منذ أيام أطلت الذكرى العاشرة للثورة السورية، ومرور هذه الذكرى يدفع المتأمل للتمعن بمآلات الثورة وحيثياتها وإفرازاتها، لأنها كانت ثورة شعب حرٍّ أراد استعادة حريته وكرامته. تحمل هذه الذكرى في طياتها كل المشاعر المتناقضة، وتختلط المشاعر لتنتج شعورا بالإصرار على متابعة الطريق حتى تحقيق الغاية. ولكن الأهم من ذلك كله وحتى لا تحضر الذكرى وتغيب الثورة، ويحضر الشعار ويغيب المشروع، هو مراجعة السنوات السابقة، وتحديد مكامن الضعف والإخفاق ومكامن القوة والنجاح. لأن المراجعة والنقد تقوية وإصلاح، والثوار أولى به من أعداء الثورة.
عشرة أعوام على الثورة فهل حققت مقاصدها؟ أم بعضها؟ أم أنّها مقبلة على احتمالات أخرى قد تنفيها؟ فيما يبدو أننا إزاء نزعة حلول سياسية ومجلس عسكري، لا يمكن الحكم لها أو عليها حتى الآن، أو في الحد الأدنى أن تسعى باتجاه التقدم، على أن احتمال نفي الثورة هو أيضا احتمال وارد. ورجوع أشخاص انشقوا عن نظام الأسد، بعد أن كانوا من سدنة نظامه وبتوافق مع المعارضة السورية، يسمى تلطفا «شراكة» وتهافت الانتهازيين نحو هذه الحلول من كل حدب وصوب، يبتغون مناصب تسد جوعهم للسلطة، ويصفق لهم أرباب «الهبوط الناعم» الذين تقمَّصوا اليوم روح الثوار.
مقابل ذلك لا تبسط اليد لحداة الثورة الأوائل، الذين نهضوا بها وضحوا كثيرا من أجل تحقيق مطالبها، وما يطرح من حل للقضية السورية، الذي يعِدُ بمشروع ما جديد يلوح في الأفق، لا يزال قيد التشكل بعسر، يبحث عن عناصره التائهة هنا وهناك، وقد تظل مشاريع هذه الحلول «في حضرة الغياب» طالما الضيق الفكري، والانقياد السياسي يتلبس المعارضة السورية، التي استمر كسلها وفشلت على مدار عشر سنوات في القبض على الأهداف التي طالبت بها الثورة، وعدم حمل المعارضة لفكر الثورة، الذي كان بالإمكان أن يكون محركها وضامن مسارها، ومحققا لمطالب جمهورها، ما قزّم مطالبه إلى خدمات معيشية ومطلبية ضيقة، بدون تقديم للمطالب الثورية الكبرى، فلم يعد يعنيها إلا سلامتها بالفعل المضارع ومراودة المستقبل. وكعادتها ومنذ عشر سنوات تلعب الدول الكبرى لعبتها الوظيفية في تخدير المعارضة السورية، التي تسيدت صفوف الثورة، وتستخدم تلك الدول كل الأدوات للوصول إلى هدفها، وهو وضع عربة تلك المعارضة خلف قطارها، الذي يجدّ المسير نحو أهداف تلك الدول، من خلال مؤتمرات وندوات، يستخدم فيها كل وسائل الإقناع الميكافيلية، ما يولد إحساسا لدى كل معارض بأنه هو الأمير، ومن واجبه استخدام الوسائل كافة ليبقى أميرا، ولو كان في ذلك خيانة لذوي الشهداء والمعتقلين والجرحى، وخذلان الشعب الثائر في الوصول لمبتغاه، وتصبح عندهم الخيانة وجهة نظر، ولها فقه يصف الثورة بأنها أزمة، وأن الثائر مسلح، وتحرير الأرض حرب، وخيانة دم الشهداء تعايش ومواطنة.
