مع حلول الذكرى التاسعة لانطلاق ثورة الحرية والكرامة، تثور أسئلة سوداوية عن المصير والمستقبل، في ضوء المعطيات القائمة أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا؛ وأسئلة عن سبل الخروج من تحت الأعباء الثقيلة والكثيفة التي ترتبت على سياسات النظام الحاكم والقوى الإقليمية والدولية التي دعمته في خياره المدمر للدولة والمجتمع، وعما يستدعيه ذلك من المعارضة السورية، بقادتها وكوادرها ومثقفيها، كي تستطيع لعب دور إيجابي في معركة الخروج من هذا الحال، ووضع البلد على طريق الحرية والكرامة والعدل والمساواة وسيادة القانون والحريات العامة والخاصة، والفصل بين السلطات والمواطنة، في دولةٍ حديثة ونظام ديمقراطي، هدفها المعلن منذ سنين.
لم يكن المسار الذي اتخذته الثورة السورية المجيدة قدرا محتوما، بل نتيجة منطقية وموضوعية لطبيعة القوى الشعبية التي فجرتها، ببنيتها السياسية والثقافية والنضالية الهشّة، من جهة، وللدور الهامشي الذي لعبته المعارضة الحزبية وعجزها عن الالتحام بالثورة وقواها الشعبية، ولعب دور مباشر في فعالياتها الميدانية والمساهمة في التخطيط والتنظيم والحشد السياسي والإعلامي المحلي والإقليمي والدولي، من جهة ثانية، وقوة التدخل الخارجي ونقله الصراع من صراع في سورية بين معارضة سلطة مستبدة وفاسدة إلى صراع على سورية بين قوى إقليمية ودولية، من جهة ثالثة. فالمعارضة الحزبية؛ موضوع هذه المساهمة، بمنطلقاتها العقائدية وبرامجها السياسية وممارساتها العملية التي تبنتها، وقد حوّلتها إلى بقرة مقدسة طوال عقود سابقة على انفجار ثورة الحرية والكرامة، لم تكن جاهزة لدور كبير ووازن في الثورة، في ضوء نظرتها السياسية إلى المشهد السياسي المحلي والإقليمي والدولي، وانطلاقها في التعاطي مع الموقف السياسي المحلي من مسلّمات مرحلة النضال الوطني التي لم تنجح في تجاوزها، حيث بقيت في تحليلها وتقديرها للموقف محكومةً بأولوية التحرّر من الاستعمار والإمبريالية والصهيونية، وتحقيق السيادة الوطنية وإقامة نظام وطني مستقل؛ والنظر إلى النظام الحاكم باعتباره جزءا أصيلا من قوى التحرّر الوطني، السوري والعربي؛ واعتبار التناقض معه ثانويا، يمكن تجاوزه عبر الانخراط في حوار وتعاون وتحالف معه، لتحقيق الهدف الأكبر: التحرّر الوطني وتحقيق السيادة الوطنية. فالأحزاب ذات الخلفية الماركسية اعتبرته نظاما تقدّميا ومناهضا للإمبريالية، والأحزاب ذات الخلفية القومية اعتبرته نظاما عروبيا، واقتصر تحفظها، الأحزاب، عليه في جزئية الانفراد في السلطة وعدم إشراكها في إدارة الحكم. تجلى ذلك بوضوح في البرامج التي صدرت في بدايات الألفية الثالثة، “البرنامج السياسي للتجمع الوطني الديمقراطي في سوريا”(2001)، و”البرنامج السياسي العام” لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي (2003)، و”موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي” (2004)، غيّر اسمه بعد المؤتمر فأصبح حزب الشعب الديمقراطي، حيث جاءت على شكل خطوط عريضة وتصورات عامة وعدم القطع مع النظام وممارساته وتجاوزاته، فقد بقيت تعتبره في الصف التقدمي والعربي؛ قدم كاتب هذه السطور قراءات نقدية لهذه البرامج ولـ “الميثاق الوطني في سوريا”، وثيقة جماعة الإخوان المسلمين في سورية (2002)، في حينه. كان نائب رئيس الجمهورية، عبد الحليم خدام، قد أضاء لها الضوء الأحمر في محاضرته في جامعة دمشق فبراير/ شباط 2001 باتهامها بدفع سورية نحو الجزأرة والصوملة، لكن ذلك لم يستفزّها ويدفعها إلى الخروج من طمأنينتها، ورهان بعضها على وعود الرئيس الجديد، بشار الأسد، وتجاهلها الطريقة التي وصل فيها إلى السلطة، وأثرها على النظام الجمهوري، ومستدعياته الأولية التي تتعارض مع التوريث؛ حيث لم تصدر عنها بعد ذلك وثائق أو برامج تغطّي المتغيرات التي حصلت في الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، أو دراسات تقوّم التوجهات الجديدة للنظام ومآلاتها، في ضوء انقلابه على وعوده العامة، وعودة التشدّد والقبضة الأمنية والاعتقالات، وتنشيط محكمة أمن الدولة سيئة الصيت، وأحكامها الجائرة، وتكريس السلطة الأسرية والمحسوبية والفساد ونهب المال العام تحت راية “اقتصاد السوق الاجتماعي”، في تجويفٍ كامل للدولة، بالقضاء على عموميتها وحياديتها، حتى إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي؛ الذي ضّم، عند قيامه عام 2005، أوسع تحالف معارض، لم ينجح في تلافي عيوب التشكيلات السياسية السابقة ونواقصها بوضع تصور سياسي وبرنامج عملي للوصول إلى هدفه: نظام ديمقراطي.
لم تنجح أحزاب المعارضة في التعاطي مع المتغيرات المحلية، في ضوء هشاشة بنيتها الفكرية والتنظيمية. ولعب الضغط الأمني دورا وازنا في تكريس هذه الهشاشة، حيث بقي حجمها صغيرا، بالقياس لعدد السكان، وانتشارها محدودا، اقتصر على تجمعاتٍ في عدد من المدن الرئيسة. لم تحاول التعمّق في فهم بنية الوعي السياسي ومحدّداته في التجمعات الشعبية، والعمل على اقتحامها، فافتقرت لمعرفتها ولتقدير حدة احتقانها وتوترها الداخلي، وردود أفعالها المحتملة على سياسات النظام، وانعكاساتها على حياتها وإحساسها بعدم الأمان. وقد برزت سلبية ذلك في الأيام الأولى للثورة، حيث ظهرت غربة الأحزاب عن الجماعات والتجمعات التي خرجت في التظاهرات؛ وتعمّقت الغربة بعد عجزها عن مد جسور التواصل معها، والالتحام بها، والانخراط في الثورة ومعاركها السياسية والإعلامية، ما أفقد الثورة فرصة الاعتماد على أطر للتنسيق والتشبيك، وغرف عمليات وإدارة جاهزة، ما اضطرّها لإقامة هذه الأطر بجهد ذاتي، عبر تشكيل تنسيقياتٍ بقيت هشّة، نتيجة حداثة التجربة وعدم وجود سوابق عملية ومعرفة وثيقة بين المساهمين في إقامتها، وهذا تجلى في أهم عيبين ظهرا في مسيرة الثورة:
الأول، غياب تنسيق عميق وقرار جماعي لفعاليات الثورة وخططها المستقبلية، ما حوّل الحراك الشعبي إلى حراك مناطقي محكوم بقوى محلية وقدرات سياسية وتنظيمية ضعيفة، وتحوّل المناطقية إلى مقياس معتمد في العلاقات بين القوى والمناطق، وقاعدة لمطالب وأدوار في مؤسسات المعارضة التي نشأت لاحقا، وفي تقاسم الدعم الخارجي.
ثانيا، غض النظر عن عيوب الثوار وأخطائهم، وتأييد ما يحصل فيها، أو السكوت عنه، ليس من باب الاقتناع بصحته وسلامة منطلقاته ومآلاته، أو القبول بما يحصل؛ بل تأييدا انتهازيا على أمل تحصيل مقعد في الثورة، والمشاركة في صياغة سورية الجديدة التي ستقوم بانتصار الثورة الحتمي. وهذا قاد إلى تراكم الأخطاء والتخبط والعجز عن الاستدراك ومراجعة مسيرة الثورة وترشيد خطواتها اللاحقة.
تحتاج أحزاب المعارضة لإعادة نظر في توجهاتها العامة وتصوراتها السياسية وإقامة رؤية جديدة، في ضوء دراسة المجتمع السوري ببناه الاجتماعية والدينية والمذهبية وسياسات النظام في رده على الثورة ومطالبها، وانعكاس ذلك على المجتمع والدولة ومستقبلهما، وتحديد أرضية معلوماتية ومفاهيمية للتحرّك واستدراك الأخطاء ومواجهة العقبات، وإعطاء مساحة أكبر للجانب العملي، والتخفف من آليات عملٍ أساسها الاجتماع خلف أبوب مغلقة، على أمل تعديل المسار، والانطلاق نحو إعادة مطالب الثورة إلى الطاولة، لأخذها بعين الاعتبار من القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع على سورية.
وهنا يرى كاتب هذه السطور أن أول القضايا التي تحتاج إلى إعادة نظر الموقف من الأديان بعامة، والإسلام بخاصة، لما له من موقع مركزي ودور في تكوين شخصية السوري، وانطوائه على طاقة ثورية عظيمة، ودفع قوي للتضحية في سبيل العقيدة والقيم الأخلاقية، ولموقعه في وعي المواطنين وخياراتهم وتفضيلاتهم؛ وعدم تركه لحركات الإسلام السياسي، توظفه في الحشد خلف رؤاها السياسية والاجتماعية، ما يستدعي تليين النظرة العلمانية المنطلقة من اعتبار الدين أساس اغتراب الإنسان، وتحطيم ذاته وتمزيق شخصيته، واعتبار نبذ الدين وإخراجه من الحياة ونظمها وقوانينها مهمة أولى ورئيسة على طريق التحديث والديمقراطية، بتجاهل تام للدور الذي لعبه الدين وما زال في حياة الإنسان، الفرد والجماعة، وتجاهل ظاهرة تعدّد أنماط العلمانية في التجربة الغربية؛ فهناك النمط الفرنسي المتصلّب، يوصف باللاديني، أو اللاييكي بالفرنسية، الأثير على قلوب علمانيي بلاد المسلمين، والنمط البريطاني الذي قضى بإعطاء الدين دوراً، وإن كان محدوداً، عبر الاعتراف به في حياة المواطنين ومنح الكنيسة استقلالية وحرية عمل اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وإعلامياً، وتعيين 25 رجل دينٍ مسيحيٍ في مجلس العموم البريطاني، والنمط الأميركي المتصالح مع الدين، والمنطلق من نظرة تقول: “إن ثمة إمكاناً لتنظيم العلاقة بينهما وجسر الهوة عبر التنسيق بين فرضياتهما وقيمهما بما يخدم هدفهما المشترك: الإنسان”، ما جعله لا يرى تناقضا بين علمانية الدولة وفرض الصلوات في المدارس الرسمية، وعدم الانطلاق من نظرةٍ أحاديةٍ تقفز على حقائق التاريخ والضرورة الاجتماعية، وتتجاهل مستدعيات التصور العملي والخطة الصائبة بجناحيها: المعقولية والعملية، فالاعتبارات التاريخية والثقافية تفرض احترام العامل الديني، باعتباره عاملا مكونا في شخصية المسلمين وثقافتهم وسلوكهم العام والخاص، والضرورة الاجتماعية تستدعي أخذ التطور المفاهيمي والقيمي والتقني والمؤسسي الحديث في صياغة نظمنا السياسية وعلاقاتنا الاجتماعية خدمة للإنسان في حقوقه وواجباته، بحيث تصبح حياته أكثر أمناً واستقراراً وحرية، ما يستدعي عدم اعتماد مواقف نمطية جامدة واستبعاد هذا العامل أو ذاك، والعمل على جسر الهوة مع الرؤى والقناعات الشعبية ذات الجذر الديني، بالبحث عن تقاطعاتٍ، وطرح تأويلات وحلول وسط تجعل الرؤى والخيارات الحديثة قريبةً من المزاج العام، تمهيدا للدخول في تفاهمات وعقود اجتماعية مناسبة.
المصدر: العربي الجديد