منتصف مارس/آذار الحالي، تدخل سورية عامها العاشر منذ اندلاع ثورة شبابها عام 2011، حين خرجوا إلى الشوارع يهتفون من أجل الحرية والكرامة، ويعلنون كفايتهم من الذل والاستبداد لنصف قرنٍ من الزمان، على يد قادة متوحشين لا يتورعون عن عمل شيء أبداً، ويعتمدون علناً على سمعتهم هذه.
يغرق أطفال سورية في المرض وسوء التغذية، ويخضعون لظروف التشغيل والتجنيد العسكري، وتزويجهم أطفالاً واستغلالهم جنسياً، ولانعدام فرص التعليم وانقطاع سلسلته لسنوات، بعد أن توقف ثلث المدارس عن استقبال التلاميذ، وبسبب التدمير أو الانشغال بالقوى المسلحة أو النازحين، من مناطق أخرى.
ولا شيء بعدُ في الأفق ينبئ ببصيص أمل لهذا الشعب المسكين، الذي لم يعلن توبته عمّا فعله أبناؤه الثوار الأوائل، رغم كلّ ما حدث له، ورغم تمزيق البلاد إرباً على مرأى من العالم كله. فقد استبدّ الحلم بانتصار حاسم على النظام في عامي 2012- 2013، بالكثير من المعارضين السياسيين، والعسكريين أو من في حكمهم خصوصاً. ولم تستطع تلك الموجة الدولية العارمة التي أخرجت بيان جنيف1 إلى النور في منتصف عام 2012، ولا تلك الموجة العربية التابعة آنذاك، التي كانت حصيلتها إنجازات مؤتمر القاهرة، بعد بيان جنيف بأسابيع قليلة، أن تتغلب على ميول بعض المعارضين إلى استكمال الحسم على الأرض، مدعومين بدول إقليمية لها برامجها أيضاً، ثم بدعم الولايات المتحدة أيضاً، أو بقيادتها لغرفة العمليات المعارضة.
واستطاع ذلك التيار بالفعل أن يتطور ويتقدم إلى أمام، من خلال توظيف الدعم الإقليمي المتعدد في اتجاهات متعددة، تورّمت القوى الإسلامية من خلالها، وتلك الأكثر تشدداً منها بالضرورة، وبتأثير مستلزمات المنافسة والصراع على سوريا والسوريين. وحدث ذلك في العامين التاليين 2014 – 2015، ما جعل دمشق تبدو دانية القطوف في صيف العام الثاني، ولكن للأيدي الأطول والأكثر ميلاً للمغامرة خصوصاً.
فكان أن ظهر التدخل العسكري الروسي المباشر في سبتمبر/أيلول من ذلك العام طبيعياً وعادياً، وربما في مكانه، ليس لأهل النظام وحدهم، بل للعديدين غيرهم من المراقبين، والمتورطين من دون رغبة بمشاهدة حالة متطرفة في دراميتها واحتمالاتها. ولم يكن لذلك إلا أن يؤكد لشباب ربيع 2011- عدداً ونوعاً- صحة انعزالهم النسبي، وللبقية العامة ضرورة اجتياح الحدود المجاورة، ثم حدود أوروبا لاحقاً. في حين أنعش ذلك التدخل والاحتدام حمّى التطرف، وتعاظم حجم وتأثير “داعش” و”النصرة” إلى حدود حاسمة تفرض مجاراتها كلياً أو جزئياً على غيرهما أحياناً.
ولم تخلُ المعارضة هنا أو هناك، والأوساط الدولية الصديقة أيضاً، من بعض تفاؤل بأن يحمل التدخل الروسي بعض الإنعاش لعوامل الحل السياسي، بعد أن كانت القيادة الروسية، قد عكست بعض الحكمة منذ مؤتمر جنيف الأول، وأوحت بأنها لا تتمسك بنظام فاشل إلى حدٍ كبير، وتوافق من ثم على استبداله بهيئة انتقالية كاملة الصلاحيات، ستحاول أن تجعلها لطيفة على النظام وأهله، قدر الإمكان. ازداد ثقل وظلّ الدور الروسي بعد ظهور نتائج التدخل العسكري السريعة، من خلال موافقة مجلس الأمن على القرار 2254 بعد خمسين يوماً من بدء العمليات. وربما كانت تلك الموافقة الروسية تهدف إلى امتصاص ردود الفعل على المشهد العسكري الفظ آنذاك، فذلك القرار، رغم كل ما أدخله الروس عليه من الغموض، حدّد من جديد مخطط الانتقال السياسي في سوريا، بتشكيل حكومة لاطائفية خلال ستة أشهر، ثم صياغة دستور جديد، فإجراء انتخابات خلال ثمانية عشر شهراً، تحت إشرافٍ أممي، إضافة إلى ضمان إجراءات مكافحة الإرهاب.
ولكن نجاحات التدخل الروسي المتلاحقة، استطاعت تعزيز صلابة الرؤوس الحامية في موسكو، خصوصاً من خلال ظهور ميول الإدارة الأمريكية للابتعاد عسكرياً وسياسية عن القضية المتشابكة. وأصابت تلك الأجواء المتشددة بعدواها رأس النظام وقيادته، التي كانت مراراً على أعتاب اليأس والاستسلام قبل ذلك، فازدادت رفضاً للعملية السياسية، وبناء الخطط على أساس الانتصار النهائي المقبل. فاستحقت المعارضة السورية ما لحق بها، بعد استكبارها في العامين أو الثلاثة التالية، بتحفظ بعضها على العملية السياسية، لتصبح في وضع تتنازل فيه يوما بعد يوم، من دون مردودٍ ولا مقابل.
ولا نظلم المعارضة المتصدرة للمشهد هنا، مع تزايد ضعف تمثيل الشعب السوري في الواقع إلى حدود فاقعة، وازدياد غياب اللون الديمقراطي المدني المعتدل؛ في حين ارتمت أطراف المعارضة الإسلاموية بسعادة وانسجام في أحضان أطراف إقليمية، وابتدأ يظهر عليها ابتعادها عن تأييد طموحات السوريين في التغيير، وبرزت مكانه تكشيرة شامتة بفشل مشاريع تحديث ودمقرطة المنطقة. لم تستطع الأمم المتحدة، رغم تحديث طرائقها بمرونة وتكيّفٍ مرات عدة، أن تجمع طرفي المعادلة السوريين معاً أبداً حتى الآن. كانت ذروة نجاحات ديمستورا في جنيف4، رغم التشاؤم الذي فرضه موقف الإدارة الأمريكية الانسحابي آنذاك، حين استطاع التقاط صورة للوفدين على خشبة مسرح واحدة. وتم الاتفاق في تلك الدورة على بعض إجراءات تتلامس وتتوازى مع خطوط القرار الأممي 2254.
كان طبيعياً ومفهوماً بعد ذلك أن تبدأ علامات الرفض والتعطيل الخرقاء بالظهور في سلوك النظام ووفده، الذي اضطر للذهاب إلى جنيف بعد التي واللتيا عدة مراتٍ بعد ذلك، في أجواء تزداد احتفالاً بالانتصارات المتوالية على الأرض، بإسهام رئيسٍ من قبل الجيش الروسي، وطيرانه الحرّ المتطور الحاسم الدور. ولكن الأمر المفاجئ، أو غير المفاجئ أيضاً، هو تزايد الضغوط الداخلية في جهة المعارضة، رفضاً وتشهيراً، مع شبهة تشجيع من أطراف إقليمية لا تجد فرصة لمصالحها في هذه اللحظة، ضمن دائرة العملية السياسية، ولأسباب لا تتعلق بالقضية السورية أبداً، بل بتطورات أخرى، أهمها احتدام الخلاف الخليجي، وبين القطبين اللذين كانا الداعمين الأكبر للمعارضة في الأساس، إضافة إلى بدء تحوّل العدسات إلى ساحاتٍ أخرى، ازدادت أهميتها شيئاً فشيئاً، في ظلّ عطالة المسألة السورية، التي ملّت أطرافها من استثارة الاهتمام الأمريكي بلا جدوى فعلية أو حاسمة.
يُسجّل للأمم المتحدة أيضاً، قدرتها على الالتفاف على تلك الأوضاع، وتطويع مسار أستانة الموازي منذ مطلع عام 2017، باتجاه تطوير أي بنية تجمع السوريين معاً، وتؤسس للمراحل اللاحقة، باعتمادها من قبل الأمم المتحدة. كانت اللجنة الدستورية تلك البنية، بعيوبها الكثيرة، التي لم تستطع مناقشات ومناورات ماراثونية أن تخفف منها كثيراً. ولكن تركيبة تلك اللجنة من الناحية النظرية، وربما من وجهة نظر القانون الدولي، ستسمح لها بأن تكون حقلاً للتفاعل، يمكنه بناء شيء سوري – سوري في المستقبل، ومن أجل المستقبل. وهذا أمل يرى فيه بعض السوريين معادلاً لأمل إبليس بالفردوس، ولكنه الموجود. تحولت معارك قوات لنظام التي ما عادت هي النظام، وقوات المعارضة التي ما عادت هي المعارضة، إلى عبث وموت مجاني، لا يمكن بوجوده تلمّس أي بارقة لوقف شاملٍ لإطلاق النار، والتماس لحظة التقاط الأنفاس منها.. لأن الدولة السورية تهتكت، والبلاد تمزقت، والشعب تفرق في أركان المعمورة.
ولا تنفع نداءات الظفر والنصر هنا وهناك، ولا البكاء على الأطلال أو الزمن الغابر.. ما ينفع – ربما- هو تنشيط الاهتمام الدولي من جديد، وهو الأكثر فعلاً وإمكانياتٍ حالياً، بانتظار أن تثمر محاولات السوريين لتنظيم أنفسهم من جديد، على أسس جديدة، وأرضٍ جديدة، فالنظام تناهى، والمعارضة القديمة تناهت.. ولا بأس بكل ما يوحد ويجمع ويعيد الاجتماع السوري والأمل السوري. ولا يعني ما قيل أعلاه، إننا لا نرفع الصوت عالياً تحيةً لثورة السوريين في ذكراها التاسعة.
المصدر: القدس العربي