يسعى هذا المقال إلى مقاربة قرار محكمة كوبلنز ضد إياد غريب بنظرة موضوعية، بعيدة عن العواطف، المؤيدة للحكم أو المستنكرة له، ويستند في بناء هذه المقاربة، فقط على ما تم نشره من معلومات على الشبكة العنكبوتية. وإذ ليس من المجدي هنا إعادة طرح مواقف السوريين، التي باتت معروفة للجميع، حول عدالة القرار من عدمها، لكن من أجل الوصول إلى فهم عميق لهذه القضية، لا بدّ من إعادة سرد وقائعها.
إياد غريب، عنصر منشق عن قوى الأمن السوري منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، أي بعد حوالي 8 أشهر من اندلاع الثورة السورية، خلال وجوده في مدينته الموحسن. انتسب إلى صفوف الجيش الحر، غادر إلى تركيا برفقة عائلته كلاجئ، في العام 2018 وصل إلى ألمانيا كطالب لجوء. خلال التحقيق معه في ألمانيا لدراسة طلب لجوئه، تقدم بإفادة حول عمله في قوى الأمن ومشاركته في اعتقال 30 متظاهرًا من مدينة دوما، ومن ثم احتجازهم في “فرع الخطيب – فرع أمن الدولة 251”. تم استدعائه كشاهد في الدعوى العامة ضد العقيد أنور رسلان المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. بعد الإدلاء بشهادته أمام القضاء الألماني، قررت النيابة العامة الألمانية تحريك الدعوى العامة بحقه بجرم الاشتراك والمساعدة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بدعوى عدم امتناعه عن تنفيذ الأوامر التي تلقاها باعتقال المتظاهرين.
وفقًا للمحامي أنور البني، وهو المطلع على تفاصيل هذه القضية كافة، وكان للمنظمة التي يديرها دور بارز فيها، وهنا أقتبس “إن تجريم المتهم إياد والحكم عليه لم يكن بسبب قيامه بجريمة منفردة من تلقاء نفسه بل بسبب كونه جزءًا من آلة جهنمية منظمة وممنهجة وبأوامر عليا لاعتقال المدنيين السلميين وإخفائهم قسرًا وتعذيبهم وقتلهم تحت التعذيب وإخفاء جثثهم بمقابر جماعية وبطريقة مهينة جدًا”، ومن اللافت أن المحكمة استندت إلى ناحية الاختصاص والمحاكمة والتجريم إلى نصوص القانون الألماني والقانون الدولي في الجرائم الواقعة ضد الإنسانية، من دون أي اعتبار للقانون السوري، وهذا ما أشار إليه أحمد جبر في مقاله المنشور في القدس العربي، إضافة إلى عرضه المهم لنص الفقرة (د) من المادة 112 من قانون العقوبات العسكري السوري: “إذا وقع التمنّع أثناء مجابهة العدو أو المتمرّدين تكون العقوبة الاعتقال المؤقت لمدة لا تنقص عن العشر سنوات. وإذا نجم عن التمنع ضرر جسيم تكون العقوبة الإعدام……”. ونص الفقرة (هاء) من المادة نفسها “يعاقب بالإعدام كل عسكري أبى إطاعة الأمر بالهجوم على العدو أو المتمرّدين”، وكذلك طرحه لقضية موانع المسؤولية الجزائية، وهنا أيضًا أقتبس، وهذا ما يتطابق مع نص المادة 33 فقرة 1 الحالة أ من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية “في حالة ارتكاب أي شخص جريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، لا يعفى الشخص من المسؤولية الجنائية، إذا كان ارتكابه تلك الجريمة قد تم امتثالًا لأمر حكومة أو رئيس، عسكريًا كان أو مدنيًا، عدا في الحالات التالية: (أ) إذا كان على الشخص التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني”.
في الواقع، يطرح قرار محكمة كوبلنز معضلة قانونية تؤثر في جوهر العدالة. القانون بحد ذاته ليس، كما هو شائع، عبارة عن كتلة من النصوص الجامدة، بل على النقيض تمامًا، القانون هو تعبير مباشر عن إرادة الناس وقيمهم ومبادئهم في مجتمع ما، هو انعكاس لأخلاق هذا المجتمع، فإذا تخلف القانون عن مواكبة تطور المجتمع، أو تضمن قواعد قانونية أكثر تطورًا مما هي عليه حال العلاقات في الواقع، سيرفضه المجتمع ويحتج عليه، وهذا ما يؤسس لحالة الثورة ضد السلطة التي شرعت هذا القانون في بلد ما.
إذًا كيف تستقيم العدالة في قضية إياد غريب، عندما تتم محاكمته وفقًا لقوانين ألمانيا المتطورة بأشواط طويلة عن السياق السوري، وكيف تستقيم العدالة، إذا تمت محاكمته من قبل قضاة يجهلون السياق السوري؟ يقول ممثل النيابة العامة الألمانية في مرافعته النهائية أمام المحكمة “كان على علم بذلك وتقبله، فلم يحاول أن يعصي الأوامر حتى عندما كان من الممكن نظريًا ألا يتبعها أو أن يتصرف بشكل مختلف”، ومما لا جدال فيه أن هذا التصريح يعكس إلى حد بعيد الجهل بالسياق السوري، وهو يدفعنا لمواجهة تفصيل مهم هو الأكثر تعقيدًا من وجهة نظري.
