محنة اللاجئين السوريين مستمرة منذ بدايات الثورة السورية قبل نحو عشرة أعوام. وهي محنة إنسانية وطنية متعدّدة الأبعاد؛ ولكنها غالباً ما تظهر نتيجة تسليط الأضواء عليها في شتاء كل عام؛ الفصل الذي تتحول فيه مخيمات اللاجئين الموزعة بصورة عشوائية في الداخل الوطني إلى ما هو أشبه بالبحيرات، إن لم نقل المستنقعات. كما تتعرّض مخيمات اللاجئين السوريين في الجوار، سيما في لبنان والأردن، للكوارث الطبيعية. وفي لبنان تحديداً، يتعرّض اللاجئون السوريون للحملات العنصرية؛ ويكونون بصورة مستمرة موضوعاً لدعاية إعلامية تحريضية تقوم بها قوى عنصرية فاشلة متطرّفة، تحمّل اللاجئين السوريين مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع نسب البطالة. كما أن جانباً من تلك الحملات ترتكز إلى فزّاعة الإخلال بالتوازنات الديموغرافية؛ في حين أن تهجير أكثر من نصف السوريين، بما يعنيه ذلك من إخلال بنيوي وجودي بتركيبة المجتمع السوري ومستقبله، لا يستوقف تلك القوى، وحزب الله على وجه التخصيص، وهو الذي شارك فعلياً، بالتنسيق مع القوات الإيرانية والفصائل المذهبية التي أدخلها النظام الإيراني، بالترتيب مع نظام بشار إلى سورية، في قتل السوريين، وتجويعهم، وتدمير مدنهم وبلداتهم، وتهجيرهم، بل كان طرفاً في صفقات تبادل مناطق فاقعة النزعة المذهبية.
أكثر من عشرة ملايين سوري ما زالوا بين نازح في الداخل السوري ولاجئ في دول الجوار. منهم نحو مليون ممن وصلوا إلى المهاجر البعيدة في أوروبا وأميركا الشمالية وأميركا اللاتينية؛ وحتى إلى أفريقيا وأستراليا؛ ولكن المحنة الإنسانية تتركز بصورة أساسية في المخيمات العشوائية في الداخل الوطني، كما تشمل المخيمات النظامية الخاضعة لإدارة الجهات المعنية ومراقبتها في الدول الإقليمية والمنظمات الدولية.
كان من الواضح، منذ الأيام الأولى للثورة السورية، توجه النظام نحو إرهاب السوريين، لإرغامهم على ترك منازلهم، والنزوح بعيداً عن مناطقهم، خصوصا في مناطق حمص وحماة، وغوطة دمشق، وحلب، وبعض مناطق الساحل؛ إذ ارتكب المجازر، واستخدم كل أنواع السلاح، بما في ذلك الطيران والصواريخ والأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة التي ظل يستخدمها سنواتٍ أمام مرأى العالم أجمع ومسمعه؛ هذا العالم الذي وقف عاجزاً، أو ربما، وبكلام أدقّ، تظاهر بالعجز، ولم يتدخل لإيقاف حمامات الدم التي كانت تحصد أرواح المدنيين من دون أي تمييز بين الأطفال والنساء والشيوخ والشباب.
وكان من اللافت تركيز القصف على المشافي، ونقاط الصحة، والأسواق الشعبية، والمدارس، وقوافل الإغاثة، والمساعدات الطبية؛ وذلك كله لإجبار الناس على الرحيل.
محنة اللاجئين السوريين لا تقتصر على المعاناة القاسية اللا إنسانية التي يعيشونها كل شتاء؛ وهي المعاناة التي غالباً ما تكون موضوعاً ساخناً تتركّز عليه الأضواء الإعلامية، كما أسلفنا، ولكن سرعان ما تصبح تلك الأوضاع جزءا من المألوف اليومي المنسي؛ ويتراجع الاهتمام الإعلامي بها، ليتلاشى في ما بعد. معاناة اللاجئين السوريين متعدّدة الأوجه، وهي مستمرة في كل يوم، بل في كل لحظة. فأن يخرج أكثر من نصف سكان سورية من مساكنهم عنوة، ويُرغموا على ترك ممتلكاتهم، بل وطنهم، والاستمرار في هذه الحالة عشر سنوات، إنما هو أمر كارثي بذاته، وفق جميع المقاييس.