وسعت الدول الإقليمية والدولية ذات التأثير بالشأن السوري، إلى التخلص من الفكر الثوري لدى المعارضة السورية، وقامت بإبراز وتوجيه البوصلة نحو عالم الأشخاص، بدلا من الأفكار والمبادئ والقيم الثورية، وبذلك أصبح الأشخاص بديلا للمبادئ والأفكار، وهؤلاء لا يستطيعون الصمود، إذا لم يتلقوا دعما خارجيا من الدول التي اختارتهم، ولا يصلحوا أن يحلوا محل القيم الثورية التي نادى بها الشعب الثائر، وبذلك يتحول الأحرار إلى عبيد وهم لا يشعرون. فيما أدى المال السياسي الذي تدفق على ثورتنا، بتحول النضال الملتزم بقيم ومبادئ الثورة، إلى مجرد نشاط يوظف فيه الناشط والسياسي والعسكري والإعلامي، وغيرهم، تجربته وخبرته لمن يدفع، شأنه في ذلك شأن لاعب كرة القدم. كان المأمول أن تصنع الثورة السورية نصرا حاسما، وفي واقع الأمر فقد اقتربت من ذلك كثيرا في سنواتها الأولى، ولكن المتربصين قطعوا عليها الطريق، لأنها أسفرت عن وجهها الحضاري، باعتبارها ثورة وعي وبعث لقيم التحرر والمواطنة، التي وطأتها أحذية الكهنوتيين. وفي التقدير ثمة أسباب حالت دون اكتمال حلم الثورة. فقد أصيبت الثورة مبكرا «بكورونا التأسلم» الذي عمل نظام الأسد على نشره في نهجها ووعيها. وقد عمل هذا الفيروس على «أسلمة الثورة السورية» حسب بوصلة المتأسلمين السياسية، التي تعمل على استغلال العواطف والمشاعر الدينية عند الشعب، ما أدى لتأخر الحسم في المعركة ضد نظام الأسد. وارتفعت كلفة الحرية، وأنتج عوامل هدم أخرى أنهكت الحراك الثوري وألحقت به ضررا كبيرا، وطبع الثورة بطابع «الإسلام السياسي» ما أدى للفشل والانغلاق والانسداد. فمن حيث المنطلق يعلم الجميع أن الثورة السورية انطلقت لأسباب إنسانية عامة، مرتبطة بقيم الحرية والكرامة، ضد نظام مستبد، لا يمت إلى مصلحة الوطن بصلة، ولا يقيم لآدمية الإنسان أدنى اعتبار، اندلعت «ضد الظلم لا ضد الكفر» وبهذا الفهم فتحت الثورة بابا لكل السوريين، لا لفئة محددة أو طائفة بعينها، لأن معظم السوريين نالهم من ظلم النظام الشيء الكثير. وقد لعب المتأسلمون دورا سيئا للغاية في «أسلمة» الثورة، من خلال استغلال العواطف الدينية واللعب على وتر تجييشها، لأن هناك فرقا بين المسلم والمتأسلم، فالمسلم شخص يتبع دينه، ويطبق أركانه وينعكس على سلوكه وأخلاقه ومعاملاته ويرى الإسلام دينا جامعا، ولا يستغل الدين لتحقيق مآربه. بينما المتأسلم متعصب لفكر منهجه وأيديولوجيته، ويعتقد بصحته دون سواه، ويعادي من يخالفه ويلجأ إلى التدين لإزاحة خصومه والدعاية لحزبه، ويغازل الجمهور بعاطفة الوتر الديني. الثورات تشيخ بانتظام، ثم تنقلب على نفسها، إذا لم تكن هناك استراتيجية ثورية وقيادة تنظيمية، تستثمر الحراك الثوري، فقد كان هناك نابليون في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، وجاء ستالين بعد الثورة البلشفية، وكان هناك ماو بعد الثورة الصينية.
لأن الثورة هي وصول الإرادة الثورية للجمهور، والتحرك نحو الهدف وهو النظام الديكتاتوري لإسقاطه، والبدء بعملية تغيير الحالة السلبية، أو الظلامية التي كرّسها النظام الحاكم عبر القمع والدولة البوليسية. إنه لأمر مؤسف حقا أن ينفصم وعي الثورة، ليصبح واقعها افتراضيا ومحصورا بشعارات وأيقونات. وبعد عشر سنوات من الثورة مازال العمل جاريا على إلقاء القبض على أحلامنا بتهمة التمني. بعد عشر سنوات ثورة مازالت المعارضة تقود الثورة بفكر غير ثوري، بل بعقل نمطي تعود على الفئوية والحزبية، واستئصال المخالف لفكرها، ولم تعمل بالمعنى الصحيح على إدارة حراك ثورة ضد نظام يقمع ويقتل شعبا يطمح للتحرر، بل انحنوا لمكاسب السلطة. بعد عشر سنوات سيجد المتابع لمسار الثورة مثالب وأخطاء كثيرة منها:
أولا: انعدام الوعي الثوري عند قادة الثورة، وميلهم لعسكرة الثورة بشكل تقليدي في الشارع، ما أورث هذا الحال انقساما في الصف الثوري.
ثانيا: العجز عن جمع الكلمة، نتيجة عدم تحقق الوعي بالثورة، وخوفا من ضياع مكتسبات سلطوية خاصة، إذ لو تحقق الوعي الثوري عند القادة لفهموا أن قوتهم مستمدة من اجتماعهم واصطفافهم لتحقيق هدف واحد، ما أدى لتبعثرهم في سؤال الشريعة وتطبيقها، وتصنيف الناس على أساس خيارهم إلى إسلامي وعلماني.
ثالثا: الثورة مشروع سياسي، والجهل في اختيار الأصدقاء وتحديد الأعداء كان غالبا على مسار من تصدر قيادة الثورة.