لقد بُني الحكم في جوهره على “جريمة” عمل المتهم في أحد الأفرع الأمنية السورية والمشاركة في عملية اعتقال متظاهرين، لكن كيف يمكن لمجرد العمل في مكان ما أن يكون سببًا للعقاب، من دون أن يقترن هذا العمل بارتكاب فعل يعتبره القانون جرمًا؟ من اللافت أن المحكمة اختارت محاكمة إياد غريب وفق إدراكها للسياق القانوني الألماني، وليس السياق القانوني السوري الذي ينتمي إليه إياد والذي جرت فيه وقائع الجرم المنسوب إليه. وما دام الأمر كذلك، فإنه من غير العدل الاجتزاء من السياق، بل يجب الأخذ به كاملًا بكل مفاعيله. لذلك فإن السؤال الرئيس، هل يعتبر العمل في سلك الأمن جريمة في ألمانيا؟ وفقًا للواقعة المسرودة، فإن المتهم شارك في اعتقال متظاهرين شاركوا في تظاهرة، لكن هذه التظاهرة لم تكن مرخصة، هل يعتبر عنصر الأمن الألماني مجرمًا إذا ما اعتقل أشخاصًا اشتركوا في تظاهرة غير مرخصة؟ هذا التساؤل هو ما يطرح عدة إشارات استفهام حول مناقشة المحكمة لشرط توفر القصد الخاص لدى المتهم، والذي من دونه لا يمكن أن تكتمل أركان الجريمة المنسوبة إليه، والذي سأشير إليه لاحقًا.
هناك أسئلة أخرى مهمة لم تُطرح في هذه المحاكمة، ماذا لو رفض المتهم تنفيذ الأوامر الموجهة إليه؟ ما نتائج رفضه؟ هل سيكون هناك خطر على حياته؟ هل سيغير رفضه تنفيذ الأمر من شيء في واقعة اعتقال المتظاهرين؟ وإذا كان إياد قد اعترف بمشاركته في اعتقال 30 متظاهرًا، وهو كان يعلم أنهم سيتعرضون للتعذيب، هل كان بإمكانه، بأي حال من الأحوال، تغيير مصيرهم؟ لقد اعترف بالمشاركة في الاعتقال، الأمر الذي كان سيحصل بمشاركته أو من دونها، لكن أحدًا لم يشهد ضده بأنه ارتكب جريمة التعذيب ضد المعتقلين! إن التساؤلات السابقة تطرح قضايا تمس جوهر العدالة، وهي قضايا يدركها المختصون بالقانون. أولًا شرط توفر حرية الإرادة الذي نوه إليه أحمد جبر في مقاله سالف الذكر، وثانيًا شرط توافر القصد الخاص لدى الجاني في مثل هذا النوع من الجرائم، والذي يعني هنا توجه إرادة الفاعل إلى النتيجة النهائية، وهي تعرض المعتقلين للتعذيب واحتجازهم في ظروف غير إنسانية، فهل ثبت للمحكمة توفر القصد الخاص لدى إياد غريب، وأنه كان يريد بالفعل تعذيبهم واحتجازهم في تلك الظروف؟ إذ لا يكفي هنا توفر القصد العام، والذي يعني في هذه القضية انصراف إرادة الفاعل إلى إتمام عملية الاعتقال فقط.
الملاحقات القضائية في أوروبا ضد مرتكبي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سورية، ليست حكرًا على القضاء الألماني، إذ بالتزامن مع إلقاء القبض على غريب ورسلان، جرى بأمر من الادعاء العام الفرنسي توقيف العنصر في فرع الخطيب عبد الحميد شعبان، لكن تم إطلاق سراحه ووضعه تحت الإشراف القضائي قبل نحو عام لعدم وجود شاهد قادر على الإدلاء بشهادة تؤكد ارتكابه للجرائم المتهم بها، وفي مقدّمها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. كذلك رد القضاء الفرنسي قبل أيام دعوى بحق ضابط منشق يدعى سامي الكردي بعد أن كان التحقيق بشأن ارتكابه “جرائم ضد الإنسانية وتعذيب وجرائم حرب” قد فتح بحقه منذ عام 2017. محمد العبد الله، المعروف بـ “أبو الحيدرين”، مقاتل سابق في صفوف إحدى المليشيات الرديفة لقوات النظام، له صورة وهو يدوس على جثث عدد من القتلى الذين يرتدون الزي المدني، في حين يرتدي هو زيًا عسكريًا، ويحمل بندقية. أفرج عنه القضاء السويدي بعد ثمانية أشهر من الاعتقال لإدانته بإهانة جثث الموتى، وتم إلغاء لجوئه وطُرد من السويد. حينها كتب المحامي أنور البني على صفحته في “فيسبوك”: “لم نستطع دعم جهود زميلنا المحامي رامي حميدو في السويد، والنشطاء السوريين، والشاهد في ألمانيا الذي تقدّم للشهادة ضده، ولم نستطع أن نثبت قيامه بالقتل فحكم عليه القاضي بمدة ثمانية أشهر، أمضاها بالسجن بتهمة إهانة الكرامة الإنسانية”.
يشترك إياد غريب مع المتهمين في القضايا الثلاث آنفة الذكر، في كونه كان يعمل في جهاز أمني سوري، وعلى الرغم من عدم نظر القضاء الفرنسي، وكذلك السويدي، إلى هذه الناحية بوصفها تمثل جرمًا بحد ذاتها، إلا أن القضاء الألماني أخذ بها، وهذا ما أشارت إليه ممثلة النيابة العامة في محكمة كوبلنز، وما ورد صراحة في حيثيات قرار المحكمة وتعليلها للحكم. فبينما اعتبر قاضي التحقيق الفرنسي فعل الانشقاق عن النظام دليلًا على براءة المتهم، اعتبر القضاء الألماني أن إياد غريب قد تأخر في انشقاقه عن النظام. إذًا نحن مجددًا أمام حالة من التناقض في التعامل مع الواقعة ذاتها؛ مجرمون ينتمون إلى البيئة الجرمية ذاتها، يشترك بعضهم بصفة الانشقاق على المنظمة الأمنية المتهمة بارتكاب تلك الجرائم، ومع ذلك يتم تبرئة البعض مما نسب إليه بينما يُجرّم آخرون للأسباب ذاتها! مع التأكيد أن الانشقاق عن النظام لا يجب أن يكون ذريعة لعدم المحاكمة، فالبعض انشق عندما ظن أن سفينة النظام تغرق، وفي حقيق الأمر، فإن هؤلاء حاولوا بانشقاقهم إنقاذ أنفسهم وليس من أجل إعلان رفضهم للجرائم المرتكبة بحق السوريين. إلا أنه من الواضح أنه قد تم التأثير على محكمة كوبلنز عاطفيًا، لا شك في أن الشعور بالظلم والحاجة إلى العدالة لدى الكثيرين لعبا دورًا مهمًا في هذه المحاكمة، لكن المحكمة، للأسف الشديد، ذهبت بعيدًا في هذا المنحى. إذ لم تكن صور ملف قيصر دليلًا ينسجم مع الجرم المسند إلى المتهم، ما دام لا يحاكم من أجل تلك الفظائع، وهذا ينطبق أيضًا على واقعة استماع المحكمة لشهادات عن جرائم التعذيب المرتكبة بحق السوريين في الأفرع الأمنية، إذ لم يكن هناك من شهادة تتعلق بالمتهم بشكل خاص، وكان على المحكمة، لكي تحافظ على موضوعيتها، أن تهمل هذه الأدلة وألا تستند إليها في تبرير حكمها. إذ على الرغم من الدور الحاسم لقناعة القاضي في القضايا الجزائية، لكن الأحكام لا يجب أن تُبنى على الافتراض.
ومع ذلك يبقى الأمر الخطر في هذه الناحية أن في كل واحدة من الدول التي أشرنا إليه هناك محكمة نقض واحدة يلتزم القضاء الوطني قراراتها، وهذه المحكمة ليست ملزمة بما أخذ به القضاء الأوروبي في دولة ما حول الجرم ذاته، كما لا يوجد ما يضمن لنا أن يتم التعامل وفق الفهم القانوني ذاته للجريمة، الأمر الذي يعني الطعن بمبدأ المساواة أمام القضاء، ومن ثمّ الإخلال بقواعد العدالة. وهنا تبرز أهمية أن تكون الإجراءات القضائية ضد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سورية نتيجة للحل النهائي، وتحت إشراف مؤسسة قضائية واحدة، يخضع جميع المتهمين أمامها للقواعد الإجرائية ذاتها وللموقف الأخلاقي نفسه من الجريمة، كل ذلك في سبيل ضمان مبدأ المساواة أمام القضاء. ومع ذلك، فإن عدم وجود آلية قانونية متخصصة بالنظر في الجرائم التي وقعت في سورية، حتى الآن، لا يعني في أي حال من الأحوال أن تتوقف الملاحقات القضائية في أوروبا أو في أي مكان آخر، لكن مع ضرورة مراعاة خصوصية السياق القانوني السوري، وضمان مبدأ المساواة بين المتهمين، وهنا يبرز دور الناشطين والمنظمات الحقوقية السورية، التي لا يجب أن تركز في عملها على ناحية جلب المجرمين إلى المحاسبة فحسب، بل أن تتجاوز ذلك بالعمل على أن ينال كل متهم محاكمة عادلة.
إن الغاية النهائية من مهنة المحاماة لا تكمن في تبرئة موكل أو تجريم متهم، وليست في تحقيق نصر على زميل ما في قضية ما، إنما هي في جوهرها المساهمة في تحقيق العدالة.
المصدر: رواق ميسلون