عرض أشهر برنامج تحقيقات أميركي مقابلات حصرية مع كل من قيصر ورفاقه سامي ومعاذ، بالإضافة إلى السفير الأميركي السابق لقضايا جرائم الحرب ستيفن راب.
ويبث البرنامج على قناة “سي بي إس نيوز” ويقدمه سكوت بيلي الذي أجرى المقابلة الشهيرة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عام 2019.
وذكر “راب” الذي يشغل منصب رئيس الهيئة المستقلة للعدالة والمحاسبة الدولية، أنهم أرشفوا أكثر من 900 ألف وثيقة تدين نظام الأسد، بينما تحدث فريق قيصر عن رحلة آلاف الصور من معتقلات النظام إلى الكونغرس الأميركي.
وفيما يأتي ترجمة موقع تلفزيون سوريا لأهم أجزاء الحلقة:
عندما كان معاذ مصطفى فتى يافعاً يعيش في دمشق، استهزأ بصوت بشار الأسد في يوم من الأيام، فزجرته أمه وطلبت منه أن يقول ما يريده همساً، إذ يتذكر أنها قالت له يومها: “علينا أن نهمس بذلك داخل البيت، حتى لو كانت مجرد نكتة”، ويعقب معاذ على ذلك بالقول: “كان الجميع يعيش في خوف من الدولة”.
هذا ويشارك معاذ اليوم مع المنظمة التي يترأسها بمهمة استثنائية تتلخص بتوثيق الحرب السورية المدمرة، حيث يقومون بجمع الأدلة التي تضم وثائق وصوراً وشهوداً وشهادات، ويحدوهم وهم يقومون بذلك الأمل لمحاسبة نظام الأسد على الجرائم التي ارتكبها طوال الحرب التي استمرت لعقد من الزمان. إذ يعمل معاذ وهو المدير التنفيذي لفرقة العمل السورية للطوارئ وهي منظمة دفاعية إنسانية وسياسية مع مجموعة صغيرة من الموظفين على بناء وتأسيس ملف الدعوى، إلى جانب التعاون مع الضحايا وعائلاتهم لتقديم سجل شامل حول القضايا القانونية الجارية.
يذكر أن المصور العسكري الذي يحمل الاسم الحركي: قيصر، قد قدم لمعاذ بعضاً من الأدلة الأكثر بشاعة في يومنا هذا، والتي تضم 50 ألف صورة لرجال ونساء وأطفال تعرضوا للتعذيب حتى الموت على يد جيش الأسد وفروع المخابرات لديه، وقد قام مكتب التحقيقات الفيدرالية بتحليل 242 صورة من تلك الصور، فخلص إلى قرار بأنها لا تحتوي على أي شيء ملفق أو متناقض.
وعن تلك المجموعة من الصور يحدثنا معاذ فيقول: “لن أنسى اللحظة التي وصلتني فيها صور قيصر ما حييت.. كما محال أن أنسى الرعب والقشعريرة التي انتابتني في ذلك اليوم والتي شعرت معها أنها لن تبارحني البتة”.
فرقة العمل السورية للطوارئ
هاجر معاذ مع أسرته إلى الولايات المتحدة عندما كان في العاشرة من عمره، واستقروا بولاية أركنساس. وعندما كان في مطلع شبابه، انخرط في الخدمة العامة وحصل على منحة تدريبية مع عضو ديمقراطي في الكونغرس هو فيك سنايدر وذلك عقب تخرجه من الجامعة، وعن ذلك يقول: “كنت أشعر بالخجل الشديد وبأني حظيت بشرف عظيم وذلك لعملي في قاعات الكونغرس”.
بيد أن معاذاً ترك وظيفته في مجلس الشيوخ في مطلع عام 2011 مع انطلاق الربيع العربي، حيث انضم إلى منظمة دفاع سياسية تعرف باسم فرقة العمل الليبية للطوارئ، وذلك للدفاع عن الديمقراطية في ليبيا، وذلك بمجرد أن سمع عن الاحتجاجات التي قامت في درعا بسوريا. وقتها قام أطفال من مدرسة في تلك المنطقة بكتابة عبارات مناهضة للأسد على الجدران، فتم اعتقالهم، وعن تلك الحادثة يقول معاذ: “لقد تعرضوا لتعذيب وحشي، وبعضهم قتل في مرحلة لاحقة… إلا أن هذه الحادثة ألهمت كل أهالي درعا، تلك المحافظة الواقعة جنوب البلاد، والتي تعود أصول هؤلاء الأطفال إليها، وهذا ما دفع الناس للخروج والمطالبة بالعدالة بسبب ما حدث لأطفالهم”.
وفي الخامس عشر من آذار من عام 2011، بدأت الانتفاضة المدنية في سوريا، إلا أنها تسببت في نهاية الأمر بقيام حرب وحشية، ماتزال رحاها تدور حتى بعد مضي عشر سنوات تقريباً. ومع بداية تلك الأحداث، يخبرنا معاذ أنه أحس برغبة ملحة لمساعدة أبناء بلده، فبدأ بالعمل لدى فرقة العمل السورية للطوارئ، والتي تهدف للدفاع عن حقوق السوريين وحماية المدنيين، وتسهيل عملية انتقال سوريا نحو الديمقراطية مع ترسيخ الاستقرار فيها.
وخلال الأيام الأولى للنزاع، سافر معاذ إلى سوريا، فزار حلب وإدلب وحماة واللاذقية، وذلك حتى يعاين الطريقة التي تقوم من خلالها فرقة العمل السورية للطوارئ بتقديم الدعم للناس الموجودين في المناطق التي يسيطر عليها الثوار. وهناك بدأ مع منظمته بتدريب المنظمات المدنية وتقديم النصح لها على الأرض، مع تقديم المساعدات الإنسانية بشكل مباشر، والتي أتت على شكل أدوية وطحين وملابس، وفي بعض الأحيان كانوا يضطرون لعبور الحدود بشكل غير قانوني عبر تركيا. ومنذ ذلك الحين تطورت المساعي الإنسانية لتلك المنظمة، فأصبحت اليوم تدير مدرسة للأيتام تعرف باسم بيت الحكمة بشمال حلب، إلى جانب مركز مخصص للنساء بشمال إدلب، والمخابز التي تقدم الخبز للأهالي في إدلب، فضلاً عن إدارتها لصيدلية مجانية تعرف باسم صيدلية الأمل في أحد مخيمات النازحين بالجنوب السوري.
وهكذا استطاع عبر عمل المنظمة السياسي أن يتعرف على مسؤولين في الحكومة الأميركية على أعلى المستويات، وعن ذلك يقول معاذ: “لقد ركزنا بعملنا السياسي على التعامل مع البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية والدفاع”، ويرى معاذ بأن الهدف من العمل السياسي هو: “وقف القتل… إذ بوسعنا أن نضع حداً لهذه اللحظة التي لن تتكرر أبداً”.
ولقد طورت فرقة العمل السورية للطوارئ تطبيقاً للهواتف النقالة يعرف باسم: (ساعة سوريا) يعمل على تقديم تحديثات فورية حول عمليات القصف وضربات المدفعية ساعة وقوعها.
واليوم، تشارك هذه المنظمة في الأعمال القانونية، والتي تتمثل بتوثيق أعمال العنف المريعة التي تم ارتكابها بحق المدنيين السوريين، أي تلك الفظائع التي ترى هذه المنظمة بأن نظام الأسد هو من ارتكبها. كما يقوم العاملون في هذه المنظمة بتقديم الأدلة والشهود للقضايا القانونية الجارية حالياً ضد الأسد وأفراد من نظامه في كل من إسبانيا وألمانيا والسويد والنرويج وفرنسا.
العمل مع برنامج ستون دقيقة
في 21 من آب من عام 2013، استُهدِفَ أهالي إحدى ضواحي دمشق بهجمة استخدم فيها سلاح كيماوي فتاك، ثم بدأت مقاطع الفيديو والصور التي توثق الهجوم تنتشر على الشابكة، لتعرض صوراً لرجال ونساء وأطفال يحاولون استنشاق الهواء بعد تعرضهم لغاز السارين الكيماوي القاتل والذي فتك بأجسادهم وتسبب بقتلهم بكل وحشية، حيث قدرت الاستخبارات الأميركية عدد من قتلوا بنحو 1429 شخصاً بينهم 426 طفلاً.
وعندها تواصل معاذ ومنظمته مع منتجي برنامج ستون دقيقة، فرغب فريق البرنامج بالاطلاع على المزيد حول ما جرى في تلك الليلة.
ويحكي لنا معاذ عن ذلك فيقول: “كان دورنا يقوم على محاولة تقديم أكبر قدر من الوثائق والفيديوهات والصور وجهات الاتصال على الأرض، وذلك للمساهمة في التحقق من كل المعلومات”.
