عبد الواحد غبيش، اسم لا يعني شيئا لأحد لكنه بات يعني لمن شاهد قصته الكثير جدا. هذا الرجل في العقد السادس من عمره فر من اللاذقية خوفا من الموت ولجأ إلى تركيا حيث استقر ببلدة ألتنوزو جنوب البلاد. تقرير تلفزيوني في «الجزيرة» أظهر كيف يتوجه هذا الرجل صباحا إلى أسفل الجبال في تلك المنطقة ليجمع حجارة مختلفة الأحجام ويدفعها في عربة صغيرة إلى محل منحه له أحدهم في ذلك الخلاء ليشرع في تحويل ما جمعه إلى أوان منزلية متعددة الأحجام والأصناف. يقوم بقصّها ثم صقلها بعناية فائقة لأخذها بعد ذلك لعرضها على قارعة الطريق.
يقول عبد الواحد إنه قد يبيع في اليوم الواحد قطعتين أو ثلاث، وأحيانا قطعة واحدة لا غير، وقد لا يبيع شيئا طوال يوم كامل تمر أمامه السيارات بالمئات مسرعة لكنها لا تتوقف لتفحص بضاعته أو ربما يفعل بعضها ذلك دون أن يشتري أصحابها شيئا. يروي قصته وهو يكرر باستمرار كلمة «الحمد لله» مؤكدا أن ما يفعله أفضل من البقاء في البيت وهو أكرم في كل الأحوال من الالتجاء إلى الناس طلبا للمساعدة.
وإذا كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول «لإن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» فإن هذا السوري عزيز النفس اختار ما هو أعسر من ذلك بكثير وهو اقتطاع الحجر ونحته وتليينه دون تأفف ولا تذمر، بل إن تعففه في الحديث عن دخله اليومي يوحي لك بأنه قادر تماما على سد حاجياته وحاجيات أسرته.
عبد الواحد ليس استثناء بين السوريين الذين دفعهم نظام دموي مجرم خارج حدود البلاد ففي إقليم كردستان العراق مثلا يعيش منذ سنوات نحوُ مئتين وخمسين ألفَ لاجئ سوري يعيشون منذ سنواتٍ لكن نحوَ ستين بالمئة منهم فضّل الخروجَ من المخيمات والانخراطَ في سوق العمل وفق منظمة الهجرة العالمية.
وفي تقرير تلفزيوني آخر يتحدث عبد الرحمن مصطفى الذي قدم من أقصى شَماليِّ سوريا وفتح محلا للحلويات إن من يعتمد على نفسه يكون مرتاحا نفسيا لأنه لا يمد يده لأحد ويعيش من عرق جبينه، مفتخرا بأنه استطاع أن يشغّل لديه سوريين آخرين وعراقيين كذلك. أما دلشاد ملا درويش الذي قدم من رأس العين السورية ليفتتح مطعما للوجبات السريعة في السليمانية فيفتخر هو الآخر بأنه رغم قدومه إلى هناك قبل نحو عشر سنوات إلا أنه لم يذهب الى المخيم، بل قرر العمل والاعتماد على نفسه و«ليس على المنظمات والمساعدات الإنسانية، وها نحن نعمل ونعيل عائلاتنا والحمد لله نعيش في وضع جيد».
نماذج النجاح هذه ليست حالات معزولة ولا محدودة ففي تركيا كما في مصر كما في السودان وموريتانيا قصص نجاح متعددة قد تضاهي ما فات وقد تتفوق عليها. قبل عامين تقريبا جاء في نتائج دراسة أنجزها أكاديمي من جامعة غازي عنتاب جنوبي تركيا بحثت حال السوريين المقيمين هناك من مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية منذ قدومهم من بلادهم عام 2011 أن من بين من يقيم في غازي عنتاب من السوريين، وعددهم يفوق 450 ألفا، نجد أن 69٪ من هؤلاء يعملون في شركات سورية وأعمال خاصة، بينما يعتمد 31٪ منهم على شركاء أتراك، في حين بلغت نسبة السوريين الذين لم يحصلوا على أي مساعدات مالية أو عينية 62.5٪.
في مصر التي فضلها عدد من السوريين لأن العمل فيها متاح دون تصاريح، عكس عدد من الدول العربية الأخرى، توجد أيضا قصص نجاح خاصة في مجالي المطاعم والنسيج لكن ذلك لم يمنع مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين من أن تحذر قبل عامين من أن 80٪ من اللاجئين في مصر يعيشون في أوضاع إنسانية بائسة.
أما في السودان فقد أصيب الوجود السوري هناك بانتكاسة بعد أن قررت الحكومة السودانية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، منع الأجانب من ممارسة العمل التجاري بالبلاد مما أدى إلى إغلاق عدد من المطاعم والمحال السورية التي ازدهر نشاطها وتكثف في العاصمة الخرطوم لاسيما مع حملة التفتيش التي تشنها السلطات للتأكد من وجود تصاريح العمل والإقامة مع أن هذه المشاريع أدخلت بهجة خاصة على إيقاع الحياة اليومية هناك. ورغم عدم وجود إحصائية رسمية حول أعداد اللاجئين السوريين في السودان، فإن منظمات غير حكومية، تقدر عدد هؤلاء بأكثر من 200 ألف.
قصص نجاح السوريين يجب ألا تطمس معاناة الكثير منهم في الدول العربية التي قصدوها مضطرين هربا من الموت وبراميل النظام المتفجرة، كما أن نجاح من يملكون رؤوس أموال سمحت لهم بدخول عالم المشاريع الكبيرة أو المتوسطة يجب ألا تغطي شيئا أساسيا، ولا يقدر بثمن، وهو حرص السوري على كرامته وعزة نفسه فلا يتركها عالة على أحد، ولو نحت الجبل بأظافره.
كاتب وإعلامي تونسي
المصدر: القدس العربي