حملت نهاية العام العاشر لثورة السوريين على نظام بشار الأسد، مزيداً من الإعلانات عن انتصار بشار الأسد في الحرب على السوريين وثورتهم، ولم تكن الإعلانات مقتصرة على نظام الأسد وبعض حلفائه من دول ومؤسسات، بل إن أطرافاً أخرى، وفيها أطراف مصنفة في قائمة «أصدقاء الشعب السوري»، انضمت إلى جوقة أصحاب الإعلانات، واعتبرت أن الأسد انتصر في حرب السنوات العشر.
فكرة انتصار الأسد في معناها، ليست واحدة عند القائلين بها ومروجيها. الأكثرية منهم ترى أن بقاء بشار في منصبه واستمرار وجود نظامه، هو النصر بعينه، وبعض هؤلاء يزيدون في تأكيد النصر، بالإشارة إلى أن نظام الأسد يستعد لإجراء انتخابات رئاسية قبل منتصف عام 2021، ستؤدي إلى فوز بشار بصورة مؤكدة، وتوليه فترة رئاسية جديدة مدتها سبع سنوات، وبعض القائلين بانتصار بشار، يرون أن النصر إنما يعني استعادة سيطرة الأسد على القسم الرئيسي من الأراضي السورية، التي خرج أكثرها عن سيطرته في السنوات الأولى من الثورة، ولا يرى هؤلاء في المناطق التي يسيطر عليها الأتراك ومجموعات متحالفة معهم بمن فيهم «هيئة تحرير الشام» في شمال غربي سوريا، و«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تسيطر على شرق الفرات بدعم من الولايات المتحدة، إلا حالتين مؤقتين، سوف تتم استعادتهما في وقت قريب.
وبخلاف كل من سبق من القائلين بـ«انتصار الأسد»، فإن حلفاء الأسد الأساسيين، وخاصة روسيا وإيران، يرون انتصار الأسد من خلال وجودهما في سوريا؛ لأنهما موجودان برغبة منه، وإذا كان الأمر عند الإيرانيين في إطار المسلّمات والبديهيات، فإنه عند الروس مؤكد وحتمي وسيكون لاحقاً، وهذا ما كرره وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مرات. وثمة نوع آخر من القائلين بـ«انتصار الأسد»، لا تستند رؤيتهم في ذلك إلا إلى تقديرات وأوهام ورغبات في «انتصار الأسد»؛ الأمر الذي يمكن أن يعطيهم دوراً ومكانة سياسية في سياسات شرق المتوسط وفي مستقبل سوريا، وبعضهم يتصور أن ذلك سيعطيهم فرصة لتحقيق مكاسب اقتصادية من خلال مشاركتهم في إعادة إعمار سوريا بعد الحرب.
غير أن مقولة «انتصار الأسد» على تعدد وتنوع خلفيات رؤى ومواقف القائلين بها، لا تجد ما يسندها في الوقائع السورية. فأي «انتصار» هذا بعد كل ما فعله الأسد ونظامه بالدولة والمجتمع في سوريا من تدمير وقتل وتهجير طوال عشر سنوات مضت، كان الأهم في نتائجها ابتلاع السلطة للدولة، ومع الفشل الذريع الذي أصاب الأولى، فقد تحولت الثانية إلى دولة فاشلة، وصارت مؤسساتها وأجهزتها مجرد أدوات لعصابات إجرامية مغرضة، تسيطر بالقوة والإرهاب ليس أكثر، وحيث عجزت عن تأمين سيطرتها، فإنها استدعت دولاً وميليشيات وعصابات مسلحة أغلبها موصوف بـ«الإرهاب» من جانب المجتمع الدولي من أجل إحكام سيطرتها وتكريسها، حيث حوّلت المجتمع إلى كيان مدمر من الناحيتين البشرية والمؤسساتية، ومن الناحية البشرية صار نصف السوريين لاجئين في عشرات من دول العالم، كما صار ربعهم قتلى ومعتقلين ومختفين وجرحى معاقين، وتحول ما تبقى من السوريين إلى أدنى درجات الفقر، وتدهور مستوى حياتهم الإنسانية إلى حدود غير مسبوقة، وخاصة في مناطق سيطرة النظام.
وبدا من الطبيعي، أن ينعكس تدمير البنية البشرية للمجتمع السوري على واقع مؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فتم تدمير أغلبها، وتهميش وإلحاق ما لم يدمر. وعلى سبيل المثال، فإن جميع المؤسسات السياسية والمنظمات الاجتماعية، إما جرى فرط عقدها بحجة مكافحة «الإرهاب» أو أصبحت ملحقة بفروع المخابرات وخاضعة للسيطرة الأمنية، أو تم إضعافها بحيث لا تستطيع أن تفعل شيئاً، وهكذا لم يعد للنظام وليس لرئيسه فقط أي قدرة على الفعل والتأثير خارج الخط الأمني، بل إنه في هذا ليس أكثر من واجهة، تختفي وتتصرف من ورائها قوى الأمر الواقع، وخاصة تلك المحسوبة في عداد حلفاء نظام الأسد روسيا وإيران وميليشياتها، وكلها غير معنية بأي مسؤولية أو عمل حيال السوريين أو أي تقدمات لهم، ما عدا تكريس وجودها وسيطرتها من أجل مصالحها الحصرية.
ولأن الأسد ونظامه وصلا إلى هذه الحدود، فلم يعد بإمكانهما القيام بأي دور في معالجة الأوضاع القائمة ومواجهة تداعياتها، أو السعي للخروج منها سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي، وبالتالي فالأمور جميعها إلى تفاقم على كل المستويات، ولعل الأبرز على الصعيد الداخلي، تزايد التفسخ في البنية الاجتماعية الداعمة للنظام، وكان بين تجليات التفسخ في المستوى الأعلى صراع داخل الحوزة الصلبة للنظام بين آل الأسد وآل مخلوف، وانتهى بتدمير رامي مخلوف والاستيلاء على مؤسساته واستثماراته لصالح بشار الأسد وزوجته، ومن تجليات التفسخ على صعيد مؤيدي النظام وبطانته وداخل أجهزته حالات الموت الغامض لضباط وشخصيات محسوبة على نظام الأسد، وما يحصل في الجهاز الإعلامي – الدعائي للنظام الذي شهد اعتقال واختفاء عشرات المؤيدين العاملين فيه في الآونة الأخيرة.
ومما لا شك فيه، أن تدهور سياسات النظام وأوضاعه على الصعيد الداخلي، تتماثل مع خط موازٍ للسياسات على الصعيد الخارجي، وهو ما يظهر في تعامله مع خصومه الذين صنفهم في مقدمة الفاعلين في المؤامرة الدولية على الأسد ونظامه؛ إذ يتابع مهاجمتهم من جهة، وتمرير رسائل التودد لقبوله كما هو، وكأنه لا يدرك حجم ما ارتكبه من جرائم، تتجاوز في نتائجها وتداعياتها الواقع السوري إلى المحيطين الإقليمي والدولي، ومن الصعب أن يتوافق الاثنان في مسامحة النظام على جرائمه وارتكاباته… ويتابع الأسد سياساته وجرائمه بدلاً من أن يذهب إلى ملاقاة المساعي الدولية نحو حل سياسي على أساس القرار الدولي 2254 مقابل استعداد الفاعلين للمشاركة في إعادة إعمار سوريا، وتشجيع الدول الأخرى على ذلك، ويمتد هذا السلوك بصورة ما إلى علاقاته مع حلفائه الذين كان لهم الفضل الرئيسي في بقائه واستمرار نظامه، أعني الروس والإيرانيين، ليس فقط في سياسة التلاعب والتذاكي والكذب معهما، أو تشجيع التنافس بينهما، والاستيلاء على بعض مساعدات يقدمها الطرفان، يستولي عليها رأس النظام أو بعض بطانته، وقد تسربت في العام الماضي من المصادر الروسية، وأقل من المصادر الإيرانية عن خلافات الاثنين مع نظام الأسد بسبب تلك الحالات.
وسط تلك المحصلة من تردي نظام الأسد وتدهور سياسات رئيسه، تتوالى إعلانات «انتصار الأسد». وإذا كان ذلك من السهل قوله من جانب النظام ورئيسه الذين أعلنوا انتصارهم منذ الأيام الأولى للثورة، ورددوا مئات المرات كلمة «خلصت» تعبيراً عن انتصارهم، فإن من الغريب صدور تلك الإعلانات عن آخرين في وقت يعرفون ويعرف العالم كله وقائع ومعطيات وحقائق، تؤكد استحالة انتصار الأسد في الصراع السوري.
المصدر: الشرق الأوسط