بعد عشر سنوات من الانتفاضات السلمية والمسلحة والاجتياحات والتدخلات العسكرية الخارجية قام خلالها نظام بشار الأسد بمساعدة من روسيا وإيران وميليشياتها الشيعية من لبنان والعراق وأفغانستان بقتل 600 الف سوري واقتلاع 5 ملايين نسمة من منازلهم وتهجير أكثر من 6 ملايين مواطن معظمهم الى الدول المجاورة، لا يزال بشار الأسد يحكم، ولكن بيد ضعيفة أرضاً يباباً، أكثر من نصف سكانها يعانون من “فقدان الأمن الغذائي” وفقاً لإحصائيات صدرت عن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في الشهر الماضي. قبل عشر سنوات أدخل نظام بشار الأسد سوريا في قلب الظلام وجلب اليها الخراب العظيم.
وعلى الرغم من جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد (الذي استخدم الأسلحة الكيماوية في 300 هجوم، وفقاً لتقديرات منظمات دولية غير حكومية) ضد المدنيين، بما في ذلك تعذيب وتشويه وقتل عشرات الآلاف من المعتقلين ظلماً، لا تزال هناك أصوات نافذة في الغرب وفي المنطقة تدعي أن نظام الأسد قد انتصر، وأنه وحده قادر على منع سوريا من الانهيار الكامل او الوقوع تحت سيطرة القوى الإسلامية، ويجب التعامل معه كأمر واقع. هذه الأصوات والقوى تدعي أن التعامل مع الأسد، والتلويح بإمكانية العمل على إعادة إعمار سوريا يمكن أن تكون المدخل لمحاولة إخراج القوات الأجنبية او على الأقل التخفيف من نفوذها.
بعد عشر سنوات استخدم خلالها النظام السوري جميع الأنظمة العسكرية في ترسانته الضخمة، من الطائرات الحربية والمروحيات الهجومية التي قصفت المدنيين بالبراميل المفخخة، الى الصواريخ المزودة برؤوس حربية كيماوية، لا يستطيع بشار الأسد أن يدعي أنه يسيطر بالفعل على ثلثي أراضي سوريا، لأن كل المناطق التي انسحبت منها القوات المناوئة له لا تزال غير مستقرة، وفي حالة نزيف إنساني واقتصادي لا تبدو له أي نهاية في الأفق. “الانتصارات” التي يدعي نظام الأسد ومؤيدوه أنه حققها، هي انتصارات وهمية. بشار الأسد لا يزال معزولاً في المنطقة وفي العالم، و”قانون قيصر” الأميركي عزز من عزلته الدولية، لأنه سيحاسب أي طرف خارجي يسعى الى إضفاء أي شرعية على النظام السوري من خلال التعامل معه اقتصادياً او دعمه سياسياً، بعد أن ارتكب أبشع جرائم الحرب في القرن الحادي والعشرين. بشار الأسد وزوجته أسماء هما الآن في الحجر الصحي بعد أن زارهما في دمشق فيروس كورونا.
الأجهزة القمعية التابعة للنظام منهكة، وغير قادرة على استعادة السيطرة على الأراضي التي تحتلها المعارضة المسلحة في مقاطعة أدلب، او الأراضي التي اجتاحتها تركيا في شمال غربي سوريا، او الأراضي التي تسيطر عليها القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا مع القوات الكردية المتحالفة معها. والنظام غير قادر على الاستمرار لأسابيع قليلة لولا دعم سلاح الجو الروسي، والقوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها.
بعد عشر سنوات من المحاولات والوساطات الديبلوماسية التي بذلتها الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والولايات المتحدة وروسيا، وبعد قرارات لمجلس الأمن أبرزها القرار 2254، الذي كان يفترض أن يوفر خريطة طريق لحل سياسي وصياغة دستور جديد، وبعد مفاوضات عقيمة في أوروبا وروسيا، شارك فيها نظام الأسد وبعض القوى المعارضة وغيرها من المبادرات، او الأصح التمنيات، من الواضح أن نظام الأسد لم يكن في أي لحظة مستعداً للتوصل الى أي تسوية سلمية يمكن أن تؤدي الى مشاركة المعارضة في السلطة. هذا النظام، سوف يستغل انحسار الضغوط العسكرية عليه، لينظم، تحت مظلة الحماية الروسية والإيرانية، “انتخابات” رئاسية في الربيع تبقي بشار الأسد في السلطة لولاية أخرى، وليطيل من عمر سلالة الأسد التي دخلت عامها الواحد والخمسين.
نظام الأسد لم يحّول سوريا الى دولة فاشلة، بقدر ما جعلها دولة ممزقة تسيطر فيها روسيا وإيران وتركيا على مناطق نفوذ وتتصرف فيها وكأنها قوى استعمارية. ومنذ أن عسكر النظام الانتفاضة السلمية التي بدأت قبل عشر سنوات، حين بطش بها بعنف رهيب، وبعد أن أطلق من سجونه آلاف الجهاديين المتطرفين ليخطفوا الانتفاضة، وقف بشار الأسد وراء كل تصعيد عسكري بشكل مباشر او غير مباشر. فهو الذي طلب من إيران إرسال ميليشيا “حزب الله” لدعم النظام في بعض أحلك لحظاته في 2013، قبل أن ترسل عناصر من “الحرس الثوري” لحماية النظام، وهو الذي دعا سلاح الجو الروسي في 2015، وهو الذي فتح المجال لبروز القوى الإسلامية الظلامية من “جبهة النصرة” الى “داعش” وما سمّي بـ”الخلافة الاسلامية”. وبعد أن سيطرت “الدولة الإسلامية” على مناطق واسعة من سوريا (والعراق)، اضطر الرئيس الأسبق باراك أوباما الى تشكيل ائتلاف دولي لمواجهة “الدولة الاسلامية”. وهكذا ازدحمت الأجواء السورية بمئات الطائرات الحربية التابعة لعشرات الدول الغربية والإقليمية. هذه الأجواء السورية، بعد هزيمة “داعش” كقوة قتالية منظمة، أصبحت ملكاً لسلاح الجو الإسرائيلي، وسلاح الجو الروسي، والى حد أقل لسلاح الجو التركي.
وخلال السنوات العشر الماضية فرض النظام السوري بمساعدة إيران والميليشيات الشيعية الحصار على عشرات المدن والبلدات السورية ودمر أجزاءً كبيرة منها وقتل الآلاف فيها، وجلب الخراب العظيم الى مدن عريقة وقديمة مثل حلب وحمص وحماة. ووفقاً لمنظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان” تعرض 600 مركز طبي للهجمات منذ 2011، تسعين في المئة ارتكبته قوات النظام.
هذه الجرائم وغيرها التي وثقتها مئات الآلاف من الوثائق التي هربها معارضون سوريون، وبخاصة، المعارض المعروف باسم “قيصر” الذي التقط واحتفظ بعشرات الآلاف من صور جثث السجناء بعد التمثيل بأجسادهم والتي عرضها في الكونغرس الأميركي، (وأصبحت لاحقاً اساساً لقانون قيصر) تشكل الآن جزءاً من الجهود القضائية في الدول الأوروبية والولايات المتحدة والهادفة لإحالة بشار الأسد وأركان نظامه لمحاكمتهم بتهم ارتكاب جرائم حرب. وفي السنة الماضية أصدرت محاكم ألمانية وفرنسية مذكرات اعتقال بحق مسؤولين استخباراتيين سوريين سابقين من بينهم علي مملوك وجميل حسن. وفي الشهر الماضي تم رفع دعوى ضد بشار الأسد بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وتحديداً الهجوم الكيماوي الذي استهدف الغوطة الشرقية في 2013 وأدى الى قتل 1400 مدني. بشار الأسد لم يهزم بعد، ولكنه قطعاً لم ينتصر.
محاولات إعادة الاعتبار إليه والتعامل معه كأمر واقع لن تضفي عليه أي شرعية. الاقتصاد السوري المنهار، والفساد السافر لنظام الأسد وأركانه وعزلته الدولية هي تحديات لا تستطيع روسيا وإيران إبقاء خطرها بعيداً من الأسد لفترة طويلة. كما أن موسكو وطهران غير قادرتين او راغبتين بتعويم الأسد اقتصادياً، ولذلك تريدان أن يأتي الدعم المالي والاقتصادي من الدول العربية النفطية والدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية.
ولذلك يجب أن لا يحصل نظام الأسد على أي دعم اقتصادي او غطاء سياسي من الدول العربية او الأوروبية او المؤسسات المالية الدولية بحجة إعادة إعمار سوريا واستعادة “سيادتها” مع بقائه في دمشق. تضييق الضغوط الاقتصادية ضد الأسد ونظامه من خلال الامتناع عن تعويمه، وتضييق الضغوط القضائية الخارجية ضده وأركان نظامه، سوف يبعث برسالة واضحة لجميع السوريين من معارضين ومن مؤيدين مترددين، أن خلاص سوريا وخروجها من قلب الظلام لن يتحقق طالما بقي الأسد وزبانيته في السلطة.
المصدر: النهار العربي