اللاجئون السوريون، سواء الذين يعيشون ضمن المخيمات أم خارجها في الداخل السوري وفي الجوار الإقليمي، يعانون من جملة مشكلات كبرى، لعل الطبيعية منها تعدّ من أبسطها. فهم يعانون من مشكلاتٍ صحية، وتربوية، واجتماعية، واقتصادية، بالغة التعقيد والتشعب، يعانون من عدم الاستقرار والضغط؛ كما يعانون من إجراءات التقييد والضبط التي تحوّلهم إلى كتلة بشرية سلبية عاطلة تعيش على المنظمات الإغاثية التي بات معظمها مرتعاً للفساد، يتشارك فيه سوريون، وقسم كبير من العاملين في المنظمات الإغاثية نفسها.
التعطيل الذي يتعرّض له اللاجئون السوريون يتناقض مع طبيعة السوريين الأساسية، فالسوريون معروفون بحبّهم العمل، وقدرتهم على الإبداع، وتدبير أمورهم مهما كانت قسوة الظروف. كما يعاني اللاجئون من تدنّي مستويات التعليم، إن لم نقل انعدام فرص التعليم الجاد المنتج، الأمر الذي أدّى إلى ظهور جيل كامل من شبه الأميين. جموع من الأطفال لم يتلقوا تعليماً حقيقاً منذ عشر سنوات؛ بل إن كثيرين منهم اضطروا للعمل، وحتى التسوّل، لإعالة أسرهم، الأمر الذي أدّى، وسيؤدّي، إلى تراكم جملة من المشكلات النفسية والاجتماعية. وغالباً ما يتحول قسم كبير من هؤلاء إلى بيئةٍ خصبةٍ لانتعاش الأفكار المتطرّفة، والتناغم مع جهود المليشيات المتطرّفة التي تعمل على تجنيد الشباب السوريين ضمن صفوفها، ولصالح أجنداتها التي لا علاقة لها بمصلحة السوريين، فنتيجة الظروف المعيشية الصعبة، انضم قسم من الشباب السوري إلى فصائل مسلحة لا يؤمنون بتوجهاتها؛ كما اضطر بعضهم إلى العمل مرتزقة لصالح الأطراف المتصارعة على سورية، وذلك في مقابل تأمين مورد عيش لهم ولأسرهم. كما أن فتيات ونساء سوريات، سيما ممن فقدن من يعيلهن، تعرّضن، ويتعرّضن، لأبشع أنواع الاستغلال من الوحوش البشرية من تجار الحروب والأزمات.
وعلى الرغم من الحملات الدعائية الفاشلة التي قام بها الروس مع النظام، بخصوص قرب عودة اللاجئين، حتى وصل الأمر بهم إلى حد تشكيل لجان الاستقبال، وتحديد المعابر، والدعوة إلى تنظيم مؤتمر لعودة اللاجئين، ومن ثم تنظيمه بالتنسيق مع النظام من دون أي نجاح، والسعي من أجل الحصول على أموال إعادة الإعمار بهدف تحفيز الناس على العودة، على الرغم من هذا كله وذاك، لم يحدث أي شيء في الواقع العملي؛ إذ امتنع الناس عن العودة، وذك لعدم ثقتهم بالنظام وأجهزته، والوعود الروسية. هذا إلى جانب خشيتهم من حملات النظام القمعية، كالتي استهدفت، وتستهدف السوريين في مناطق المصالحات والهدن التي أشرف عليها، ورتبها الروس، فقد أُعطيت الوعود للناس بالحفاظ على حرّياتهم وأرواحهم وممتلكاتهم، ولكن ذلك كله لم يمنع أجهزة مخابرات النظام من ملاحقة كثيرين واعتقالهم وتصفيتهم.
محنة اللاجئين السوريين ستمتد كما امتدت محن النازحين والمهاجرين في سورية نفسها والمنطقة بأسرها (محنة نازحي الجولان ومأساة اللاجئين الفلسطينيين مثالاً)، وقد تستغرق عقداً آخر، وربما عقوداً أخرى، إذا ما ظلت الأمور على حالها، وظلت عقلية إدارة الوضع السوري وأدواتها لدى القوى الدولية المؤثرة، خصوصا الولايات المتحدة وروسيا، على حالها.
المشكلة الأساسية التي تمنع اللاجئين السوريين من العودة إلى مناطقهم تتمثل، بصورة أساسية، في الجانب الأمني، إذ لا توجد ضمانات أمنية ما دام النظام الأمني القمعي الذي يتبجّح بانتصاره على أشلاء السوريين وحطامهم بدعم الروس والإيرانيين والمليشيات التابعة لهم، موجودا ومسيطرا. وإلى جانب المشكلة الأمنية، هنا مشكلة الفساد الشمولي، الذي حوّل سورية بكاملها، ومن دون أي تمييز بين موالين ومعارضين لحكم النظام، إلى ما هو أشبه بمخيمات اللاجئين التي تفتقر إلى أبسط مقومات العيش الإنساني.
في مقدور السوريين، بتفانيهم في العمل، وإبداعهم، وقناعتهم، وحبهم وطنهم، أن يعيدوا إعمار بلدهم، بل تطويره ليكون أفضل مما كان، إذا تخلصوا من منظومة الاستبداد والفساد التي تقاطعت مصالحها مع مصالح الذين أرادوا أن تكون سورية مجرّد ساحة عبور لمشاريعهم المذهبية التوسعية، أو ورقة تفاوضية، تستخدم لتسجيل نقاط أو ضمانها في ملفاتٍ إقليمية ودولية أخرى.
قضية اللاجئين السوريين هي المحور الذي تتمفصل حوله المسألة السورية بصورة عامة، وهي قضية لا تمسّ عدة آلاف، بل تخص أكثر من عشرة ملايين سوري بصورة حيوية مباشرة، أجبروا عنوة بقوة سلاح النظام ومليشياته، وسلاح الجيوش الأجنبية والمليشيات التابعة بأسمائهما وشعاراتها المختلفة، على مغادرة مساكنهم ووطنهم. ولهذه القضية علاقة عضوية بحسابات النظام وراعيه الإيراني في ميدان “الهندسة السكانية والتوازن المجتمعي”، بما يضمن استمرارية نظام بشار المسؤول عن كل المآسي التي شهدها ويشهدها السوريون. النظام الذي يستعد اليوم لتمرير الفضيحة التي يسميها “الانتخابات الرئاسية”، وقد بدأ حملته مع التابعين له من رجال الدين المسلمين والمسيحيين، وعبر ممارسة العرقلة والتسويف في اللجنة الدستورية التي وجدت أصلا لتجاوز القرارات الدولية التي نصّت صراحةً على ضرورة حصول عملية انتقال سياسية حقيقية، تكون مدخلاً إلى معالجة الوضع السوري. والجميع يعرف أنه لولا الدعم والتغطية من الجانب الروسي، لما كان لهذا النظام أن يتصرّف ويتحرّك بهذ الأريحية. ولكن روسيا لم يكن لها أن تكون مطلقة الصلاحية في سورية لولا الضوء الأخضر الأميركي في عهد إدارة أوباما، والتفاهمات التي استمرت، أو كانت، في عهد إدارة ترامب.
هل ستستمر إدارة بايدن في المسارات ذاتها التي كان أوباما قد حدّدها لإدارته؟ أم أن المتغيرات الإقليمية والدولية، فضلاً عن الأولويات الخاصة ببايدن وإدارته، ستكون الأرضية لمقاربةٍ جديدة للملف السوري؛ مقاربة تأخذ بعين الاعتبار تضحيات السوريين وعذاباتهم وتطلعاتهم، خصوصا واقع وجود ملايين النازحين والمهجّرين الذين يؤكّدون، للعام العاشر على التوالي، استحالة التعايش مع النظام الذي أدمن الوحشية أسلوباً لإرغام السوريين على القبول بما لا يمكن القبول به، وما يستعصي على أيٍّ من أشكال الشرعنة؟
المصدر: العربي الجديد