وهكذا عرف معاذ فريق ستون دقيقة على قاسم عيد، وهو أحد من وُجدوا في تلك الليلة من شهر آب، حيث أخذ يضرب على صدره حتى يتمكن من استنشاق الهواء بما أن الغاز الكيماوي أصاب جهازه العصبي، فتحدث قاسم لسكوت بيلي في تقرير لهذا البرنامج وقال: “كان الموقع الذي أصابه الصاروخ يبعد عن المكان الذي أقيم فيه مئة متر، وفي غضون ثوان، لأن الأمر لم يستغرق سوى ثوان، فقدت قدرتي على التنفس. أحسست بأن صدري يحترق وقتها، كما كانت عيناي تؤلماني وكأنهما احترقتا بالنار، فلم يعد بوسعي أن أصرخ أو أن أقوم بأي شيء وقتها”.
وبعد مرور عدة أشهر على إعداد تلك القصة بمساعدة معاذ مصطفى وفرقة العمل السورية للطوارئ، قام البرنامج ببث ذلك التقرير تحت عنوان: “جريمة ضد الإنسانية” وذلك في 19 من نيسان من عام 2015.
هذا وقد تعامل برنامج ستون دقيقة مرة ثانية مع معاذ مصطفى حول قصة تتصل بالدفاع المدني السوري أو ما يعرف بالخوذ البيضاء، وذلك عندما أراد منتجا البرنامج الاطلاع على معلومات أكثر حول هؤلاء الرجال والنساء من المتطوعين الذين كانوا يهرعون إلى موقع القصف لسحب الرجال والنساء والأطفال من تحت الأنقاض ومن بين الركام، وذلك بعد انتشار مقاطع فيديو لما يفعله متطوعو الخوذ البيضاء بشكل كبير على الشابكة.
وحول ذلك يخبرنا معاذ فيقول: “قمت بربطهم مع أفراد بينهم متطوعون لدى الخوذ البيضاء.. وذلك حتى يتأكدوا من أنهم يستمعون لصوت متطوعي الخوذ البيضاء وهم يتحدثون عن عملهم”. وهكذا أجرى سكوت بيلي مقابلة مع مجد خلف، وراضي سعد ورائد صالح من الخوذ البيضاء، واكتشف بأنهم مواطنون عاديون، بينهم مدرسون وأطباء وممرضون، لكنهم واجهوا الحرب في بلادهم عبر تقديم المساعدة ضمن مناطقهم المحاصرة.
وقد تم بث تقرير حول الخوذ البيضاء عبر برنامج ستون دقيقة في 18 من كانون الأول من عام 2016.
قيصر
عندما سمع معاذ للمرة الأول عن المصور العسكري الذي يحمل اسم قيصر والذي قام بتوثيق عمليات تعذيب وقتل المدنيين على يد قوات الأسد، شكك بتلك الرواية، وذلك لأن معلومات مغلوطة وشائعات سيئة يمكن أن تنتشر في بعض الأحيان ضمن شبكة المعارف غير الرسمية التي بناها في تلك الدولة التي مزقتها الحرب، وعن ذلك يقول: “لابد وأن تصبح شديد التشكيك بكل المعلومات التي تصلك، وذلك لأن كل المعلومات بحاجة للتحقق”.
ولكن عندما وصلته الصور والوثائق التي قام قيصر برفقة زميله سامي بجمعها وتهريبها خارج البلاد، أصيب معاذ بحيرة ودهشة شديدة، ويصف لنا ذلك بالقول: “لقد استطاع قيصر توثيق 55 ألف صورة تقريباً تحمل أدلة دامغة عن أسوأ الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في عصرنا هذا… إذ هناك أشخاص عاديون مثلي ومثلك… تحولوا إلى أجساد هزيلة، وتعرضوا للتعذيب بطرق وحشية وسادية، ولا شيء يحدد هويتهم سوى رقم”.
ففي تلك الصور المريعة لدرجة لا يمكن عرضها دون إخفاء أجزاء منها، التقطت كاميرا قيصر صوراً لجثث هزيلة تعود لنساء وأطفال وعجائز تعرضوا للتعذيب والقتل باستخدام السكاكين والأسلاك والأحزمة والصعق بالكهرباء. كما تم تصوير بعضهم بعدما فقئت عيناه. وقد أعد المصور بطاقة للفهرسة بالنسبة لبعض الصور وذلك لتساعده في توثيق الرعب الذي شاهده.
وبمساعدة معاذ الذي قام بالترجمة، حكى سامي لسكوت بيكي كيف ساعد قيصر في تحميل ورفع تلك الصور، حيث كانت هناك أرقام تعريفية ثلاثة متسلسلة تضاف إلى بطاقات مخصصة لتلك الصور.
ويحكي لنا معاذ أنه فور استلامه للصور بدأ يبحث بشكل مسعور عن أهالي الضحايا الذين اعتقلهم فرع المخابرات الجوية لدى الأسد، وعن ذلك يقول: “كان إحساسي مريعاً جداً، فقد سرت في جسدي قشعريرة باردة كانت تعاودني كلما فكرت بتلك الصور. ولكني كنت أحس في الوقت ذاته بإحساس كبير بالمسؤولية”.
وفي تموز من عام 2014، كان موعد معاذ وقيصر مع العالم ليكشفا تلك الصور المرعبة في عرض أقيم أمام لجنة الشؤون الخارجية التابعة للكونغرس. يومها أتى قيصر متنكراً، حيث ارتدى سترة زرقاء، ونظارات داكنة، ووضع قبعة مزودة بدرع ليخفي خلفه ملامح وجهه. كان معاذ قد طبع نسخاً من تلك الصور بأحجام كبيرة، ليعرضها في سائر أرجاء تلك القاعة، ثم قام بالترجمة لقيصر طوال جلسة الاستماع تلك.
وعن تلك التجربة يخبرنا معاذ فيقول: “أتذكر أنني في ذلك اليوم الذي قمت فيه بالترجمة لقيصر، نظرت إلى أعضاء الكونغرس وقد أصابهم صمت مطبق، وهم يستمعون للشهادة التي تهز الجبال، وتحيط بهم صور لا تعود لعام 1945 ولا لعام 1994 في رواندا، بل لما يحدث في الوقت الحالي”.
وفور عودتهم إلى الفندق الذي نزلوا فيه عقب انتهاء جلسة الاستماع، بدأ هاتف معاذ يرن بسبب الرسائل والمكالمات التي وصلته من أعضاء في الكونغرس وموظفين يعملون لديه، وعن ذلك يقول: “لقد جلس نواب ديمقراطيون وجمهوريون من لجنة الشؤون الخارجية معي وكذلك مع قيصر، فكانت تلك بداية فكرة قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا”.
قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا
في 20 من كانون الأول من عام 2019، أقر قانون تفويض الدفاع الوطني الأميركي السنوي وتحول إلى قانون، ويتضمن هذا القانون قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا، ذلك القانون الذي حمل اسم قيصر، والذي يستهدف بالعقوبات الاقتصادية نظام الرئيس السوري بشار الأسد وحلفائه، وعلى رأسهم روسيا وإيران وميليشيا حزب الله، وكل من يقدم الدعم لهذا النظام. ويقضي هذا القانون بأن يقوم البيت الأبيض برفع تقرير للكونغرس حول سائر الخيارات العسكرية وغير العسكرية لحماية المدنيين في سوريا، ولإتاحة وصول المنظمات الإنسانية إلى الخدمات المالية، وذلك لضمان تسليم المساعدات للسوريين الذين يعانون من أزمات في الوقت المناسب.
وبالإضافة إلى ذلك، يجيز هذا القانون لوزارة الخارجية الأميركية تقديم المساعدة المالية لأي كيان يقوم بتحقيقات جنائية، أو يدعم عمليات المقاضاة، أو يقوم بجمع الأدلة لإجراء محاكمة في نهاية الأمر. وأوضح معاذ بأن هذا الجانب من القانون الذي ساهم هو بصياغته: “بغاية الأهمية فيما يتصل بمسألة المحاسبة”.
إلا أن بعض منتقدي هذا القانون يرون بأن العقوبات التي تم فرضها يمكن أن تضر بالمدنيين وبالمنظمات الإنسانية العاملة على الأرض في سوريا.
فقد أعربت إلينا دوهان، وهي مقررة خاصة للأمم المتحدة حول حقوق الإنسان، عن مخاوفها من احتمال أن تتسبب عقوبات قانون قيصر “بمفاقمة الأزمة الإنسانية القائمة، وحرمان الشعب السوري من فرصة إعادة بناء البنية التحتية الأساسية”.
ويرد معاذ على ذلك بالقول: “في الماضي، أي في نزاعات أخرى… لم تنجح العقوبات في بعض الأحيان في تحقيق المراد منها”، وفي معرض دفاعه عن القانون يقول معاذ: “يتمتع قانون قيصر لحماية المدنيين بالاستثناءات الإنسانية الأكثر صرامة مقارنة بأي قانون يفرض عقوبات سبق وأنا اطلعت عليه. إذ بالنسبة للغذاء، والدواء، والمساعدات الإنسانية، لا يقوم هذا القانون بالإضرار بالمدنيين”.
أما بالنسبة لقضية إعادة إعمار البيوت والأبنية التي تدمرت خلال النزاع، يرى معاذ مصطفى في دعمه الراسخ لهذا القانون بأن مزاعم عملية إعادة الإعمار قد أفسدها الأسد عبر محاولة إحياء العلاقات الدبلوماسية، إذ يقول: “لا يمكن للأسد الاستئثار بملكية تلك الأرض وإعادة إعمارها، ومنحها للآخرين مقابل إحياء العلاقات الدبلوماسية… لأن هذا لا يدل في نهاية الأمر سوى على أمر واحد وهو أنه لا يمكن للاجئين السوريين العودة إلى بلدهم”.
ويضيف معاذ قائلاً: “إن الطريق للعدالة وللمحاسبة ليس بقصير” إلا أن الأمل يزداد بوجود المزيد من الشهود من أمثال قيصر، والذين لابد أن يظهروا ليقدموا المزيد من الأدلة التي تفيد في محاكمات ستجري مستقبلاً، ويخبرنا معاذ بأن منظمته أنشأت صندوقاً للضحايا من أجل أي قيصر يحتمل ظهوره، وذلك لتشجيع الشهود على الظهور والحصول على الدعم من أجل منظماتهم.
وفي برنامج ستون دقيقة يقول معاذ: “سنواصل عملنا في توثيق جرائم الحرب، ولن نوقف عملنا في مساعدة الأفراد والأبطال من أمثال قيصر وغيره، إذ طالما بقي قيصر والشعب السوري صامداً فلابد للعدالة أن تسود”.
إن كان لديكم أطفال يشاهدون برنامج 60 دقيقة الليلة، فهذا شيء جيد، إلا أن ما سنعرضه لا يناسبهم اليوم، لأن الصور التي ستشاهدونها ما هي إلا دليل صادق على أكبر جرائم حرب ارتكبت في القرن الحادي والعشرين. وخلال فترة قريبة سيتعين على الرئيس بايدن وفريق الأمن القومي لديه مواجهة هذا الرعب الذي تفجر قبل عقد من الزمان، وذلك عندما كان كثيرون منهم يشغلون مناصب في إدارة الرئيس أوباما. وبحلول شهر آذار ستحل الذكرى السنوية العاشرة لانطلاقة الانتفاضة الشعبية في سوريا التي أشعلت شرارة الحرب فيها. فيما قام ديكتاتور سوريا بشار الأسد بتسميم الأبرياء من شعبه بالغاز، وقصف المشافي والمدارس، ناهيك عن الإخفاء القسري الذي تعرض له الآلاف من أبناء وبنات شعبه. من الصعب مشاهدة تلك الأدلة، ولكن لابد لنا من ذلك، فكثيرون خاطروا بحياتهم حتى يرووا لنا تلك القصة، وحتى لو لم يتم القبض على الأسد، إلا أن الحقيقة ستظل قابضة على يديه… إلى الأبد.
ناشط يسلط الضوء على الحرب السورية التي امتدت لعقد من الزمان
بشار الأسد هو من فعل كل هذا بالمدنيين في إحدى ضواحي دمشق التي تعرف باسم الغوطة. ففي عام 2013، كان الثوار يسيطرون على الغوطة، لذا قام الجيش السوري بقصف تلك المنطقة بغاز الأعصاب المحرم دولياً، ما أدى إلى وفاة 1400 شخص بين رجل وامرأة وطفل. فقد اختار الأسد ألا يواجه الانتفاضة الشعبية التي قامت ضده بالدبلوماسية أو الحرب بين جنوده، وإنما بالإرهاب الذي لا يقف في وجهه أي رادع.
وعن ذلك يقول ستيفن راب: لدينا جرائم قتل، ولدينا إبادة، ولدينا تعذيب، ولدينا اغتصاب.
يقوم السيد ستيفن راب بالمساعدة في إعداد الملفات لرفع قضايا ضد الأسد ونظامه، فقد عمل راب كمدع عام في جرائم الحرب التي قامت في رواندا وسيراليون، كما شغل منصب السفير الأميركي لقضايا جرائم الحرب طوال ست سنوات، حتى عام 2015.
سكوت بيلي: هل ستكون هنالك عدالة بالنسبة لما حدث في سوريا؟
ستيفن راب: إنني أميركي متفائل، وسبق وأن شاهدت حالات اعتقدنا معها بأن الأمل مفقود، وظن الجميع أن العدالة لن تقوم لها قائمة، لكننا نجحنا بإقامة العدل. أي أن الاحتمالات قائمة، ومن السبل التي تدفعنا لتحقيق ذلك هو ذلك السبيل القائم على جمع أدلة دامغة وثابتة اليوم.
إن الكثير مما وصفه بأدلة دامغة قد تركت في مناطق الحرب، وهكذا تم تهريب أكثر من 900 ألف وثيقة للحكومة خارج البلاد، لتقوم الهيئة المستقلة للعدالة والمحاسبة الدولية بأرشفتها، تلك الهيئة التي تمول الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جزءاً من نشاطاتها، ويترأسها السيد ستيفن راب.
سكوت بيلي: هل تقودكم الوثائق التي قمتم بجمعها حتى الآن إلى الرئيس الأسد؟
ستيفن راب: لا شك أن جميعها يقودنا إلى الرئيس الأسد، أي أن الجهود منظمة من أعلى المستويات وحتى القاعدة، وهنالك وثائق عليها اسمه. ومن الواضح أنه هو من ينظم تلك الاستراتيجية. ثم لدينا أوامر من الجهات الأدنى منه رتبة في هذا النظام والتي تحدد من هم الأشخاص المسؤولون. كما لدينا تقارير حول ما جرى. أي أن لدينا تقارير كثيرة حول كل شيء تقريباً، ولكن لدينا مشكلة حقيقية هنا، إذ هنالك الكثير من الأكوام التي تشتمل على جثث.
ومن بين تلك الجثث ظهر محمد المسلماني ابن الأربعة عشر ربيعاً، والذي شوهد للمرة الأخيرة في حافلة عندما توجه لتشييع أمه. ثم ذكرت عائلته لمنظمة هيومان رايتس ووتش بأن جيش الأسد أوقف الحافلة، فوجدوا أغنية ثورية على هاتف محمد، ولم تر أسرته وجهه إلا بعد مرور عامين، وذلك في صورة ظهر فيها جسده وآثار التعذيب تعلوه بعدما قام الرجل الذي يتخفى بسترة شتوية زرقاء بتهريبها خارج البلاد.
قيصر: أصبح عملنا يقتصر على التقاط صور لجثث الأموات الذين تم تعذيبهم حتى الموت أو قتلهم في مختلف الأفرع الأمنية.
والاسم الحركي لهذا المصور هو قيصر.
سكوت بيلي: هل كان في الجيش؟
تحدثنا إلى قيصر وساعدنا في الترجمة معاذ مصطفى أحد أعضاء فرقة العمل السورية للطوارئ والتي تعمل على حماية المدنيين. فقد عمل قيصر مصوراً عسكرياً لمدة 13 عاماً. وفي عام 2011، طلب منه إعداد سجل في المشارح التي استقبلت الموتى من سجون الأسد السرية كافة. وقمنا بإضافة مؤثرات التغطية على تلك الصور لأنها مريعة جداً ولا يمكن أن تعرض على التلفاز دون ذلك. فقد كانت حقيقة ما رآه هذا الرجل هي التي دفعت قيصر للانشقاق عن النظام. ولئلا نكشف هوية قيصر، قمنا بنقل ما قاله بصوت مصطفى.
قيصر: كان من الواضح أنهم تعرضوا للتعذيب، لا ليوم أو يومين، بل لمرات ومرات على مدار أشهر طويلة. كما أصيبت أجسادهم بالهزال، فتحولت إلى ما يشبه الهياكل العظمية. وكان هنالك أشخاص فقئت عيونهم، كما كان هنالك صعق بالكهرباء، إذ بوسعك أن تكتشف ذلك من خلال الهالات السوداء المنتشرة على أجسادهم. كما استخدمت السكاكين في التعذيب ناهيك عن الأسلاك الكبيرة والأحزمة التي كانت تستخدم لضربهم. وبذلك يمكننا أن نرى كل صنوف التعذيب موجودة على أجساد هؤلاء الأشخاص.
كل صنوف التعذيب….. إلا أن السفالة المتمثلة بسمل الأعين تدفع الخيال للتفكير بطريقة استخدام عملية بتر الأعضاء وتشويهها لانتزاع المعلومات. وهكذا، وبحلول عام 2013، فاضت المشارح بالجثث التي أصبحت توضع في مرآب السيارات داخل أحد المشافي العسكرية.
قيصر: عندما كان يتعين علي التقاط الصور، كنت أفكر، كيف يمكن لهذه الحكومة أن تفعل هذا بشعبها؟ كنت أشعر أيضاً بالحزن والغضب لما أشاهده. وفي الوقت ذاته يتملكني إحساس بالخوف، لأنني كنت أشعر أنني يمكن أن أتعرض للتعذيب ذاته وأن يأتي أحد ليقوم بتصويري بالطريقة ذاتها في أية لحظة ودون أي سبب.
سكوت بيلي: كيف قمت بتهريب الصور؟
قيصر: كنت كلما استخدمت الحاسوب أستخدم بطاقة ذاكرة أنقل إليها كل الصور التي التقطتها في ذلك اليوم، حيث كنت أقوم برفعها إلى بطاقة ذاكرة ثم أنقلها خارج مكان العمل بطريقة خطرة حتى تصل ليد صديق مقرب اسمه سامي، الذي كان يقوم بدوره بنقلها إلى بطاقة ذاكرة أخرى كل يوم عبر حاسوبه الشخصي.
واسم صديق قيصر هذا اسم حركي أيضاً، وقد عمد هذا الرجل إلى رفع الصور على مدار سنتين وبصورة يومية إلى بطاقة ذاكرة من بطاقة الذاكرة التي كان قيصر يهربها كل يوم. وقد أجرينا مقابلة مع سامي بمساعدة معاذ مصطفى أيضاً.
سامي: كانت مسؤولية ملقاة على عاتقنا أنا وقيصر، إنها مسؤوليتنا تجاه الشعب السوري والتي تحتم علينا أن نريهم، وأن نثبت لهم، وأن نعرفهم ما جرى بالنسبة لمصير أحبائهم. أتذكر إحدى جاراتنا التي كان ابنها صديقي، كنت قد شاهدت صورته في إحدى بطاقات الذاكرة التي حملها قيصر لي ذات يوم، وأتذكر كيف كانت الأم تذهب كل يوم لفرع المخابرات وتسألهم عن ابنها، وتطلب منهم معلومات عنه، لكني لم أستطع إخبارها بالحقيقة، لأننا لم نكن نريد أن يفتضح أمرنا ونحن نقوم بعملية التوثيق تلك.
سكوت بيلي: هذه الضحية رقم 9700
سامي: هذا صحيح
يشير سامي هنا إلى مفارقة البيروقراطية في الدولة البوليسية، والتي تتمثل بالأرقام العربية التي لابد وأن تتحول لكنز ثمين بالنسبة للنيابة في يوم من الأيام، لكننا قمنا بإخفاء تلك الأرقام لحماية أهالي القتلى.
سامي: ثمة عادة أرقام مكتوبة في مناطق مختلفة من الجسم تظهر على كل جثة، حيث يشير الأول لرقم المعتقل، والثاني لرقم فرع المخابرات الذي عذبه حتى الموت، أما الثالث فهو الرقم الذي يعطيه الطبيب بالتسلسل لجثة القتيل أو القتيلة.
سكوت بيلي: أوتعتقد بأن النظام كان يريد أن يخفي كل تلك الأمور؟
ستيفن راب: يقوم الناس عادة بإخفاء ما اقترفت أيديهم، بموجب إجراءات معينة. ولهذا يلتزم الناس بتلك الإجراءات مخافة الوقوع بأية مشكلة. ولكن أثناء القيام بذلك، يقدمون أقوى الأدلة التي يمكن أن تصل ليد أي شخص ممن مثلوا النيابة بالنسبة لهذا النوع من الجرائم هنا أو في أي مكان آخر.
سكوت بيلي: كيف عرفتم بأن صور قيصر حقيقية، وبالفعل تكشف ما أريد لها أن تكشف؟
ستيفن راب: لقد تحقق مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي من البيانات الوصفية، وتوصل إلى أن كل شيء حقيقي بشكل قاطع، وبأن مجموعة الصور بأكملها مأخوذة لأشخاص حقيقيين وأحداث واقعية.
لقد قام مكتب التحقيقات الفيدرالية بتحليل صور قيصر، ومن 242 صورة أخذت كعينة من بين تلك الصور، توصل ذلك المكتب إلى أن: “ملفات الصور لا تعرض أشياء ملفقة أو تبرز أية تناقضات”. ومن بين السجناء الذين لم يقم قيصر بتصويرهم يظهر هذا الرجل الذي يخبرنا عن اسمه الحركي: علي، والذي تعرض للسجن بسبب مسقط رأسه.
سكوت بيلي: أين ولدت؟
علي: ولدت في كولومبوس بولاية أوهايو
سكوت بيلي: لكنك انتقلت إلى سوريا عندما كنت طفلاً، أليس كذلك؟
علي: هذا صحيح
في عام 2012، سافر علي إلى دمشق من الولايات المتحدة، عندما كانت الحرب في سنتها الثانية. لكنه لم يخرج من المطار وقتها، بل كان جواز سفره الأميركي بمثابة بطاقة عبور إلى سجن تحت الأرض.
علي: قال لي أحد ضباط المخابرات من ذوي الرتب الرفيعة، لا يهمنا إن كنت أميركياً، إذ بوسعنا أن نقتلك، أو أن نبقيك سجيناً إلى الأبد.
أمضى علي ثلاثة أسابيع مع التحقيقات بدت له دهراً كاملاً. أخبرنا أنه تعرض خلالها للضرب على قدميه بواسطة أنبوب بلاستيكي إلى أن فقد القدرة على الوقوف. فيما تم تعليق آخرين حسب شهادته على جدار بواسطة أصفاد قيدت بها أيديهم، كما كانوا يتعرضون للتعذيب عبر غمرهم بالماء المغلي. إلا أن أسوأ ما جرى معه هو ذلك السجين الذي لم يره، بل كان يسمع صوته خلال التحقيق، وبدا له من خلال صرخاته مجرد صبي يافع.
علي: سمعت طفلاً يتراوح عمره بين 12-13 عاماً يصرخ ويقول: “ماما! أرجوك أخرجيني من جهنم!” كان يصرخ بعد سكب الماء عليه، بعد ذلك كنت أسمع صوت الضرب بالأنبوب البلاستيكي أو شيء من هذا القبيل.
وكما اعتقل بلا سبب، أفرج عن علي بلا سبب، بعدما بقيت أسرته لا تعرف عنه شيئاً طوال 23 يوماً إذ اختفى قبل أن يصل إلى أمتعته في المطار.
يعتبر التعذيب أحد جرائم الحرب الكثيرة التي ارتكبها نظام بشار الأسد. ففي عام 2017، قمنا بزيارة لمشفى تعرض للقصف، إذ عمد الأسد وحليفته روسيا إلى تسوية آلاف المرافق الطبية والمدارس والأحياء بالأرض. كما استخدم الأسد الأسلحة الكيماوية المحرمة أكثر من 300 مرة بحسب التحقيقات التي أجراها معهد السياسة العامة الدولية. وبالمجمل، يمكن القول بأن ذلك خلف قتلى يقدر عددهم بربع سكان سوريا، إلى جانب نزوح 11 مليون سوري من بيوتهم. يذكر أن معارضة الأسد ارتكبت جرائم هي الأخرى، إلا أن مستوى تلك الجرائم لا يرقى لما اقترفه الأسد.
قيصر: لقد قمت بكل ذلك، لقد خاطرت بحياتي وحياة أسرتي حتى أكشف للعالم أجمع الوجه الحقيقي لهذه الديكتاتورية التي يمثلها نظام الأسد.
ستيفن راب: لقد حصلنا على أدلة ضد الأسد وزمرته أفضل من تلك التي حصلنا عليها ضد ميلوزوفيتش في يوغوسلافيا، أو تلك التي وصلتنا في أي محاكمة لجرائم حرب شاركنا فيها، بل إن هذه الأدلة أفضل من الأدلة ضد النازيين في نورمبيرغ، وذلك لأن النازيين لم يقوموا بالتقاط صور لكل ضحية من ضحاياهم مع معلومات تعريفية عنها.
سكوت بيلي: أترغبون بإجراء محاكمة؟
ستيفن راب: آه، أتمنى ذلك، أجل. لأنها ستكون محاكمة كبيرة ضد الأسد شخصياً.
بيد أن المشكلة تكمن في أن الأسد أوشك على الانتصار في تلك الحرب. وبالرغم من أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول قامت بفرض عقوبات عليه، إلا أن معظم المجرمين سيكونون بأمان في سوريا. وقد حاول مجلس الأمن إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن روسيا والصين عرقلتا ذلك عبر استخدام حق النقض.
سكوت بيلي: في حال أفلت الأسد من العقاب، ما الذي سيخسره العالم عندئذ؟
ستيفن راب: عندها سيكون العالم وكأنه يقول: بوسعك أن ترتكب مثل هذه الجرائم، وأن تنجو من العقاب، وتلك هي الطريقة المناسبة لقمع أي انتفاضة شعبية، وبعد ذلك سيقلده كثيرون، وسيصبح المستقبل أخطر بكثير من الماضي، ولابد أن ينهار معظم ما بنيناه.
لقد تدمر معظم ما بناه السوريون على مدار آلاف السنين، ولابد للأسد أن يبقى ملكاً على كل ما تشاهده عيناه في سوريا. قد تكون محاكمته بعيدة، لكن الشهود يتحلون بالصبر، إذ بينهم شهود فقدوا البصر، لكنهم تحدوا العالم بما رأوه، كما بينهم شهود يافعون، لم يعد الزمن يعني لهم شروى نقير. ولهذا بوسعهم أن ينتظروا وليس أمامهم سوى ذلك، لأن الجريمة التي تدفن دون عدالة لن ترقد بسلام أبداً.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا/ سي بي إس نيوز