إعادة الإعمار في سورية لمن الكعكة؟

إبراهيم نوار

لم تسكت المدافع بعد. وما تزال سوريا مقسمة بين إرادات سياسية متعارضة. لكن الصراع على كعكة إعادة الإعمار لم يتوقف، منذ عام 2012 أي بعد عام واحد من انفجار الصراع الذي أدى إلى حرب أسدية ضد الشعب. الكعكة كبيرة قدّرها ممثل الأمم المتحدة السابق في سوريا ستيفان دي ميستورا بما يتراوح بين 250 إلى 450 مليار دولار، بينما تصل الآن إلى ما يقرب من تريليون دولار، وتشمل إعادة بناء كل شيء في سوريا تقريبا، من المرافق الأساسية المادية إلى المساكن إلى رأس المال البشري والزراعة والصناعة والطاقة ومؤسسات الدولة. ومن ثم فهي تستحق العناء والصبر، لأن الفائز سيحصل على مكافأة ضخمة. ويقدر البنك الدولي أن عودة الاقتصاد السوري إلى ما كان عليه قبل عام 2011 سيحتاج إلى 10 سنوات على الأقل، إذا توفرت شروط التمويل والمهارات البشرية والتنظيمية والتكنولوجيا الملائمة لتحقيق نمو في الناتج المحلي بمعدل يزيد عن 5 في المئة سنويا. أما إذا تحقق النمو بنسبة 3 في المئة فإن سوريا ستحتاج إلى 20 عاما لكي تعود إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.

كيف تتم إعادة الإعمار؟

بدأ الإعداد لإعادة بناء سوريا بتشكيل مجموعة دولية تحت اسم «مجموعة أصدقاء سوريا» داخل إطار يضم 60 دولة ومنظمة متعددة الأطراف تشارك فيه الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وعقدت مجموعة العمل التي تتولى التنسيق من أجل الإنعاش والتنمية الاقتصادية أول اجتماع لها في أبو ظبي ايار/مايو 2012. وعلى الرغم من التعهدات بالمساعدات والتمويل، فإن سوريا لم تشهد أي خطوات عملية للإعمار بسبب استمرار الحرب. وهكذا فإن دور البنك الدولي والأمم المتحدة ومجموعة أصدقاء سوريا تبخر تماما، باستثناء عدد محدود من المشروعات، معظمها لأغراض إنسانية مثل مشاريع الإغاثة للاجئين والنازحين، ومشروع إعادة تأهيل محطتين لتوليد الكهرباء في طرطوس وحماة، مولته اليابان بقيمة 11.5 مليون دولار، بمقتضى مذكرة تفاهم مع برنامج الأمم المتحدة الانمائي عام 2016 ونفذته شركة ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة.

روسيا والنفط

أحدث دخول روسيا إلى ساحة الحرب السورية عام 2015 تغييرا جوهريا في قواعد لعبة الصراع بين الأسد وخصومه. وبينما كان الرئيس السوري قاب قوسين أو أدنى من السقوط، فإن روسيا مدت له يد العون وساعدته على فرض سيطرته على ما يقرب من 65 في المئة من الأراضي السورية. وبلغت تقديرات تكلفة التدخل الروسي في ذروة الحرب بما يتراوح بين 2.4 مليون إلى 4 ملايين دولار يوميا. وفي مقابل هذا التدخل حصلت روسيا على مكاسب مهمة، منها تصفية عدة آلاف من المتشددين الإسلاميين من بلدان الاتحاد السوفييتي السابقة مثل الشيشان، المنخرطين في الصراع المسلح ضد الحكومة السورية. وتوسيع الوجود العسكري الروسي في شرق البحر المتوسط في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية.

وعلى الصعيد الاقتصادي تعتبر روسيا الرابح الأكبر بين الدول الحليفة لنظام بشار الأسد، خصوصا مع دورها في إعادة تشغيل قطاع النفط والغاز. وفي هذا السياق وقعت الحكومة السورية مع روسيا عددا من الاتفاقيات تمنح شركات روسية صغيرة مملوكة لمقربين من الرئيس الروسي بوتين، عقودا تصل مدتها إلى 50 عاما لإعادة تأهيل وتشغيل حقول النفط والغاز القائمة، والتنقيب عن النفط والمعادن داخل الأراضي السورية وفي المناطق البحرية قبالة شواطئها في شرق البحر المتوسط، على أساس نسب مشاركة تبلغ 70 في المئة للجانب الروسي و30 في المئة للجانب السوري. وتقدر قيمة العقود الروسية في قطاع النفط والغاز السوري منذ عام 2017 حتى الآن بما يقرب من 40 مليار دولار.

ويتم إنتاج النفط والغاز حاليا في محافظات الحسكة ودير الزور وتدمر وبالقرب من دمشق. وتتولى شركات روسية تشغيل الحقول الخاضعة لسيطرة الحكومة، بينما تتولى شركات أمريكية صغيرة، معفاة من العقوبات، تشغيل الحقول في المناطق التي تخضع لسلطة قوات سوريا الديمقراطية. ويتم تصدير كميات قليلة حاليا من النفط السوري مقابل الحصول على الوقود، بعد أن كان أكثر من 95 في المئة منه يذهب إلى أوروبا الغربية. كما تقوم مصافي النفط السورية باستقبال النفط القادم من المنطقة الكردية لتكريره والحصول على نسبة 30 في المئة من المشتقات النفطية مقابل التكرير. وتشير تقارير مراقبة المعابر البرية أيضا إلى أن نسبة من نفط سوريا يتم تصديرها برا إلى الحدود التركية. وفي مجالات التعدين تعمل الشركات الروسية في استخراج الفوسفات وتطوير المناجم في حماة، وإدارة مجمع الفوسفات في حمص. كما تقوم شركات روسية بتطوير ميناء طرطوس.

وفي عام 2018 أتمت الشركات الروسية تطوير حقول للغاز في شمال دمشق بطاقة إنتاجية تبلغ مليون متر مكعب يوميا. ومع أن تلك الشركات حققت نتائج كبيرة في مجالات تشغيل الحقول البرية وتطويرها، فإن الروس يعتقدون أن ثروة سوريا الحقيقية من النفط والغاز تتركز في منطقتي البادية والساحل بنسبة 83 في المئة، مقابل نسبة تبلغ 12 في المئة فقط في منطقة الجزيرة الغنية بالإنتاج حاليا، التي من المتوقع أن يبدأ نضوب آبارها في عام 2023. وتصديقا لهذه التقديرات قال وزير النفط السوري إن احتياطي بلوك رقم 1 في القطاع البحري السوري يعادل كل الاحتياطي المعروف في الحقول البرية. ولم يبدأ حتى الآن إنتاج الغاز من المناطق البحرية، على الرغم من أن سوريا وقعت في عام 2013 اتفاقا مع شركة سويوز الروسية للنفط والغاز للتنقيب في منطقة حقل عمريت البحري. وليس من المتوقع أن تتمكن سوريا من تحقيق اكتشافات في المناطق البحرية ما لم تشارك في عمليات التنقيب شركات روسية ضخمة ذات خبرة مثل روسنفط وغازبروم. لكن المشاركة المباشرة لهذه الشركات سوف تعرضها للعقوبات. وتقدر هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية احتياطي الغاز الطبيعي في القطاع البحري لسوريا في شرق البحر المتوسط بحوالي 700 مليار متر مكعب. وفي حال استغلاله ستصبح سوريا واحدا من أهم البلدان المنتجة للغاز في العالم.

المصالح الإيرانية في السوق

تعتبر القيادة الإيرانية أن سوريا هي مشروعها الثاني الكبير في الشرق الأوسط بعد العراق. ولذلك فإنها تعتبر أن أي مساعدات تقدمها هناك يجب أن تعود بالنفع عليها. وطبقا لتصريحات أدلى بها علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الأعلى الإيراني فإنها قدمت مساعدات لسوريا تبلغ حوالي 8 مليارات دولار سنويا منذ بدء الصراع. وفي مقابل هذه المساعدات الاقتصادية والعسكرية، حصلت الشركات الإيرانية على امتيازات وعقود في كافة المجالات تقريبا، بما في ذلك صيانة محطات الكهرباء والتجارة والمقاولات والنقل والسياحة. وبسبب نقص السيولة المالية المتاحة للحكومة السورية فإن إيران أتاحت خطوطا ممتدة للتسهيلات الائتمانية المخصصة لتمويل صادراتها إلى سوريا. وحتى عام 2019 تم توقيع ثلاثة خطوط ائتمان بقيمة 6.6 مليار دولار، لا تشمل إمدادات السلاح والمعدات العسكرية. ويتم استخدام هذه التسهيلات بواسطة شركات إيرانية تقوم بتنفيذ التعاقدات التجارية مع سوريا، وبهذا تضمن إيران أن تتم المعاملات السلعية والتسويات المالية داخل دائرة إيرانية مغلقة، لا تتسرب منها الأموال أو السلع إلى أياد سورية.

غير أن إيران لم تتمكن من استثمار بعض الفرص التي أتيحت لها في قطاعات الاتصالات والكهرباء واستخراج وتصنيع وتصدير الفوسفات. ففي كانون الثاني/يناير 2017 وقعت الحكومتان السورية والإيرانية مذكرة تفاهم تمنح الشركات الإيرانية حقوق استخراج الفوسفات من مناجم الفوسفات الشرقية في تدمر، لكن تلك الشركات فشلت في بدء الأعمال. وبعد 6 أشهر سحبت سوريا الامتياز ومنحته إلى شركة «ستروي ترانس غاز» الروسية لاستخراج 2.2 مليون طن من الفوسفات سنويا لمدة 50 عاما مع حصول الجانب السوري على نسبة 30 في المئة من الإيرادات.

وتسيطر إيران على عدد مهم من المعابر التجارية التي تتحكم في حركة السلع عبر سوريا أو مع العراق، أهمها معبر البوكمال الذي تستغله لأغراض مدنية-عسكرية تشمل نقل الأسلحة والذخائر والمسلحين القادمين من إيران إلى سوريا عبر العراق. وكانت إيران قد وقعت اتفاقية تجارة حرة مع سوريا عام 2011 كما وضعت تصميما لمشروع خط أنابيب عبر العراق وسوريا إلى ساحل البحر المتوسط، وربط طهران وبغداد ودمشق بشبكة من الطرق لتسهيل حركة الأفراد والتجارة والاستثمارات.

حدود تأثير العقوبات وقانون قيصر

تخضع سوريا لقائمة واسعة من العقوبات الأوروبية والأمريكية تعرقل في كل القطاعات، لكن بعض المعارضة والمناطق غير الخاضعة لسلطة الاسد مثل المناطق التي تديرها القوات الكردية «قوات سوريا الديمقراطية» تتمتع باستثناء من العقوبات، وتحصل الشركات العاملة فيها على تراخيص تسمح لها بالنشاط، مثل الشركات التي تعمل في حقول النفط والغاز.

ويعتبر قانون قيصر صيغة من صيغ العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على أطراف أخرى، بسبب تعاملها مع حكومات أو مؤسسات تخضع لعقوبات أمريكية. وقد أصدره الكونغرس في كانون الأول/ديسمبر 2019 وبدأ سريانه في 17 حزيران/يونيو العام الماضي. ويتضمن القانون فرض عقوبات على الأشخاص والشركات والبنوك التي تقدم مساعدات للحكومة السورية في أي صورة من الصور، مثل تقديم الدعم المالي أو عقد صفقات كبيرة مع النظام أو الكيانات التابعة له، أو إقراض الحكومة السورية أو إمدادها بتسهيلات ائتمانية، أو المساعدة في إنتاج النفط والغاز، أو تقديم قطع غيار للطائرات، أو إمداد القوات السورية بمعدات عسكرية. ويمكن أن تصل هذه العقوبات إلى درجة خطيرة في حال تصنيف البنك المركزي السوري كمؤسسة تستخدم في غسيل الأموال، وهو ما يترتب عليه فرض عقوبات بواسطة الخزانة الأمريكية.

ولا شك أن تطبيق العقوبات يمكن أن يسبب ضررا كبيرا للنظام الاقتصادي السوري، حتى في حال رفع العقوبات الأوروبية. لكن هذا الضرر قد يصبح هامشيا وغير ذي أثر يذكر، طالما بقيت المعاملات الخارجية لسوريا محصورة مع دول برعت في تحدي نظم العقوبات الدولية، مثل إيران وروسيا والصين. وبالنظر إلى طبيعة المعاملات الاقتصادية السورية مع العالم الخارجي في السنوات العشر الأخيرة، فإن أشد الأزمات التي تعرضت لها سورية بسبب العقوبات حدثت في قطاعي الوقود والتمويل، مما أدى إلى اتساع نطاق أزمات الوقود والكهرباء وانهيار سعر الليرة.

وإذا أرادت تنفيذ مشروعات إعمار ضخمة بمشاركة مؤسسات دولية، فانها لن تستطيع تحقيق ذلك، بسبب قانون قيصر الأمريكي، حيث ستخضع كل البنوك والشركات التي تتعاون مع سوريا لعقوبات ثانوية، كما هو حادث الآن مع الشركات التي تعمل في تنفيذ خط أنابيب الغاز الشمالي الممتد من سيبيريا حتى المانيا «نورد ستريم -2». كما أن دول الاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية المعنية بالإعمار في سوريا، بما في ذلك الصين، أصدرت إشارات واضحة بعدم استعدادها للمشاركة في مشاريع الإعمار ما لم تتوقف الحرب، ويتم التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة للأوضاع، تنهي الصراع بين الأطراف المختلفة في سوريا. ونتيجة لذلك فإن الدول التي تتمتع بامتيازات اقتصادية في سوريا حاليا ستظل في وضع المستفيد الحصري بمشروعات الإعمار، الممكنة بالتحايل على القوانين الدولية، وهو ما يعني أن عملية إعادة الإعمار ستظل كسيحة ومحدودة لمدة طويلة. ومع بقاء الأسد في السلطة، ووجود مصلحة لأطراف كثيرة في استمراره، بما في ذلك إسرائيل، وضخامة حجم كعكة الإعمار، فربما تتزايد احتمالات المصالحة، وترتيب نوع من الإدارة السياسية يمكن أن يصل إلى حد الاتفاق على إقامة نظام فيدرالي، يسمح بالإدارة الذاتية للمناطق المستقلة نسبيا في شرق وشمال سوريا، وبنفوذ تركي تحكمه ترتيبات إقليمية متفق عليها في منطقة الشريط الحدودي الشمالي الغربي، وهو ما يمكن أن يساعد على تخفيف العقوبات ووقفها تدريجيا. ومن ثم فإن بوابة مشروعات إعادة الإعمار ستصبح مفتوحة على مصراعيها، بعيدا عن العقوبات وعن الحقوق الحصرية التي تتمتع بها حاليا روسيا وإيران في مناطق سيطرة بشار الأسد (حوالي 65 في المئة) وتركيا في الشمال الغربي (حوالي 10 في المئة) والقوى الكردية والولايات المتحدة في الشرق والشمال الشرقي (حوالي 25 في المئة) من سوريا.

 

المصدر: القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى