دفع السوريون ثمناً باهظاً من أجل حلمهم بوطن يستردون فيه حريتهم، ويعيشون فيه بكرامتهم، ولم يكن لهذا الثمن أن يكون باهظاً إلى هذا الحد، لو أن من يحكمون سوريا تصرفوا ولو للحظة واحدة بمسؤولية ما اتجاه سوريا والسوريين، ليس هذا في سنوات الثورة فحسب، بل منذ اللحظة الأولى لوصول حافظ الأسد الى كرسي الحكم في سوريا، لقد كان هاجسه الوحيد هو السلطة واستمراره في كرسيها.
كثيرة هي الشواهد التي تعكس حقيقة فهم عائلة الأسد للسلطة، وهوسهم بها من جهة، ولفهمهم لمعنى الدولة والمجتمع من جهة أخرى، شواهد فاضحة منذ لحظات انقلاب حافظ الأسد الأولى، مروراً بمجازر حماة وحلب وجسر الشغور، وسجن تدمر.. إلخ، ووصولا إلى وقائع الثورة خلال سنواتها العشر، لكن ما فعله رفعت الأسد عندما تردت حالة شقيقه حافظ الأسد الصحية، ورأى أن دوره قد حان لاغتصاب السلطة، فابتز وهدد بتدمير دمشق، وقام بتوجيه كل ترسانته العسكرية التي تملكها وحدته العسكرية “سرايا الدفاع” باتجاه دمشق، كانت الرسالة الأشد وضوحاً.
قالها رفعت الأسد بجنازير دباباته وفوهات مدافعه سنة 1984م، ثم قالها بشار الأسد مكتوبة على كل جدران سوريا “الأسد أو نحرق البلد”، عند وراثته للسلطة، وها هو يفعلها منذ عشر سنوات بكل ما يملك من وسائل القتل، وبكل ما يمكنه من استحضار لمرتزقة أو جيوش.
في طريقها لتكريس سلطتها وديمومتها، كان لابدّ لهذه العائلة من هدم كل ما من شأنه أن يحمي الدولة والمجتمع، في زمن الأزمات والكوارث والخضات الاجتماعية أو السياسية، فهُدمت الدولة، وأقيمت دولة على مقاس العائلة، وفُصّل الجيش على مقاسها، والبرلمان على مقاسها، والقضاء، والإعلام، والجامعات والمدارس والمنظمات وحتى أئمة المساجد… كل شيء فُصّل على مقاس سلطة هذه العائلة، لكن المهزلة الأكبر كانت عندما فُصّلت الأحزاب أيضاً على مقاسها.
منذ البداية كانت الركيزة الضرورية التي تؤسس لكل تفاصيل هذا التحول، والتي ستضعف سوريا إلى حد إخضاعها الكامل، تتلخص في إنهاء الحياة السياسية في سوريا، ومنع الأحزاب والنقابات والمنظمات المدنية من ممارسة أي فعل حقيقي في المجتمع، وتم استبدال الحياة السياسية الطبيعية ببديل مسخ ومشوه سُمي “الجبهة الوطنية التقدمية”.
لم تدمِّر الثورة السورية سوريا كما يتفاصح بعضهم، ما فعلته الثورة السورية في عقدها الذي انتهى منذ أيام، هو أنها أزاحت الستار عن الخراب الهائل الذي ينخر جسد سوريا بسبب حكم هذه العائلة، وأنهت الدجل الذي مارسته هذه العائلة طوال فترة حكمها حول الممانعة، وسوريا الحديثة، وكشفت أيضا الحقيقة الأهم، والتي لم تحظ بما يجب من الاهتمام، وهي أن سوريا ما كانت لتدفع كل هذا الثمن لو أن فيها حياة سياسية وأحزاب، ونقابات، ولو بالحد الأدنى.
إذا كان “الربيع العربي” قد فتح آفاقا جديدة أمام المجتمعات التي وصلها، فإن هذه الآفاق أُغلقت، أو ستغلق مرة أخرى، إذا لم تسارع نخب هذه المجتمعات إلى إعادة حياة سياسية حقيقية فيها، وإلى إيلاء صناعة الرأي العام الأهمية القصوى، وإلى إعادة الاعتبار للمرتكزات الأساسية التي تحمي المجتمع، وتفتح أمامه سيرورة التطور، والتي تأتي الدولة المحايدة، والحياة السياسية المحكومة بالدستور والقانون في مقدمتها.
اليوم أو غداً، ستطوى صفحة عائلة الأسد، فهذه العائلة “المافيا” لن تتمكن من الاستمرار، ليس لأن خصومها انتصروا عليها بمعارك السلاح، ولا لأن المجتمع الدولي يساند الشعب السوري، بل لأنها عندما دفعت بانهيار الدولة والمجتمع من أجل بقائها، دفعت أيضا باتجاه انهيارها هي أيضاً، لكن السؤال الذي يلح الآن:
ماذا بعد نهاية هذه المافيا؟
لا أدري لماذا لا يحظى هذا السؤال بما يستحقه من التحضير، ولا أدري من أين يأتي هذا الاطمئنان إلى أن رحيل هذه العائلة سيحلّ الجزء الأكبر من المشكلة، وأن ما تبقى لا يعدو كونه ترتيب حكومة أو صيغة سياسية، أو اتفاقا ما بين أطراف خارجية وداخلية، رغم أن تجارب العراق ولبنان المجاورتين لنا لاتزال طازجة، ورغم أن إعدام صدام حسين، وإعدام القذافي، ورحيل حسني مبارك لم ينقذ العراق ولا ليبيا ولا مصر!
كيف سيتعايش السوريون، وكيف سيتدبرون كل هذا الخراب، كيف سيرتبون أولوياتهم، وأولويات تعافي بلدهم بعد كل هذا الدم، وهذا الدمار، وهذا الضعف في كل مجالات الحياة، وهل سيحتكمون في أيامهم القادمة للمنظومة إياها التي دمرت بلدهم، لكن بوجوه ومسميات جديدة؟
قد يبدو السؤال ساذجاً، وربما يميل الكثير منا لعدم الخوض فيه فثمة – برأيهم – ما هو أكثر إلحاحاً، لكن دروس تجربتنا، ناهيك عن دروس تجارب أخرى تخبرنا أن الكارثة قد لا تقف عند رحيل هذا الشخص أو ذاك، لا بل ربما تكون الكارثة أفدح بعد ذلك.
هل سنعيد تجربة سنوات الثورة السورية الأولى من جديد، فنعيد تفاصيلها الفاجعة مرة أخرى، ألم تخبرنا وقائعها أننا دفعنا كل ما دفعناه لأننا لم نكن شعباً، بل كنا عصبيات سلمت أمرها لمن لا يهتم لأمرها، فذهبنا إلى طوائفنا وقومياتنا، وتصنيفاتنا المتعددة، ونسينا سوريتنا، ولم نستمع لمن يختلف عنا، وحاربناه وكفرناه وأسكتناه، والأهم أننا خضنا هذا الصراع بلا أي مرجعية سياسية، أو حتى رؤية تعكس الاختلافات في الرؤى أو البرامج السياسية.
لا يمكننا أن نعيد الصراع إلى حقله الحقيقي بوصفه صراعا بين استبداد وشعب يتوق لحريته، دون أن نعيد للسياسة اعتبارها، من هنا تأتي حاجتنا الماسة لإعادة تشكيل تعبيراتنا السياسية، وحاجتنا الماسة لتشكيل أحزاب سياسية واضحة الأهداف والرؤى، ولها حدودها التنظيمية الواضحة والصريحة، وتخضع في علاقتها فيما بينها لنواظم الديمقراطية، ومحددات الحياة السياسية الطبيعية.
وهنا، لابدّ لنا من الاعتراف أن محاولاتنا خلال هذه السنوات العشر في خلق بنى حزبية وسياسية كانت محاولات فاشلة، ومرتجلة، ومتسرعة، فلم تنتج إلا هياكل هشّة بلا ملامح واضحة، تنقصها الرؤى والرؤية، وتعميها الانفعالات والشعارات، ولا نزال حتى اللحظة، وبعد سنوات نعيد اجترار تجاربنا الفاشلة، ونعيد للمرة الألف اجتماعاتنا التي يغلب عليها الانفعال، والمجاملة، وعدم الجدوى.
نحن بحاجة لأحزاب سياسية حقيقية، لها برامجها الواضحة، ويلتزم أعضاؤها بها وبنظامها الداخلي، وببرنامجها السياسي، وبشروط عضويتها، وبنواظمها وآليات اتخاذ القرار فيها.
إنها مسؤولية النخب السورية كلها، والشباب منها أولا، وهي مسؤولية ملحة لا تحتمل التأجيل، وربما تكون ضرورتها أشد في الداخل السوري اليوم، ففي هذا الخراب العميم لن يكون لنا مخرج إلا عبر تكاتف مسؤول وواع، ترعاه الأحزاب وتغيب عنه الطوائف والأحقاد.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا