أساء منذ أيّام (دريد لحّام) في حوار له مع شبكة CNN بطريقة خسيسة إلى محمَّد الماغوط، وقلَّلَ من دور الماغوط وإبداعه الرّاسخ في نجاحه..
لا بل قلَبَ الحقيقة لينسبَ سببَ نجاح الماغوط إلى نفسه..
الماغوط أحد أهمّ شُعراء القرن العشرين العرب، وأحد روّاد قصيدة النَّثر، ومكانتهُ في الشِّعريّة العربيّة ليست بحاجة إلى شهادات..
لو لم يُقدِم الماغوط على مُشارَكة دريد في مسرحه، لما كانَ بحاجة إلى شُهرة أكبَر ممّا حقَّقهُ منذ الخمسينيّات كشاعر ومسرحي وكاتب مقالة سياسيّة ساخرة، لكنْ ماذا نقول للجاحد والتّافه دريد..؟!!.
أثبِّتُ هُنا مقالة لي كتبتُها منذ خمس سنوات في ذكرى رحيل الماغوط العاشرة، بعنوان: (عشر سنوات عشناها بلا محمَّد الماغوط):
…
“تمرُّ في هذه الأيام الذكرى العاشرة لرحيل المبدع السوري الكبير محمّد الماغوط (1934 _ 2006)، الذي وصَفَ يوسف الخال ظهوره في الحياة الثقافية العربية بوجهٍ عام، وفي أجواء مجلة شعر بوجهٍ خاص بقوله: “هبط علينا محمّد الماغوط كآلهة اليونان”، وهو الذي رفض أن يُلقَّب برامبو العرب أو برنارد شو العرب، وقال في مقابلته الشهيرة في مجلة الناقد عام 1991 (حاوره يوسف بزي ويحيى جابر): “أنا المنجل العربي”.
تعرفت لأول مرة على اسم الماغوط في طفولتي مثل معظم السوريين عبر مسرحياته السياسية الشهيرة مع دريد لحام، والتي كان يبثّها التلفزيون السوري في الأعياد على نحوٍ دائم، ولا مجال هنا للخوض في مسألة اتهام هذه التجربة بأنها ذات بعد تنفيسي، ولو أنَّ الماغوط نفسه كان يرد على هذه التهمة بالقول: “إنه مرَّرَ كلمته ورأيه، ولا صلة له بما أبعد من ذلك”!
غير أن معرفتي الحقيقية بالماغوط بوصفه مبدعاً استثنائياً لم تتحقق إلا عندما وقعتُ على أعماله الشعرية الكاملة (طبعة دار العودة) في عام 1990، وكان ذلكَ حدَثاً انقلابيّاً مُفاجِئاً ومُدهِشاً لمراهق في بداية تفتحه، إن على مستوى اطلاعه على شكل القصيدة النثرية، أو على مستوى جماليات النص، ومن حينها وقعتُ في شراك سحر الماغوط، أو لأقل في لعنته الجميلة الأخّاذة، التي تحوّلت رويداً رويداً مع تطور قراءاتي ومعارفي إلى وعي نقدي بالمكانة التي يحتلّها نص الماغوط في الشعرية العربية الحديثة، إذ ما زلت أردد حتى هذه اللحظة أنه لو توقّف عن الكتابة بعد دواوينه الثلاثة الأولى لما انتقصَ ذلكَ من قيمته الإبداعية أبداً، من دون إنكار خصوصيته التهكّمية الفريدة في كتابة المقالة السياسية، وهو الذي كان يُفنِّد سؤال التجنيس في كتاباته بالقول إنَّ الشعر موجود في كل مايكتبه، لا بل حتى في أنفاسه وبصاقه على حد تعبيره!
عندما تعرَّضَ الماغوط لوعكة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى عام 1997، كتبت قصيدة أهديتها له بعنوان: (لا تستأذن)، وقرأتها له في منزله في حي المزرعة الدمشقي في أول زيارة لي إليه في مطلع شباط 1998، ولأستمرَّ بعد ذلك في التواصُل معه هاتفياً من مكان إقامتي في اللاذقية، والأمر الطريف الذي أتذكَّرُه دائمأً هو احتراق الفلم الذي احتوى على بعض الصور المُلتقطَة لي معه، لتبقى هذه الحسرة في داخلي عدة سنوات إلى أن تمكنت في إحدى زياراتي المتكررة له عام 2005 من التقاط صورة يتيمة إلى جانبه على أريكته الكحلية الشهيرة، والتي ظهر وهو يجلس عليها في أكثر من حوار تلفزيوني أجراه في سنواته الأخيرة، وهيَ الصورة التي سأظلّ أفتخر بها ما حييت.
ومن المُفيد أن أذكر في هذا السياق جانباً آخَر يتصل ربما بالسيرة الذاتية لي، ويُظهِر عُمق الحمّى الماغوطية التي اجتاحتني، حيث إنَّ منزل جدي لأمي ومنازل أخوالي وخالاتي موجودة في حارة الماغوط نفسها التي نشأ فيها في السلمية (الحارة الغربية _شارع حماه)، وهوَ كان مجايلاً لخالَيَّ الكبيرين وصديق طفولة لهما، وأنا رحتُ أؤسِّسُ أنايَ الشعري في تلك الحقبة على تقاطعات رمزية مُحاكية لتجربة الماغوط؛ سعيداً بأنني لطالما لعبتُ في طفولتي وتسكّعتُ في مراهقتي_عندما كنا نزور أقرباءنا في السلمية في الصيف والعطل والمناسبات_ في الحارة الماغوطية نفسها، وفي الشوارع نفسها، وحتى في المقبرة نفسها التي كانت تُنصَبُ في محيطها الأراجيح في الأعياد فتختلط صورة الأطفال وهم يلهون بصورة القبور، وقد ذكر الماغوط نفسه هذه المقبرة في كتابه (شرق عدن غرب الله)، مع العلم أنها أزيلَتْ نهائياً، وتحولت إلى حديقة سُمِّيَتْ باسمه تكريماً له بعد وفاته.
لكنَّ علاقتي بالماغوط هي أكثر تعقيداً من هذا المُستوى بالتأكيد، إذ بدأتُ تدريجياً أنزاح عن حالة التماهي به والدهشة بحضوره وشعره، لأمُرَّ بمرحلة المُقارَنة والحسَد البنّاء لما أنجزه شعرياً، ويبدو أن وقوعي تحت سطوته الفنّية، وفي هوى أبوته الشعرية، لم يمنعني _من حسن حظّي_ من الوعي في وقت مبكِّر بضرورة تجنّب السقوط في فخاخ لعنته الشعرية على الأقلّ، مع الحفاظ على موقعه عندي وجدانياً.
لهذا بدأتُ أعملُ على تأسيس مشروعي الشعري المُنفرد والنابع من تجربتي النظرية والنصية الخاصة، وكانت هذه الرغبة الأصيلة في الاستقلال والاختلاف وقتل الآباء سبباً في استبعاد قصيدة (لا تستأذن) من النشر في ديواني الشعري الأول، فعلى الرغم من احتفاء الشاعر نزيه أبو عفش بمخطوط هذا الديوان عام 2001، ونشر قصائد طويلة منه في مجلّة المدى الدمشقية، ومشاركة إحدى قصائدي برسومات له، وعلى الرغم من تقديم أدونيس شخصياً لي في مهرجان جبلة الثقافي الثاني عام 2005، ظلَّ الهاجس الأعمق لديَّ يكمُنُ في طرد أي شُبهة ماغوطية تحديداً، ولا سيما في ظل شيوع مصطلح (السلالات الماغوطية) في وصف الشعراء الشباب في سورية، على أهمية تأثير الآباء الشعريين الآخرين من دون شك، ليصدُرَ ديواني الأول (قبلَ غزالة النّوم) في (29 آذار 2006)، وأشعر نتيجة تلقيه المُشجِّع في المساحة الثقافية السورية أنني قد تمكّنتُ من تقديم حساسية شعرية ذات خُصوصية مُرْضِية إلى حدٍّ كبير كما أزعُم.
وبما أن قتل الآباء هو خيانة في مكان، وهو ندم ومحبة في مكان آخَر، لذلكَ كان أول إهداء كتبتهُ على نسخة من ديواني مُوجَّهاً إلى محمّد الماغوط، وبينما كنتُ أستعدُّ لمُهاتفته وزيارته، شاء القدر ألا يُمهِلَني وألا يُمهِلَهُ، فكان رحيله بعد خمسة أيام تماماً من تاريخ صدور ديواني (توفي في 3 نيسان 2006)، لأزور المقبرة التي دُفِنَ فيها بعد فترة قصيرة برفقة الصديق الشاعر والكاتب عبد الله ونوس، وأقرأ على قبره قصيدتي المُستبعَدة من ديواني (لا تستأذن)!
من كلامه الراسخ في نفسي، والذي أستعيده دائماً في جلساتي على سبيل الامتنان والوفاء وربّما الحنين أيضاً، نصيحته المُكرَّرة لي بمتابعة تحصيلي العلمي إلى أعلى الدرجات. وقوله دائماً لي: “لا تذهب أنتَ إلى القصيدة، اتركها هي وحدَها كي تأتي إليك”. وقوله كذلك: “الموهوب يصل إلى الآخرين مهما كانت المصاعب، فالمطرب السيئ ينفضّ من حوله الناس مهما أحاطوه بالتقنيات والأضواء، والمطرب الموهوب يجتمع حوله الناس ولو كان يغني وهو يركب على حمار”!
ومن انطباعاتي الأخيرة عنه ارتفاع منسوب نرجسيته إلى حد كبير، حيث أذكر تكراره أكثر من مرة أمامي أنَّ أكاديمياً ومستشرقاً أسترالياً قال له: “لو لم تكتب غير عبارة: (سئمتكَ أيُّها الشعر، أيُّها الجيفة الخالدة) لكُنتَ أعظم شاعر في هذا العصر”.
الآن، وبعد مرور عشر سنوات على رحيل الماغوط، مرّت سورية والمنطقة والعالم بأحداث جسيمة فرضَتْ على شخص مثلي أن يُعيد تصفية حساباته مع وعيه الوجودي والثقافي من نواحٍ مختلفة، ولا سيما بعد انبثاق الربيع العربي وثورته السورية بتداعياتها الأقسى، إذ لا أخفي خيبتي البالغة من مواقف عدد من الشعراء والمثقفين الذين كنا نعدُّهم أنا وأبناء جيلي رموزاً وطنية بمعنىً من المعاني، فإذا كانت الفرضيّة في هذا المنحى تقول إنَّ سورية استطاعتْ أن تُمضي عشر سنوات من دون وجود الماغوط، وهو أمر لا شكّ أنه مُحزِن بغضّ النظر عن تسليمنا بطبيعة الحياة، فإنَّ حضورَهُ الطاغي بأقواله وأشعاره في الوجدان الجمعي السوري _شعبياً ونخبوياً_ والذي يُمكن تلمُّسَهُ بعمق على صفحات التواصل الاجتماعي، وبوجهٍ خاص في الوسط الثوري، ينفي مسألة غيابه جذرياً، وهو القائل: “أنا راحلٌ، وقلبي راجعٌ مع دُخان القطار”!
لكنَّ ذلكَ لا يمنعُني أوّلاً من تحميله جزءاً كبيراً من مسؤوليةٍ غير مقصودة أو مُباشَرة بتحوُّل تقاليده في نقد الواقع العربي الآسِن إلى نوع من جَلد الذات المنطوي على شفوية غوغائية ودونية مرفوضة عند شارع واسع من العرب، وهي المسألة التي تقودُني ثانياً إلى التساؤل عن ماهية موقفه السياسي فيما لو كانت قد كُتِبَتْ له الحياة حتى هذه اللحظة، وهو الذي قال بجُرأة مُعلِّقاً على احتلال أمريكا للعراق: “الحركة أفضل من السكون”، في إشارة لافتة منه إلى الاستعصاء التاريخي العربي الذي سبَّبه الاستبداد.
لا أدري إن كان من حقّي أن أخمِّن، أو كان من المُفيد ذلكَ؟!! لكنَّني على الأقلّ سأعود إلى النَّصّ الماغوطي نفسه الذي لطالما كان بوصلتنا نحوَ الحُرِّية والتمرُّد والثّورة. قال الماغوط في مطلع قصيدته: (كُلُّ العيون نحوَ الأفُق): “مُذ كانتْ رائحةُ الخبز/شهيّةً كالورد/كرائحة الأوطان على ثياب المُسافرين/وأنا أُسَرِّحُ شَعري كُلّ صباح/وأرتدي أجملَ ثيابي/وأهرَعُ كالعاشق في موعده الأوّل/لانتظارها/لانتظار الثورة التي يبِسَتْ/قدمايَ بانتظارِها”.
المصدر: صفحة مازن أكثم سليمان