البناء سورياً على قرار محكمة ألمانية

عمر كوش

سجّل القضاء الألماني سابقة، هي الأولى من نوعها، بإصدار المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز حكماً بالسجن أربع سنوات ونصف السنة على عنصر الأمن السوري السابق، إياد الغريب، لأنه “ساعد بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، من خلال مشاركته باعتقال ما لا يقل عن 30 متظاهراً في مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية، في أثناء خروجهم في احتجاجات شعبية اندلعت فيها ضد نظام الأسد، خلال شهري سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول من العام 2011”.

وجاء الحكم تطبيقاً لمبدأ الولاية القضائية العالمية الذي تعتمده المحاكم الألمانية، ويسمح بمحاكمة مرتكبي أخطر الجرائم، بصرف النظر عن جنسياتهم وأمكنة حدوث الجرائم وزمان أي منها، واستناداً إلى قانون الجنايات الدولية والقانون الجنائي الألماني وقانون العقوبات الألماني، وذلك على خلفية التهمة التي وجهت إلى الغريب بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وتعذيب معتقلين في فروع النظام السوري الأمنية. لكن، وعلى الرغم من أن الحكم يخصّ متهماً واحداً من أفراد النظام السوري، إلا أن وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، اعتبره “حكماً تاريخياً”، بوصفه “الحكم الأول الذي يحاسب المسؤولين عن التعذيب في سورية، وهو على الأقل يخلق بعض العدالة”.

وتعد القضية المرفوعة ضد كل من ضابط الأمن المنشق أنور رسلان والرقيب إياد الغريب، أول قضية جنائية على مستوى العالم ضد مرتكبي جرائم التعذيب العديدة التي ارتكبها النظام السوري منذ قيام الثورة السورية في عام 2011، فيما تستمر محاكمة المتهم الرئيسي، أنور رسلان، التي بدأت في إبريل/ نيسان 2020، حيث وجهت إليه تهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، سيما تورطه في قتل 58 شخصاً وتعذيب أربعة آلاف، خلال عمله في الفرع 251، أو فرع الخطيب الأمني في دمشق، وذلك قبل انشقاقه في 2012.

واستقبل سوريون كثيرون الحكم بترحيب، واعتبره بعضهم “نقطةً مضيئةً في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية. إذ إنها المرّة الأولى التي يصدر فيها قرار كهذا بحق مجرم ينتمي للمنظومة الأمنية لنظام الأسد، وارتكب جريمته من خلال موقعه الوظيفي فيها”. وبالتالي، بات الأمل يسكن سوريين كثيرين بأن يؤسس لمسار شامل من العدالة، ينصف الضحايا، ويقتصّ من مجرمي نظام الأسد، وأن يفتح الباب أمام محاكماتٍ أخرى لرموز النظام لمحاكمتهم على الجرائم ضد الإنسانية وجرائم التعذيب التي ارتكبوها ضد السوريين، وذلك على الرغم من أنه لم يصدر عن محكمة تخصّ مجرمي الحرب.

ولعل الأهم ليس فقط الآثار القانونية والمعنوية للحكم، وهي ليست بسيطة، بل الآثار السياسية المترتبة عليه، والتي على القوى السياسية والمنظمات الحقوقية والمدنية السورية في مختلف بلدان أوروبا وأميركا البناء عليها، بالاستفادة منه، بغية عقد تفاهمات واتفاقات مع القوى السياسية والمنظمات الحقوقية الفاعلة فيها، وتشكيل روابط وتجمعات للضغط على القوى والأحزاب الحاكمة، كي تقوم بجهود لتفعيل مسارات العدالة في سورية، والوقوف بوجه محاولات تسويق نظام الأسد وإعادة تلميعه دولياً، بوصفه شراً لا بد من التعامل معه.

هناك أكثر من مسار يمكن العمل عليه للسير في طريق تحقيق العدالة في سورية، وذلك في ظل تعذّر صدور قرار من مجلس الأمن بإحالة ملف جرائم النظام السوري إلى محكمة الجنايات الدولية، بسبب الفيتو الروسي والصيني، حيث يمكن، على الأقل، القيام بخطوات تُعيد تسليط الضوء على جرائم نظام الأسد، عبر رفع قضايا دولية لمحاكمة بشار الأسد ونظامه على الجرائم الممنهجة التي ارتكبها ضد السوريين، وخصوصا على المستويين، الأوروبي والأميركي. ومنها دعم خطوة الحكومة الهولندية باللجوء إلى محكمة العدل الدولية لمساءلة نظام الأسد عن انتهاكاته اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب التي تعد كل من سورية وهولندا طرفًا فيها.

والواقع أن جرائم نظام الأسد بحق السوريين لا تنحصر في جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب والاختفاء القسري والاعتقال غير القانوني، وكلها مدعومةٌ بالوثائق والصور، مثل الصور الرهيبة التي هربها “قيصر”، أو التقارير الحقوقية الدولية، وخصوصا تقرير “المسلخ البشري” الصادم عن سجن صيدنايا الذي أصدرته منظمة العفو الدولية عام 2017. إضافة إلى شهادات عديدة، وخصوصا الشاهد السوري الذي عرف باسم “حفار القبور”، وقدّم شهادة أمام محكمة ألمانية في شهر سبتمبر/ أيلول 2020، وسبق له أن عمل حفار قبور جماعية لضحايا معتقلات نظام الأسد ما بين عامي 2011 و2017.

وكشف رئيس اللجنة المستقلة من أجل العدالة الدولية والمحاسبة، ستيفن راب، أن الأدلة التي جمعتها اللجنة عن مسؤولية نظام الأسد عن جرائم الحرب تفوق التي توفرت للمدّعين في محاكمة قادة النازية، أو محاكمة الزعيم اليوغسلافي السابق، سلوبودان ميلوسوفيتش، وأن هناك ما يزيد على 900 ألف وثيقة حكومية هرّبت، وورد اسم بشار الأسد في التقارير الموثقة للانتهاكات ضد الشعب السوري.

قد يشكل الحكم على إياد الغريب مؤشراً لمرتكبي الجرائم إلى أن هناك طريقاً للعدالة، بالاستناد إلى مبدأ الولاية القضائية الشاملة

وتدخل كل جرائم نظام الأسد ضمن تعريف نظام روما الأساسي للجرائم ضد الإنسانية، والتي يحدّدها في “مجموعة من الأعمال التي ترتكب في شكل هجوم ممنهج أو عام يستهدف مجموعة من السكان المدنيين بطريقة مباشرة”. وهناك جرائم أخرى ارتكبها النظام بحق غالبية السوريين، وتعتبر من أشكال جرائم الإبادة الجماعية، من خلال منعه دخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المدنية التي حاصرها سنوات، وتندرج ضمن ما نص عليه نظام روما الذي اعتبر جريمة حرب كل عمل يفضي إلى حرمان السكان المدنيين من الحصول على الطعام والدواء.

ما يزال ذلك كله برسم العدالة الدولية التي لا بد أن تأتي يوماً على سورية. لذلك قد يشكل الحكم على إياد الغريب مؤشّراً لكل مرتكبي الجرائم إلى أن هناك طريقا للعدالة، بالاستناد إلى مبدأ الولاية القضائية الشاملة، المدرج ضمن سياق التعاون الإنساني لمنع إفلات المجرمين من العقاب، إلا أن العدالة المنشودة في سورية لن تتحقق من خلال محاكمة أفراد على جرائمهم فقط، بل في محاكمة المتورّطين بالجرائم المرتكبة منذ 2011، وتحقيق العدالة الانتقالية، خصوصا أن أهالي ضحايا المذابح والمجازر التي ارتكبها آل الأسد بحق أبنائهم وإخوتهم وأقربائهم لن يهدأ لهم بال، إلا حين يتمّ تحقيق العدالة، إحقاقاً للحق، وإنصافاً للضحايا وذويهم.

 

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى