تبعد سورية عن الشعب السوري مسافة عشر سنوات من المآسي والفقدان وعشرات المجازر، ومئات آلاف الجثث من الضحايا والشهداء، وأكثر من مئتي ألف معتقل يدفعون ثمن الحرية طريقا إلى الحياة، ولا يزال الزحف إليها هدفاً نبيلاً لا مساومة عليه، يتبنّاه بعضنا جهاراً سواء داخل سورية أو نحن بحكم بعدنا عن سوط الديكتاتور وجغرافية نفوذه، وبعض منّا محكوم بمكانه وأمانه وحيّزه الجغرافي، يلوذ بالصمت القابل للانفجار، والذي يستشعر ناره النظام السوري، ويتلظّى من وهج لهيبه، وربما تحترق منه روابط المصالح الجامعة لهم كأسرة حاكمة بأبعادها (الأسد، الأخرس، مخلوف) وأجهزة أمنية وتجار وأثرياء حرب.
الطريق إلى سورية الساعية إليها الثورة، هي كما عبر عنها أهلها قبل عشر سنوات، وقبل أن تمتد الأيدي الكثيرة لتغير معالم تلك المطالب وجدول أولويات الثوار، وسبلهم السلمية وتعبيراتهم عن تلك الأهداف، وتترك أمر ثورتهم بين من ليس منهم، وتربط حراكهم بمصالح الدول المتصارعة على “الغنيمة السورية”. وليس هذا الطريق، على الرغم من وعورته، بعيداً إلى درجة اليأس والتسليم ببقاء النظام الحالي، بكل مكوناته وأدواته، عبر بوابة إعادة انتخاب بشار الأسد ولايته الرابعة، وسط دعم روسي – إيراني، ومن بعض الدول العربية، سواء التي جاهرت بعلاقتها مع الأسد (الإمارات مثالاً)، أو تلك التي تلعب من تحت الطاولة الأميركية. وحتما هو ليس درباً معبداً يسهل العبور من خلاله إلى حق السوريين، ما يعني أن العمل للوصول إلى سورية يتطلب إزالة الألغام والمطبّات التي تمترس النظام خلفها، وبعضها صنعتها المعارضة بنفسها.
الرهان على خسارة السوريين حقهم في سورية موحدة، يتظللون بعدالة دستورها لأبنائها، بمختلف تلويناتهم السياسية والمذهبية والقومية، وتحكمهم حقوق المواطنة وواجباتها هو رهان مبكّر جداً في سياق انتصار الثورات الشعبية في العالم، ولكنه قد لا يعني حتمية الانتصار، بخاصة إذا بقيت الثورة السورية تحمل أكثر من معنى، ويعبّر عنها أكثر من مشروع، وتنقسم معارضاتها إلى منصّات وأجندات، وتتحوّل قياداتها إلى موظفين صغار عند أجهزة مخابراتية، أو أذرع لاحتلالات إقليمية أو دولية لجزءٍ هنا أو هناك من الأرض السورية، ويصبح التمسّك بوطنية السوري عيبا يؤخذ عليه ويجرّده من شراكته في ثورة عظيمة، كان هدفها ولا يزال حرية الإنسان وكرامته.
استطاعت روسيا، وقبلها إيران، أن تساند النظام في حربه على السوريين، وأن تعيق سقوطه حسب تصريحات الطرفين، لكنهما، أقصد الدولتين، حتى اليوم لم تعلنا انتصارهما على الثورة، أو هزيمة المعارضة أمام النظام، وذلك لأسبابٍ منها:
أن العمل العسكري بإدارة دولتين كبيرتين، واستخدام أسلحتهما بكل أنواعها، مع استخدام السلاح الكيماوي للنظام وجيشه الجرّار، ضد فصائل “معارضة” مشتتة أهدافاً وتبعيات وتمويلاً وأجندات، ليس إنجازاً تفخر به دولةٌ بحجم روسيا، بما تحاول أن تقدّم نفسها قطبا عالميا يقف في مواجهة القطب الأميركي، وهو ما جعلها تحاول فتح مسارات التسوية بين النظام وأصدقاء المعارضة أو مموليهم، بدءا من مسار أستانة بين الشركاء الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا)، وصولاً إلى المسار الإنساني الذي استبعدت فيه إيران لتضم قطر إليها، وكما تحاول موسكو تغييب دمشق عن صنع قرارها، فقد استطاعت تحجيم المعارضة، وتجاهلهم عند عقد اتفاقات التسوية مع داعميهم، ويأتي هذا الحراك الروسي نحو دول الخليج لأسباب منها:
أن العمل الاقتصادي في سورية في ظل عقوبات تشمل الثلاثي (النظام ، إيران، روسيا) ليس مجديا، وهو عبءٌ لا يتحمّله الداخل الروسي المنهك من العقوبات من جهة، وتبعيات التدخل الروسي في سورية من جهة ثانية، وأخيرا جائحة كورونا بظلها الثقيل على العالم بأسره، فكيف ببلدٍ أتعبته الملفات الخارجية والمعارضة الداخلية، ما يلزمها البحث عن مساندةٍ ماليةٍ لا يمكن أن تتحمّلها إلا دول الخليج العربي التي تريد أن تتكئ على جناح آخر بعد خوفها من تخلي الجناح الأميركي عنها؟
تعمل موسكو على تفتيت قرار مجلس الأمن 2254، بالعبث في مراحله، من دون أن تعلن رفضها له، وهي تسحب البساط من تحت المعارضة عبر التقارب مع داعميها، لأن ذلك الطريق يسهل عليها الوصول إلى سقف تطلعاتها بإعلان فقدان الطرف الآخر المقابل للنظام، فالتحاصص مع الدول أسهل من التفاهم مع ثورات الحرية.
ويمكن النظر إلى المسارات الجديدة التي تؤسّسها موسكو، سواء الإنساني الذي أعلنت عنه الأسبوع الماضي (11 مارس/ آذار) مع قطر وتركيا، أو الآخر الذي لم يتبلور تحت مسمّى واضح مع الإمارات أو السعودية إلى ضيق واقع خيارات روسيا للوصول إلى “تسوية غير عادلة” بين النظام والمعارضة، أو فتح الطريق أمامها حتى لا تنهار “جهودها العسكرية” تحت وطأة الجوع الجماعي الذي يعاني السوريون منه جميعاً، وهو الذي يؤسّس لثورةٍ أخرى، بدأت ملامح الخشية منها داخل أروقة النظام الذي تهزّه أصوات خافتة تنتقد واقع المعيشة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن محاولة إعادة كرسي جامعة الدول العربية لدمشق جزء من مهمة اقتصادية لموسكو لإنقاذ الأسد، واجهتها قطر بالرفض، بينما سارعت الإمارات إلى تبنّيها والموافقة عليها.
وهنا تقع مسؤولية الشخصيات الوطنية السورية والأقلام الحرّة في تسليط الضوء على ما يجب أن تتصدّى له المعارضة السورية التي لا تزال تؤمن بمشروعها السوري، من خلال الإصرار على الوقوف على واقع المؤسسات الناطقة باسمها، وإلزامها الإعلان عن مشروعها وتوحيد أهدافه بكل التفاصيل، وإصلاح محتواها التنظيري والبشري، بما يحقّق وجود قياداتٍ فاعلة غير مرتهنة، واللجوء إلى الحاضنة الشعبية مرجعية وحيدة لهم، وتحقيق مهمتها في النهوض بمؤسسات المجتمع المدني، لأداء وظائفها في الدفاع عن حقوق السوريين جميعها، من الصحية إلى الاقتصادية والبيئية، حتى التعليمية، ومعايرة أداء المؤسسات السياسية لضمان أدائها بما يحقق أهداف السوريين ومصالحهم أولاً.
الطريق إلى سورية أقصر من أن نستصعب السير عليه، وأقرب من الطرق المؤدّية إلى عواصم الاحتلال، لكن تذكرة العبور فوقه تحتاج كل توافق سوري – سوري، قبل أن يكون توافقاً مع الدول، لمعرفة هوية السائق وضمان حسن قيادته إلى سورية، وزرع الثقة بأنها دولة لكل السوريين، تمنح السلام لأهلها ولجوارها وأصدقائها.
المصدر: العربي الجديد