خلافاً للعديد من القيم والمبادئ الطبيعية لا نكاد نعثر على رأيٍ أو فكرٍ أو مذهب يتفق عليه البشر جميعاً، فإن نحن استثنينا بعض المفاهيم والعناوين الكبرى المجرّدة، كالإنسانية والحبّ والحرّية والعدالة التي تواضعت البشرية جماعات وأفراد على الإقرار بسموّها وأوّليتها، وعلى ضرورة تبنّيها والعمل بها، سنجد أنّنا أمام فيض هائل من الأفكار والآراء والمعتقدات المختلفة والمتباينة حول كلّ شيء وفي جميع المجالات.
ثمّ إنّ الاختلاف قد يطال المفاهيم الكبرى ذاتها من حيث جوهرها ونطاقها وغايتها وحدودها، وستنهض نظريّات وتفاسير لا حصر لها تفضي في مآلاتها إلى تقييدها وضبطها ووضع محدّدات وشروط لها، وسيعمد العديدون خدمة، ربّما، لمشاريع سلطويّة ولمصالح ذاتيّة ضيّقة إلى تطويعها وتحجيمها، وإلى اتخاذ إجراءات قد تصل حدّ إنكارها وإبطال مفاعيلها.
ويبدو الاختلاف ظاهرة طبيعيّة إن لم نقل ضرورة للتوازن وعدم الاختلال أملتها حكمة الخالق لاستمرار الحياة وتجدّدها، ولما يمنحه من تنوّع وغنى وجمال. لا يمكن تصوّر الوجود الطبيعيّ والإنسانيّ في ظلّ التماثل والتطابق بين الكائنات.
لم تكن الأديان السماويّة في جوهرها يوماً ضدّ العقل بل إنّها تجاوزته إلى الإجابة عن أسئلة، وإلى تفسير ظواهر وقف عندها عاجزاً ولم يستطع فكّ طلاسمها ورموزها، وفشل في حلّ عقدها والوصول إلى مبرّرات وتفاصيل مقبولة تتوافق مع منطقه.
ولم يحُل الدين بين الإنسان وبين إرادته في الإقرار أو الإنكار، وبين الفعل أو الامتناع فلكلّ رأيه وفكره ومنهجه ومذهبه ومعتقده. ولعلّ الخطاب السماويّ الإسلاميّ للإنسان واضح بما لا يدع مجالاً للبس فلا إكراه في الدين ولكلّ شرعة ومنهاج..
وممّا يؤسف له أن عديداً من الناس ممن يحملون آراء عن الوجود والطبيعة ويعتقدون بصوابية فكر أو نظريّة ما، أو حتى ممن يتبنون مذهباً ما في الفنّ والأدب يصل به هواه وتقديس خياراته، والافتتان بما مال إليه إلى شيطنة الآخر الذي لا يوافق مذهبه، وإلى محاولة إقصائه وإلغاء وجوده وإنكار حقّه في الدفاع عن قيمه، وعن جماليات خياراته وصوابيّتها وأحقيتها.
كذلك فإنّ الجديد إضافة وإغناء لما هو موجود، ينبغي أن يأخذ مكانه المستحقّ في بستان الوجود، وليس بالضرورة أن يفرض ذاته بديلاّ عن القديم، ولا يستدعي الاعتراف به وتبنّيه الاستغناء عما هو راسخ متجذّر بقوة وجلال، فظهور نبات مختلف لا يمنحه الحقّ باكتساب اسمٍ ليس له، أو الحلول محلّ شجر ضاربة جذوره في الأرض ويملأ عبير أزهاره الهواء والأمكنة.
ما ليس طبيعيّاً هو رفض المختلف لأنّه يؤسس لحالة الكراهية والعنف والاحتراب، ويمنع إمكانيّة الحوار والتلاقح وولادة الجديد، بل ويقود للتشدّد والتطرّف ما يعني استحالة الحياة، ويمكن أن نعزو التطوّر والنهوض الذي شهدته المجتمعات الإنسانيّة في مختلف مناحيها لذلك التمايز بين أفرادها بما تنطوي عليه من تعدّد في الأفكار والرؤى، وبما تحمله من خصائص وقابليات وإمكانيات.
وما ليس طبيعيّاً أيضاً أن تتحوّل سنّة الاختلاف بين الناس إلى فريضة لدى البعض تدفعه إلى مجرّد الرغبة في المعارضة والمناكفة بحيث يتحوّل الحوار إلى جدال عقيم في البديهيات والمسلّمات التي لا تنتج سوى التشتّت والفوضى.
إنّ الاختلاف في جوهره لا يعني رفض المختلف وتسفيه آرائه وأفكاره ومعتقده والسخرية منها، وإنكار حقّه في ألاّ يكون مثلك فيما تعتقد وتعتنق وتحبّ..، إنما على العكس من ذلك تماماً، أي إنّ كون الاختلاف حاجة وضرورة يدفع للقبول بالمختلف بالرغم من وجود التباينات والتناقضات وبما قد نعدّه نقصاً وعيباً، والإقرار بأنّ بعضاً من الحقّ يملكه الآخر، وأنّ الحقيقة لا تكتمل إلا باجتماع أجزائها الموزّعة بين جميع الناس أفراداً وجماعات.
لا بدّ من إدراك حقيقة مفادها أنّ الحياة والعيش في ظلّ المجتمع غير ممكن بدون الالتفات إلى مساحات واسعة، موجودة ومتحققة، من المشتركات والتوافقات، وبدون الوصول إلى وثيقة يشارك في صياغتها جميع الأطراف تضمن العدالة والحقوق المتساوية للأنا والآخر المختلف، وهو ما لا يمكن بلوغه إلاّ عبر الحوار الإنسانيّ الجادّ والصادق.
الأحكام المسبقة والتهم الجاهزة المفصّلة على محض تصوّر رغبويّ متوهّم هي أسوأ ما يمكن أن تواجهه أو تصادفه في علاقتك مع الآخر، وهي لا شكّ ثمرة من ثمار الاستبداد، وتجسيد لمنطق الكراهيّة الذي ينظر للعالم بعين واحدةٍ شوهاء، وللتطرّف النابع من عدم الاعتراف بالآخر والقبول به.
إننا، غالباً، ما ننطلق من محبسنا المظلم في رفض الآخر المختلف، ومن جهل به وبما يحمل من أسباب الاختلاف، التي قد تطلق سراح عقلنا وتحرّر أرواحنا فنقبل بها ونتبنى بعضها إن نحن عرفنا، ولكي نتعرف إلى الآخر لا بدّ من إطلاق آليات النقد والحوار المرتكزين إلى العقل الحرّ والرغبة المنزّهة عن الاقصاء والاحتكار في ولادة الجديد المبدع الذي يجمّل الإنسان والحياة، ويعزّز الإيمان بمطلق الحقّ والخير والجمال.
المصدر: اشراق