رابعا: التخوين، هذه الجرثومة التي أصابت الكثير وأصبحوا يرون بسببها الثائر المخالف لهم في رأيه مخالفا لهم في الغاية، وقد أنتج هذا الأمر تشظيا غير مسبوق في عدد الفصائل العسكرية والمحافل السياسية.
خامسا: خرج الثوار للخلاص من الاستبداد بالسلطة والحكم، ولكنهم وجدوا قياداتهم بشتى أطيافها لا يتداولون القيادة، إلا بتدخل من عزرائيل، نتيجة عجز عن تصدير الأشخاص المناسبين لقيادة المرحلة على أساس الكفاءة والإنجاز، والاكتفاء بقيادات تقليدية بوعي قديم.
سادسا: سقوط الكثير من القيادات في المجالات التي تصدروا قيادتها في اختبار النزاهة الثورية، وامتحان المال العام، وطرق وأساليب كسبه المشروعة.
سابعا: الانحراف عن مبادئ الثورة، التي تقتضي الالتزام بأس الأخلاق الكريمة، ومحاولة المتاجرين بالثورة صبغها بأخلاقهم.
ثامنا: أفرزت الثورة السورية خواء على مستوى القدوات، فمع كثرة المتساقطين، انكشفت للناس نوعية القدوات التي كانت تتبعها وتخلفها عن القيم والأخلاق قبل عامة الناس.
تاسعا: التشبيح باسم الثورة، وهذا الأمر يجب عدم السكوت عليه، ولا تعليله باسم الأولويات، فمن يرى أن هذه استثناءات لا تستدعي التصدي لها الآن، فإنما يؤسس لأن تصبح هذه الاستثناءات هي الأساس. فالشعب الذي عانى من تصرفات وحواجز الشبيحة، يجب عدم القبول بحواجز باسم الفصائل العسكرية المنتمية للثورة، لأنها تمارس تشبيحا أقل، وليس لأن العصابة الحاكمة تقتل الناشطين والإعلاميين وتخفيهم باسم محاربة الإرهاب، يعني القبول بضرب وإهانة واعتقال هؤلاء باسم الثورة، وإذا كان نظام الأسد يمارس الاستخفاف بالشعب السوري ونخبه، فليست مهمة الثورة والثوار تقليده في الاستهزاء مع من يختلف معهم بالرأي وتخوينه واتهامه ليثبت هؤلاء صحة وجهة نظرهم.
هذه الأخطاء والتجاوزات وغيرها من الممارسات على المستوى اللفظي والفعلي، ليست في مصلحة الثورة، والسكوت على التجاوزات وتبريرها يعيق تقدم الثورة نحو بناء مجتمع مواطنة مختلف، عن ذلك الذي أسس له الأسد في جمهورية الخوف والرعب والقهر. تلك ليست مهمة محصورة في جهة واحدة من الثورة، بل ثقافة يجب أن تشاع، والتملق والخوف من مواجهتها ليس فيه أي نوع من حماية الثورة، بل العكس هو الصحيح. هدف الثورة إسقاط منظومة نظام الأسد، والعمل على بناء نظام مواطنة عادل، وهدف نظام الأسد القضاء على الثورة، وإن لم يستطع يعمل جاهدا لتحويلها من خلال روسيا وإيران والدول التي تدعمه من ثورة أحرار، إلى ثورة عبيد. وهذا يتطلب توصيف الشخوص وتحديد موقف ممن حضر مؤتمرات سوتشي وأستانة مدعيا تمثيله للثورة، وهناك وجهات نظر مختلفة اتجاه هؤلاء، الذين ذهبوا إلى سوتشي تصل حد التوصيف بالخيانة، واختلاف وجهات النظر ليس نابعا في لبس وغموض في الموضوع، وإنما نابع من مفهوم قيم الثورة. من قاطع المؤتمرات عليه أن يقاطع من ذهبوا إليها، ومن يصف نتائج المؤتمرات عليه أن يصف فعل الذين شاركوا، وبناء عليه يحدد وجودهم أو عدمه ضمن صفوف الثورة. وفي ذكرى الثورة تستدعي اللحظة الثورية مقارعة الوثنية الدستورية، فحتمية التمايز بين ثوابت الثورة ومتغيرات السياسة تملي على الثوار استعادة يقظتهم لامتلاك منابر الحق، فليس هناك ثورة في التاريخ تطيع الدستور، الثورات تكون دائما وأبدا غير دستورية، الثورة تستمد شرعيتها من نفسها، ودستور النظام يسقط تلقائيا، بدون الحاجة إلى أي إجراء آخر. عندما تفرض الثورة نفسها ويقوم حولها إجماع شعبي أو شبه إجماع، الدستور القديم يسقط ليس من خلال آليات يحددها هو، ولكن من فعل يأتي من خارجه ويلغيه، هذا الفعل هو الثورة.
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي