبة الأميركيّة في عدم الذهاب إلى تصعيد جديد والابتعاد عن ممارسة سياسة الضغط الأقصى لتبدأ برفع عتبة شروطها والعمل على استخدام الورقة السوريّة ورقة ضغط واضحة على ملفّ الصراع ما يعني تعقيدًا آخر في الحلّ السوريّ.

3 – الصراع الثالث هو الصراع الأميركي – الروسي، إذ اختارت روسيا بعد خساراتها في العراق وليبيا الساحة السوريّة لخوض صراع من نوع آخر مع الأميركان من خلال التدخل المباشر في سورية، وقد استفاد الروس من التراجع أو عدم الاهتمام الأميركي للتدخل ومحاولة فرض رؤية وشكل للحلّ يعتمد على إعادة سيطرة نظام الأسد عسكريًّا من خلال ما سُمّيَ بمناطق خفض التصعيد (وهو ما لاقى رضى أميركيًا)، ومحاولة فرض رؤية روسيّة للحلّ السياسي من خلال إعادة تعويم النظام، وهذا الأمر يلقى حتّى الآن رفضًا أميركيًّا. وازدياد حدّة هذا الصراع قد يسرّع الوصول إلى حلٍّ، وكذلك التوصل إلى توافقات في ملفّات أخرى في القرم وأوكرانيا من شأته أن يسرع الحلّ في سورية، ومن دون هذه الحدّة سيبقى الحلّ يراوح مكانه بين الطرفين.

العامل المشترك لجميع التدخلات الدوليّة في الملفّ السوريّ هو (مكافحة الإرهاب) وتنظيم (داعش) بصورة خاصّة، فنشاط التنظيم وصعوده مجددًا -على الرغم من إعلان القضاء عليه سابقًا- سيلعب دورًا في طبيعة الحلّ السوريّ وشكله. لذلك فإنّ إستراتيجيّة الحلّ تبدو معقدة ومتشابكة الخيوط ومن الصعب تفكيكها إلّا من خلال تفكيك جزئياتها ويعتمد ذلك على الرغبة الأميركيّة في الحلّ بصورة خاصّة. فيما تراجع إدارة بايدن إستراتيجيّتها المتعلّقة بالشرق الأوسط لا يبدو الملفّ السوريّ أولوية للأميركيين. وسيبقى الحلّ في سورية مرتبطًا بملفّات أخرى أكثر تعقيدًا ما لم تصل التدخلات الدوليّة إلى حدّة كافية تهدّد بتغيير قواعد الاشتباك، حينها فقط ستذهب الدول نحو الحلّ تجنبًا للتصعيد العسكري، إذ لا تملك تلك الدول بما فيها الولايات المتّحدة وروسيا الرغبة في الذهاب بعيدًا في حرب مفتوحة من أجل سورية.

لذلك فإنّ جميع سيناريوهات الحلّ المتوقّعة تعتمد بشكلٍ رئيس على إنهاء هذه الصراعات من جهة، وإيجاد نوع من التوافق حول مسائل إعادة الإعمار إذ سيكون لمتعهدي عملية الإعمار حصّة من الحلّ.

ولعل السيناريو العراقي يبدو الأقرب إلى الحلّ في سورية على الرغم من مساوئه إلّا أنّ الحلول التوافقيّة غالبًا ما تكون نتائجها أقرب إلى المحاصصة والتقسيم من أجل إرضاء جميع الأطراف الفاعلة وإعطائها حصّة من كعكة الحلّ في سورية. وهذا الحلّ لن يحقّق طموحات الشعب السوريّ لكنّه ربّما سيوقف ولو جزئيًّا دوامة العنف السوريّة التي تعدّدت ملفّاتها بما فيها ملفّ اللاجئين في دول العالم، وملفّ معتقلي تنظيم (داعش) في سورية، وكذلك ملفّي العدالة الانتقاليّة وإعادة الإعمار وغيرها من ملفّات.

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى