مع تنامي طموحاتهما الإقليمية، تبدو العلاقات بين الإمبراطوريتين القديمتين اللتين تحلمان باسترجاع عظمتهما المفقودة في تدهور. ومن الواضح أن تركيا هي سبب هذا المناخ المتوتر مع إيران.
“لا مشاكل مع الجيران”. تدريجياً تحولت الاستراتيجية الشهيرة الناتجة عن نظرة أحمد داود أوغلو عندما كان وزيراً لخارجية تركيا إلى “لا جيران بدون مشاكل.” وقد التحقت إيران بقائمة الدول التي تنظر إلى سياسة تركيا الخارجية بريبة وقلق.
حتى ذلك الحين، احتفظت العلاقات بين البلدين – والتي يشكل تبادل الطاقة فيها الجانب الرئيسي – بحالة من عدم التحارب، بل وحتى من عدم العدائية، على الرغم من مواقفهما المتباينة في الصراع السوري حيث تعارض تركيا نظام دمشق بينما تؤيده إيران.
تزايد التوتر في سنجار
لكن الأمور احتدت خلال السنوات الأخيرة في منطقة سنجار العراقية ثم خلال أزمة ناغورني قره باغ. تعد مدينة سنجار التي تحمل نفس الاسم والموجودة شمال غرب الموصل، مكانا مقدسا لليزيديين، وهم أقلية طائفية كردية ترجع جذورها الدينية إلى الأساطير الفارسية.
في عام 2014، قام جهاديو تنظيم الدولة الإسلامية، الذين اعتبروهم من الكفار، بقتل آلاف من الرجال اليزيديين واستعبدوا النساء والأطفال. ساعد مقاتلو حزب العمال الكردستاني، بعد تحرير المنطقة من الوجود الجهادي، في تشكيل ميليشيات يزيدية مستقلة. وبقي حزب العمال الكردستاني بعد ذلك في سنجار كما هو موجود في جبل قنديل، في شمال شرق كردستان العراق.
في شهر يناير/كانون الثاني، وفي إطار العلاقات الجيدة التي تسعى تركيا جاهدة لإقامتها مع العراق وحكومة إقليم كردستان، قام وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، بزيارة العاصمتين، بغداد وأربيل.
وبعد الزيارة، وجه الرئيس رجب طيب أردوغان تحذيرا بخصوص سنجار: “قد ننزل فجأة هناك ذات ليلة”. ومما يزيد من احتمال حدوث ذلك كون أن الجيش التركي ورط نفسه، في 10 فبراير/شباط 2021، في منطقة غارا (أيضا في شمال العراق) في محاولة فاشلة للإفراج عن جنود وأفراد من المخابرات التركية كانوا أسرى لدى حزب العمال الكردستاني. وهو فشل ذريع تسبب في مقتل 13 سجيناً.
ورداً على هذا التهديد الكامن بالتدخل التركي، طالبت ميليشيا “أصحاب الكهف” الشيعية المدعومة من إيران بأن “تكف تركيا عن أعمالها العدائية. كنا نتوقع أن تكمل تركيا انسحابها من الأراضي العراقية، وليس أن تزيد من تدخلها”1 وهددت الميليشيا تركيا -في حال وقوع هجمات- بالانتقام من خلال عرضها لشريط فيديو يظهر صواريخ آرش ذات الصنع الإيراني.
يعتبر الإيرانيون سنجار منطقة استراتيجية بالنظر إلى مشروع كبير لإنجاز طريق سريع يربط طهران بالبحر الأبيض المتوسط، والذي يمر مُخَطَّطه عبر محافظة ديالى، على بعد 60 كيلومترًا شمال بغداد، قبل الصعود نحو سنجار وصولا إلى سوريا. وبعد اجتياز الحدود، يستمر الطريق السريع إلى قامشلي ثم كوباني، مروراً بشمال حلب لينتهي عند ميناء اللاذقية2.
ينظر الأتراك من جانبهم إلى سنجار على أنها نقطة التقاء في شمال العراق بين قنديل، القاعدة الخلفية لحزب العمال الكردستاني، وروج آفا السورية ( الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا) التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، والتي يُعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي القوة الحاسمة فيها. كما أن محافظة نينوى هي أيضًا منطقة تتواجد فيها بقوة وحدات الحشد الشعبي وهي مليشيات شيعية. قد يسمح تدخلٌ بالقوات الجوية والطائرات بدون طيار، كما حدث في غارا، ومن خلال قوات برية على الأرض، لأنقرة بضرب عصفورين بحجر واحد. وكذلك كسب عداء الميليشيات الشيعية المقربة من إيران.
ملف ناغورني قره باغ المسموم
خلال الحرب في ناغورني قره باغ، وبإرساله عدة مئات من المرتزقة للوقوف إلى جانب الأذريين وكذلك طائرات بدون طيار “بيرقدار تي بي 2” التي وفرتها شركة بايكار، التي يديرها صهره، عزز أردوغان تفوقه في القوقاز بفضل إنشاء ممر بين جيب ناخيتشيفان الأذربيجاني وأذربيجان. وقد تحصل بالتالي على شكل من الاستمرارية الإقليمية وخلق رابط أسرع بين البحر الأسود وبحر قزوين، مما يسهل نقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا عبر خط أنابيب الغاز عبر الأناضول (تاناب).
كما لم يفته أيضا اللجوء إلى خطاب ذي نبرة عثمانية جديدة، متحججا بأن الأتراك والأذريين يشكلون أمة واحدة موزعة بين دولتين. ولدعم مقولته، لجأ إلى قراءة قصيدة اعتبرها الإيرانيون أنشودة لأذربيجان الإيرانية، التي تضم أقلية كبيرة من الناطقين باللغة التركية. وقد تسبب ذلك في سيل من الاحتجاجات من جانب طهران.
الرئيس التركي، الذي تحصل على كل السلطات بعد إصلاحات يناير/كانون الثاني2017، متورط عسكريًا في صراعات إقليمية عالية الكثافة (ليبيا، سوريا). كما قاده مفهوم “الوطن الأزرق” (Mavi Vatan)، الذي طوره بعض من أميرالاته، إلى تعزيز أسطوله القتالي (وقد أُطلق على تدريباته الأخيرة قبالة بحر إيجه على وجه التحديد اسم “الوطن الأزرق-Blue Homeland-2021”) وإلى الاعتراض على تحديد مسار المنطقة الاقتصادية الخالصة لليونان في شرق البحر الأبيض المتوسط، الغنية بالمحروقات.
أما الفوز الأخير لمرشحه في الانتخابات الرئاسية للجمهورية التركية لشمال قبرص – غير معترف بها من طرف الأمم المتحدة – فقد سمح له بغلق الباب في وجه أية فرضية لإعادة توحيد الجزيرة وتمهيد الطريق إلى ضمها الكامل إلى تركيا.
الضم الزاحف لمنطقة عفرين
جاء عرب وتركمان ليحلوا مكانهم، أما الذين بقوا فقد أصبحوا أقلية في بلادهم. “صار العلم التركي يرفرف فوق المباني ويتم التعليم في المدارس باللغتين العربية والتركية. أما الكهرباء وشبكات الهاتف فهي موصولة بتلك الموجودة في تركيا. يتم تعيين ودفع رواتب أئمة المساجد وخطبائها من قبل رئاسة الشؤون الدينية التركية (ديانت) وأصبحت الليرة التركية عملة التبادل التجاري3. تتجه تدريجيا منطقة عفرين نحو تبعية إدارية لمحافظة هاتاي في تركيا، أي لواء الإسكندرونة السورية السابق الذي وضعت أنقرة يدها عليه في عام 1939 بموافقة فرنسا وبريطانيا العظمى.
لا يفلت العراق من شهية أردوغان، وليس في منطقة سنجار فقط بل أيضًا بخصوص مدينتي الموصل وكركوك. ففي عام 1925، اِعْتَرَضَ مصطفى كمال، الرئيس الأول لتركيا الحديثة، ومن خلفوه فيما بعد، على تصويت لعصبة الأمم ألحق ولاية الموصل بالعراق بدلاً من تركيا. يلمح أردوغان بانتظام، خلال فترات الإفراط في الغطرسة التي يهواها، بشأن موضوع “الوطن المفقود”، إلى هذا الاعتراض، مستمراً في المطالبة بضم إلى تركيا كل من الموصل، المدينة السنية – وهي اليوم في حالة خراب بعد تحريرها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية – وكركوك، أكبر مركز بترولي في العراق.
شهية الأتراك تشتد في الموصل
علاوة على ذلك، كما يؤكد فهيم تستكين في موقع “المونيتور”: “يميل حزب العدالة والتنمية (حزب أردوغان) إلى النظر إلى الموصل في الإطار الإداري العثماني ـ أي ولاية الموصل، المكونة من مناطق الموصل وكركوك والسليمانية. أي بعبارة أخرى، السليمانية وأربيل ودهوك، المناطق الثلاث التي تشكل اليوم كردستان العراق، كانت جزءًا من محافظة الموصل العثمانية “4.
تؤدي هذه “الرؤية” إلى تغيير كبير في صياغة حجم الاعتراض القديم بخصوص مسار الحدود التركية العراقية ليشمل كردستان العراق. بصفة واضحة هذا يعني أن تقسيم العراق يعد خيارا بالنسبة لأنقرة. وقد تمت بالفعل دراسة هذا الخيار بجدية عالية مرتين: في عام 1958 عندما حاول العراق والأردن التقارب من أجل الوحدة بين البلدين، وفي عام 1991، عندما نفذت الولايات المتحدة عملية “عاصفة الصحراء” ضد صدام حسين. لكن في المرتين لم تعط واشنطن الضوء الأخضر لذلك.
فضلا على ذلك، أصبح الإيرانيون الآن في موقع قوة في الموصل بفضل المليشيات الشيعية العراقية لوحدات الحشد الشعبي، التي بقيت في عين المكان بعد مشاركتها في تحرير المدينة عام 2018. وفي مواجهة مثل هذا السيناريو، صرح وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، في بيان نشر يوم 21 فبراير/شباط: “نرفض الوجود العسكري التركي في العراق وسوريا، نعتقد أنه سيئ”. وهو تصريح لا يمكن سماعه، على الرغم من صيغته الدبلوماسية المدروسة، إلا كتحذير حازم لأنقرة.
أحلام العظمة في آسيا الوسطى
شهد عام 2020 إعادة تنشيط القومية التركية (وحدة الشعوب التركية أو طوران الكبرى)، وهو مشروع توحيد الناطقين باللغة التركية في آسيا الوسطى، الموروث عن أنور باشا، وزير الحربية في الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. وهو رجل قومي متشدد وعنصري وأحد المحرضين على الإبادة الجماعية للأرمن. فمن خلال إثارة مشاعر مؤيديه بذكر “التفاحة الحمراء” (قزل إلما-Kizil Elma)، يدرك أردوغان جيدا بأنه يتلاعب بالرمز الأساسي للهيمنة التركية في آسيا الوسطى. وباستناده إلى تجانس عرقي- لغوي زائف، فهو يشير إلى أذربيجان وتركمانستان، وأوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان.
في عام 1992، أطلقت تركيا من خلال وكالة التعاون والتنسيق التركية الحكومية (Turk Isbirligi ve Kalkinma Ajansi -TIKA)، مبادرة شراكة في السياسات الثقافية والتعليمية والتجارية والطاقية بين هذه الدول. غير أن موسكو، التي تعتبر بأن دول الاتحاد السوفيتي السابق تنتمي إلى منطقة نفوذها، أبلغت معارضتها الشديدة لأنقرة. لكن بعد 40 عامًا، لم يعد ميزان القوى كما كان عليه. واليوم، تسعى القومية البان-تركية (التي تخلت عن الأويغور حفاظا على الأنشطة التجارية مع الصين) إلى الانبعاث من جديد من خلال نظرة، تتجاوز البلدان الخمسة المذكورة، تنشد حماية تتار القرم ومسلمي البلقان.
كما نرى، فإن طموحات “سلطان اسطنبول” ليست بالهزيلة. وهي طموحات تهدف أيضا إلى إخفاء وضع داخلي يمتزج فيه التضخم والبطالة وانخفاض سعر الليرة والاحتجاجات الطلابية وتشديد الإجراءات الأمنية وسجن المنتخبين الأكراد لحزب الشعب الديمقراطي. كما يواجه اردوغان تراجع شعبيته في حين يقترب موعد الانتخابات الرئاسية. وبالمقابل يشكل رئيسا بلديتي اسطنبول وأنقرة، مرشحين محتملين ذوي مصداقية في هذه الانتخابات.
في مواجهة هذا الوضع المتفجر، يتواصل الغلو حول العامل الديني كعنصر من الهوية الوطنية. وقد وجد تجسيدا له خلال عام 2019، في إنجاز مسجد تشاملجا – مقابل 90 مليون دولار- وهو الأكبر في تركيا. كما تجسد مؤخراً في تحويل آيا صوفيا إلى مكان للعبادة، وبالتالي إحياء ذكرى عام 1453 عندما حكم لأول مرة سلطان الإمبراطورية العثمانية بأكملها، وتم تحويل الكاتدرائية إلى مسجد.
طهران تعتمد على حلفائها
في مواجهة الدفعة التوسعية لجارتها العدوانية في الشمال، ليس لإيران – التي دخلت في مواجهة مع الولايات المتحدة التي ترفض رفع العقوبات حتى توافق طهران على إعادة التفاوض على شروط الاتفاق المتعلق بخطة العمل الشاملة المشتركة المبرم في فيينا سنة 2015- نفس إمكانيات أنقرة العسكرية والدبلوماسية لتأكيد طموحها في أن تكون قوة إقليمية بلا منازع؛ وأن تكون أيضا، كما تزعم ذلك منذ الثورة الإسلامية عام 1979، “الوطن” المرجعي للشيعة.
كما أن الجيو-سياسية الغازية لتركيا (لها ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي) لا تواجه إلا لوما ضعيفا من جانب الإدارة الأمريكية، في حين تعاني إيران، المتهمة بدعم الإرهاب، من إجراءات انتقامية شديدة. ومع ذلك، فإن طهران ليست بدون حلفاء استراتيجيين (مثل أرمينيا والصين)، وليست دون أتباع ملزمين (مثل الميليشيات الشيعية العراقية أو حزب الله اللبناني وبدرجة أقل الحوثيين اليمنيين)، ولا من داعمين (مثل نظام الأسد السوري)؛ ولها أيضا قوة مساعدة (مثل الهزارة الأفغان الشيعة الفارين من الحرب في بلادهم والذين يجدون أنفسهم، بالنسبة لأصغرهم، مجندين قسريًا عندما يلجؤون إلى إيران).
تحتفظ إيران أيضًا بعلاقات جيدة مع الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو أحد المكونين اللذين يشتركان في التحكم على كردستان العراق. وكما يحلو لإيران ذكره فهي ليس لها أي نزاعات مع أذربيجان.
وضع صعب على الجبهة الداخلية
بالمقابل يواجه النظام على المستوى الداخلي حركات احتجاجية في كل من محافظة بلوشستان وخوزستان، التي يسكنها العرب السنة، وكذلك في محافظته الكردية، على الحدود مع تركيا والعراق، وهي أحد أفقر المناطق في البلاد. تقوم إيران هناك باعتقالات جماعية تطال المدافعين عن الديمقراطية وحقوق المرأة، فضلا عن اغتيالات مستهدفة ضد الكولبار، هؤلاء المهربين المعدمين الذين يحاولون عبور الحدود لبيع بضائعهم أو إدخالها.
من جهة أخرى، لا يزال وضع إيران الاقتصادي مقلقا، نتيجة للحصار الأمريكي وبسبب أخطاء تسيير خطيرة، عشية الانتخابات الرئاسية التي تهدف إلى استخلاف حسن روحاني الذي يتعرض لانتقادات شديدة. يوجد إلى حد الآن ما لا يقل عن سبعة متنافسين لاستخلافه، جميعهم من “المحافظين” الذين ينتقدون بدرجات متفاوتة غياب العزيمة لدى الرئيس المنتهية ولايته.
كان هناك وقت في الماضي يحب فيه الأتراك والإيرانيون التذكير بأنهم لم يتحاربا فيما بينهما منذ 300 عام. واليوم، كل شيء يوحي بأن هذه الهدنة السارية على امتداد ثلاثة قرون والتي ضعفت، توشك على الانتهاء.
كاتب ووسيط ثقافي سابق
المصدر: أورينت21