قراءة في كتاب: من جبال الطائف إلى وحدة العناية المركزة

أحمد العربي

الكاتب: معتز محمد زين. والناشر: دار نون4 للطباعة والنشر والتوزيع. معتز محمد زين طبيب سوري مختص باطنية، يعيش منذ ١٩ سنة في المدينة المنورة في السعودية. يعمل في مركز طبي هناك. متزوج وزوجته طبيبة أيضًا. أنجبت له خمس من البنات، يعتبرهنّ مع زوجته زهرات حياته. يعيش حياة هنية على كل المستويات. أراد في عيد الأضحى الأخير أن يغير أسلوب قضاء العيد مع عائلته، فقد قرروا أن يمضوا فترة العيد في مدينة الطائف الواقعة على الجبال المحاذية لمكة المكرمة. لتغيير الجو وليبتعدوا قيلاً عن الازدحام واحتمالات الإصابة بكورونا. سافر مع العائلة من المدينة إلى مكة ومن هناك توجهوا عبر طريق الهدى المتصاعد ألى الطائف حيث قضوا أيام جميلة لم تخرج من ذاكرتهم أبدًا.

لم تمض أسابيع على هذه الرحلة حتى حصل متغير قاس في حياة الدكتور معتز. إنه طبيب وجائحة كورونا لم تترك بلدًا إلا ووصلت له. كان يعمل باختصاصه. ولم يكن على علاقة مباشرة مع معالجات كورونا. حيث افتتحت الدولة لهم مراكز خاصة مع أطباء وطاقم طبي خاص. لكن الدكتور معتز لم يستطع أن يهمل من يتواصل معه لمعالجته من كورونا. خاصة أن الاصابات ازدادت، وأن مراكز الدولة لم تعد تستوعب الأعداد المتزايدة، وأن كثير من المصابين المتواصلين معه هم من مرضاه أو من أقربائهم. وهو من خلفية طبية وإيمانية تدفعه إلى ضرورة القيام بالواجب الطبي والإنساني المنوط به، كان يعالج المصابين ويهتم بهم ويرعاهم حتى في بيوتهم. مما أدى لإصابته بالكورونا، كانت إصابته شديدة، ولم يمض وقت حتى أصبح نزيلًا في غرفة العناية المشددة. حيث أصبح معزولًا في غرفة على سرير موصولًا إلى أنبوب الأوكسجين، منقطعًا عن العالم. على سرير لا يستطيع التحرك عليه إلا بصعوبة وعبر الريموت كنترول.

في غرفة العناية المشددة عاش الدكتور معتز ضمن حالة إعادة تقييم لنفسه وحياته، وما عاش وما يعيش. اكتشف مقدار نعمة الصحة التي كان حائزًا عليها وهي أكبر كنز في الدنيا. هو عاجز عن الحركة على سريره. عاجز عن قضاء حاجته. ممنوع من التواصل مع الآخرين، يفكر بزوجته وبناته، يخاف عليهن إن هو مات بهذه الجائحة، يعيش إحساس الإنسان العاجز مطلقًا عن أن يخدم نفسه بأي شيء. في هذه الغرفة عادت إليه جذوة الإيمان، واستحضار العفو الإلهي والعناية من الله والحاجة لله عز وجل في كل وقت. أدرك أن الانسان بكل جبروته وقوته، يكون ضعيفًا أمام أقدار الله. وإن لطف الله به هو الأساس والأولى. توقف عند حدي الإيمان والتفلسف والعلم. وأن لا يغني أحدهما عن الآخر. وأن الجانب الوجداني الروحاني مهم في حياة الإنسان. كما هو الجانب الحياتي المعاش. أدرك الاختلاف بين الغرب الذي يركز على العلم، وبين الذات العربية المسلمة التي تركز على الجانب الروحاني والإيماني. أدرك في عزلته وحيث هو يصارع مرضًا بين الحياة والموت أنه أحوج ما يكون لله يحميه ويعافيه ويعيده لعائلته سالمًا. أدرك عجزه وضعفه حتى عن قضاء أخص حاجاته، وإحراجه من الممرضين ومن المعتنين به. عاش عشرة أيام من العزلة ضحية مرض كورونا، كانت أطول من دهر وقدمت له خلاصة دروس وعبر تحتاج عمرًا. لم يكن مسموح له التواصل مع أهله وأصحابه. عندما خرج معافى بعد عشرة أيام. أدرك أهمية الشمس التي لم يعد يراها. والصحراء التي يتمدد على رملها. والسماء التي يراقب نجومها. وأدرك كم يحب زوجته وبناته. وأدرك درجة التراحم والمحبة التي تابعها على جواله (بعد ذلك) الذي كان محرومًا منه. البعض تبرع بالمال على نية شفائه والبعض بالدعاء والكل تواصلوا معه يهنئونه بالسلامة. أدرك روعة ما زرعت فينا قيم المحبة والتواد والتراحم التي زرعها فينا ديننا الإسلامي. خرج من المرض وفي داخله إحساس بالتناقض بين قيم العقل والقلب. وأن قيم القلب الإيمانية هي التي تعطي للحياة معناها وتساميها وجدواها.

خرج من المشفى وكتب ما عاش قبل أن يعود منغمسًا في الحياة التي كان قد غادرها بهذه الأيام القليلة ولكنها كانت أطول من دهر، وأكثر عبرة من عمر مديد.

في التعقيب على الكتيب لا أجد إلا نقطة وحيدة أود أعالجها في طرح الدكتور معتز لخبرته:

لقد أعلى من أهمية الجانب الإيماني الديني في تجربته على الجانب العقلي الفلسفي الفكري، وقرنه بيننا كعرب ومسلمين وبين الغرب. وأن الغرب مفتقد للتدين والتراحم. وأننا نعيش إيماننا وتراحمنا وتواددنا. وبغض النظر عن درجة دقة هذه الملاحظة. الغرب يعيش إحساس المسؤولية المجتمعية كدولة عن كل أفراد مجتمعه. منذ الولادة حتى سن متأخرة من الحياة. وبهذا المعنى فإن درجة اعتناء الغرب بالإنسان بكل أحواله. نحتاج لعشرات السنين لنصل إليها. فنحن ما زلنا ضحايا أنظمة تقتل شعوبها. وفقر وجهل ومرض وتخلف وصراعات ومآسي. وما ثورات ربيعنا العربي. إلا محاولات أن نستعيد بعضًا من حقوق الإنسان كفرد وجماعة وشعوب. كما أن المفاضلة بين العلم والإيمان خطأ بيّن، صحيح أن الدكتور معتز كان بأمس الحاجة إلى الله في غرفة العناية المركزة. لكنه لو لم يصل إلى تلك الغرفة التي هي نتاج العلم والعقل والتطور. لكان مات كما الكثير من مصابي الكورونا الذين لم تخدمهم ظروفهم أو ظروف بلادهم ليحصلوا على هذه العناية التي حرم الكثير منها في بلادنا العربية والإسلامية خاصة.

هذا هو العلم يكتشف لقاحات كورونا. لعلاج الإنسان هكذا أمرنا الله ليعيش الانسان حبيب الله أفضل حياة وأكملها. العلم والإيمان جدلية الحياة الأفضل والأسمى.

 

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. استدراك على نقطتي الخلاف عند الأستاذ قارئ الكتاب
    النقطة الأولى : هناك فرق واضح عند مقارنة الغرب كدول و أنظمة و مؤسسات تجعل الإنسان هو القيمة الأولى ، ببلادنا المستلبة أصلاً حقيقة الدولة و المواطنة بحيث يفقد الإنسان قيمته ؛ و بين مقارنة الإنسان من حيث هو إنسان يمتلك في داخله مخزوناً أخلاقياً متجذراً يعاكس تيار الأنظمة المستبدة ..
    النقطة الثانية : التجربة القاسية التي خاضها المؤلف تظهر فضل العلم على حياته ، كما تظهر فضلاً آخر أكبر و أعمق و هو من العلم أيضاً : فضل اليد الخفية التي تمسك بالأسباب جميعاً فتفعل هنا و تتعطل هناك ، و تمنح الإنسان في ذروة ضعفه منتهى قوته و سكينته ، و هي ذات اليد التي أظهرت للمؤلف ما في الناس من خير أصيل برغم ما ترزح تحته البلاد من ظلم و اضطهاد .

زر الذهاب إلى الأعلى