الدور والحاجة الروسيان في موضوع التجديد للأسد

عبد الباسط سيدا

من بين نتائج يمكن الخروج بها بعد مرور عشرة أعوام على انطلاقة الثورة السورية (مارس/ آذار 2011) أن الروس يخططون للبقاء في سورية؛ في حين أن الأميركان يستخدمون “الساحة السورية” لممارسة الضغط في العراق، على أمل احتواء إيران، وترتيب الأوضاع وفق تفاهمات جديدة مع تركيا، والحفاظ على أمن إسرائيل بطبيعة الحال.

ويبدو أن الدور الروسي في سورية لم يخرج، منذ البداية، عن إطار التفاهم الأولي مع الأميركان، خصوصاً في مرحلة أوباما؛ كما أنه التزم، هو الآخر، بأمن إسرائيل، وأثبت، في مناسبات عدة، حرصه على ذلك الالتزام، واستمراريته في التمسّك به، وما زال مستمراً في هذا الاتجاه، هذا إلى جانب تحالفه الإيراني.

وقد مارس الروس، منذ البداية، سياسة تضليلية، إذ كرّروا في مواقفهم العلنية، وفي تلك التي أفصحوا عنها، خلال لقاءاتهم مع السوريين المناهضين لحكم الأسد، بأنهم ليسوا متمسّكين ببشار الأسد؛ ولكنهم مع إعطاء الحرية للشعب السوري، ليقرّر بنفسه ما يريده. هذا بينما كانوا، في واقع الأمر، يدعمون النظام بكل أنواع الأسلحة، ويقدّمون له المعلومات والخبرات الاستخباراتية والعسكرية؛ كما كانوا يغطّونه دبلوماسياً في مجلس الأمن، عبر الاستخدام المستمر لحق النقض (الفيتو) ضد أي قرار في المجلس، كان من شأنه الضغط على النظام بأي شكل. وعلى الرغم من موافقتهم على بيان جنيف 1 عام 2012، إلا أنهم، منذ البداية، أكّدوا أن تفسيرهم يختلف عن التفسير الأميركي للبيان، من جهة أنه لا يدعو إلى إزاحة بشار الأسد عن الحكم، بل حاولوا باستمرار تفريغ ذاك البيان من محتواه.

ومع بداية جولات جنيف 2014، حاول الروس، بكل إمكاناتهم، حرف تلك الجولات عن مساراتها، عبر طرح موضوع أولوية محاربة الإرهاب، والدعوة إلى تعاون كل من النظام والثائرين عليه في محاربة الإرهاب. ثم دخلوا على خط “المصالحات” في مناطق مختلفة؛ ودفعوا نحو مسار أستانة 2017، حيث طرحوا دستورهم الجاهز، ثم حولوا هذا المسار إلى محور ثابت نسبياً، يضمهم مع كل من إيران وتركيا؛ وتمكّنوا من سحب المعارضة الرسمية إليه التي شاركت فعلياً، من دون أن تتبنّى ذلك رسمياً، في جميع الجولات، بما فيها الجولة الأخيرة الـ 15 التي كانت في 16 /17 فبراير/ شباط 2021.

ومن الملاحظ أن الهدف الأساس للسياسة الروسية في سورية يتمثل في شرعنة الوجود الروسي، والتغلغل ضمن المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية. ولتحقيق ذلك، يرى القائمون على السياسة المعنية أهمية، بل وضرورة، المحافظة على النظام بقيادته الهشّة التي باتت خاضعة لهم وللإيرانيين في كل شيء، وذلك في مقابل البقاء في واجهة المشهد. ولعل هذا ما يفسّر سعي روسيا المتواصل راهناً، على مختلف المستويات، من أجل ترتيب الأوضاع لتمرير مهزلة إعادة انتخاب بشار الأسد، سواء عبر تعطيل مسار اللجنة الدستورية المضللة أصلاً، هذا المسار الذي لم، ولن يؤدي، إلى نتيجة، وإنما هو مجرّد بدعة روسية تم التفاهم حولها مع الجانب الأميركي، بهدف تكوين انطباع زائف، مفاده بأن هناك جهداً دولياً يُبذل للوصول إلى حل في سورية. وفي الموازاة مع هذا المسار، هناك لقاءات متواصلة في حميميم التي باتت تذكرنا بعنجر اللبنانية التي كان يتقاطر عليها المسؤولون اللبنانيون، لتلقي التعليمات والتوجيهات من المسؤولين الأمنيين السوريين، وتقديم الطاعة لهم. واليوم، يتكرّر المشهد ذاته، ولكن بأشخاص مختلفين، فالشخصيات التي تراجع حميميم سورية، سواء من الموالاة أم من المعارضة المدجنة؛ ومن يستقبلهم هم الأمنيون والعسكريون الروس. أما اللقاءات الأعلى مستوى، فتعقد في موسكو، تماماً كما كان يحصل بالنسبة للقاء مع المسؤولين اللبنانيين الأرفع شأناً الذين كانوا يتوجّهون إلى دمشق.

وما يجري من حديث اليوم عن فكرة تشكيل مجلس عسكري انتقالي، والدعوات إلى تفعيل المسار الدستوري، لا يخرج عن نطاق سياسة كسب الوقت، وتشتيت الانتباه عن الهدف الأساس للروس في المرحلة الراهنة الذي يتمثّل في تمرير عملية إعادة بشار الأسد في الأشهر القليلة المقبلة، وهي الانتخابات التي يبدو أنها باتت محسومة بالنسبة إليهم، وكل ما يسعون إليه، في الوقت الحالي، إنما يندرج في إطار المساعي المبذولة من أجل إضفاء المشروعية الاسمية عليها.

ولعل إشرافهم على المباحثات التي تجرى، من حين إلى آخر، بين وفود “الإدارة الذاتية” وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والنظام، وتسهيلهم لها من بين الخطوات التي تسير في هذا الاتجاه. إذ يبدو أن الهدف الأساسي هو تأمين توزيع صناديق الانتخابات/ المبايعة المفروضة في المناطق التي تشرف عليها الإدارة المعنية، وتتحكم فيها “قسد” عسكرياً بدعم أميركي، وتفاهم روسي. وذلك حتى لا تخرج منطقة شرقي الفرات التي تضم ثلاث محافظات؛ الحسكة ودير الزور والرقة، عن نطاق التبعية الرسمية للنظام، ولو شكلياً.

واللافت أن التركيز على الاتصالات والحوارات بين النظام وحزب الاتحاد الديمقراطي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني) يأتي بالتزامن مع تراجع الاهتمام بموضوع الحوار بين الحزب المذكور وممثلي الأحزاب المرتبطة به من جهة، والمجلس الوطني الكردي من جهة أخرى؛ وهو الحوار الذي كانت تشرف عليها الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ربما يُستشف منه تراجع الاهتمام الأميركي بالموضوع السوري بصورة عامة. وهذا ما يُستنتج من تجاهل الرئيس الأميركي، جو بايدن، لوضع سورية في خطاباته، فأميركا حالياً منشغلة بملفاتٍ أخرى، تمثل أولويات في المرحلة الراهنة، منها الوضع الأميركي الداخلي في ظل حالة الاستقطاب الحاد بين توجهين متباينين: الأول يمثله الحزب الجمهوري بتوجهه الترامبي على وجه التخصيص، وهو الذي يركز على شعار أميركا القوية أولاً؛ في حين أن الثاني يتمثل في الحزب الديمقراطي، والرئيس بايدن بصورة خاصة، ويدعو إلى استعادة علاقات الثقة والتعاون مع الحلفاء، والعمل المشترك معهم في سبيل معالجة مختلف القضايا التي تستوجب تعاوناً دولياً. وهناك موضوع كورونا، والأزمة الاقتصادية التي تلوح بوادرها في الأفق. هذا إلى جانب موضوع مستقبل العلاقات مع الصين، في ضوء التحديات الاقتصادية والتكنولوجية المستقبلية. وكذلك العلاقات مع روسيا، وحرص الأخيرة على استعادة قسط من دورها السالف في عهد الاتحاد السوفييتي.

يبدو أن الموضوع السوري الذي لم يكن أصلاً ضمن دائرة أولويات إدارة الرئيس أوباما الديمقراطية، سيما في سياق سعيه إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران، لم يعد من الأولويات الأميركية في ظل الإدارة الجديدة، على الرغم من تصريحات تصدر هنا وهناك، فالنظام حالياً يستفيد من نفط الجزيرة، على الرغم من تطبيق قانون قيصر، والوجود الأميركي هناك. كما أن الصفقة حول القمح بين تركيا والنظام بوساطة روسية، وأعلن عنها أخيراً، تندرج ضمن هذا الاتجاه. والمؤكد هو أن المباحثات الجارية بين “قسد” وممثلي “الإدارة الذاتية” من جهة، وممثلي النظام من جهة ثانية، لا تجرى بعيداً عن أعين المسؤولين الأميركان الموجودين على الأرض هناك ومعرفتهم.

هل سلّم الأميركان ملف سورية بالكامل إلى الروس، مقابل التزامهم بأمن إسرائيل، وعدم التدخل في أماكن أخرى تخصّ أميركا، العراق وليبيا مثلاً؟ موضوع العلاقة بين حزب العمال الكردستاني والنظام قديم جديد؛ ولا تحمل المباحثات القائمة حالياً جديداً سوى أن توقيتها لافت، وطريقة إخراجها. أما البراغماتية التي أظهرها هذا الحزب من خلال التعاون مع الأميركان فلم تكن بعيدة عن التفاهمات الأخرى مع الروس والنظام في الوقت ذاته. ومع ذلك كله، ينتظر الجميع ملامح الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه المنطقة، سيما بعد التصعيد الإيراني في العراق، وانسداد الآفاق في لبنان، فالسياسة علمتنا أن المتغير في حقلها هو السائد.

لننتظر ونتابع، خصوصاً وأن ما جاء في خطاب الرئيس جو بايدن أمام مؤتمر الأمن “الافتراضي” في ميونيخ (19 فبراير/ شباط الحالي) يتضمن رسائل في مختلف الاتجاهات، وتحتمل أكثر من تفسير.

 

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى