غابت سوريا عن لسان الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن، في أول خطاب له عن السياسة الخارجية بمقر وزارة الخارجية في واشنطن، إلا أنها كانت حاضرة بشكل متكرر في الملفات التي طرحها في خطابه، مساء يوم الخميس الفائت.
من غير المنطقي الحكم بأن إدارة بايدن لن تولي أهمية كبرى للملف السوري بالاستناد على أول خطاب للرئيس الأميركي في مقر وزارة الخارجية، فالملفات التي تحدث عنها بايدن كفيلة للقول إن سوريا ستكون ميدان تنافس استراتيجي بين واشنطن وموسكو، فبايدن الذي مرّ على استلامه سلطة البيت الأبيض قرابة الشهر؛ قال في خطابه يوم أمس: إن إدارته ستواجه استبداد روسيا، مشددا على رغبته بتغيير نهج سلفه الرئيس السابق دونالد ترامب حيال روسيا.
إذاً فإن أكثر جهة دولية تتدخل في الشأن السوري (روسيا) ستكون أمام مهمة صعبة في مواجهة رئيس أميركي يريد تغيير صورة العلاقات الخارجية لدولته، وهذا ما سيتطلب بدايةً استمرار بقاء القوات الأميركية في قواعدها الحالية بشمال شرقي سوريا وعند مثلث الحدود السورية-العراقية-الأردنية (التنف).
بقاء القوات العسكرية الأميركية في سوريا سواء بشكل منفرد أو ضمن إطار التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، سيعني بأي حال من الأحوال الإبقاء على قناة مناورة تحاصر التمدد الروسي في الملف السوري عموما، وفي مناطق حقول النفط والغاز في شرق الفرات خصوصا.
ومما لا شك فيه أن إبقاء القوات سينبثق عنه أدوار أخرى بمستويات مختلفة، أهمها مصير مناطق شرق الفرات وطبيعة الحكم فيها، فقد نرى إثر ذلك البقاء دعما أميركيا لمنح أكراد “الإدارة الذاتية” كيانا مستقلا مدعوما سياسيا من الولايات المتحدة، واقتصاديا من الحقول النفطية التي تنتشر حولها القوات الأميركية. ويندرج على ذلك تقديم دعم مالي لاستمرار محاربة خلايا تنظيم “داعش” الإرهابي في المنطقة.
وليس ببعيد عن “داعش” فإن سياسة التحالف بقيادة واشنطن لن تختلف عما توجهت نحوه في الآونة الأخيرة باستهداف التنظيمات الإرهابية في شمال غربي سوريا بالطائرات المسيّرة، بل إنها قابلة للزيادة، وهو الأمر الذي سيفتح المجال أكثر لتضييق مساحة النفوذ على روسيا، وخلط أوراق التفاهمات الروسية – التركية.
في المقابل فإن إيجاد واشنطن دورا أكبر لها في إدلب ويختلف عن الدور الأميركي في الملف السوري فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، سيؤدي بطبيعة الحال إلى تقارب روسي – تركي في سوريا ومحاولة استيعاب الضغوط الأميركية المتوقعة بشكل مشترك، بخاصة أن تركيا هي الأخرى قد لن يكون حال التعامل الأميركي معها بأفضل حالا من التعامل مع روسيا.
ما ذكره بايدن في خطابه أيضاً حول إنهاء الحرب في اليمن يحدد اصطفافات القوى الإقليمية المتدخلة في اليمن والمنطقة وعلى رأسها النظام الإيراني، الذي تشير الاحتمالات إلى أن بايدن سيحدد شكلا جديدا في العلاقة مع إيران وحيال نفوذها في المنطقة وكذلك الاتفاق النووي الإيراني، وقد تكون تلك العلاقة أقل تشددا من تعامل سلفه ترامب مع النظام الإيراني على الصعيدين السياسي والاقتصادي، الأمر الذي يترك الباب مفتوحا أمام تخفيف حجم نفوذها بشكل نسبي في سوريا مقابل حلحلة بعض الملفات الأخرى مع الولايات المتحدة وعلى رأسها الاتفاق النووي والوجود الإيراني في اليمن.
الولايات المتحدة لن تتهاون في التشديد على تمسكها بتنفيذ مقررات القرار الأممي 2254 والبناء عليه لحل سياسي مستدام في سوريا، لكنها في الوقت ذاته ستعمل على التمسك بما تتشدد به ليكون ورقة إضافية بيدها لمواجهة روسيا، تضاف إلى أوراقها المتعددة ومنها عقوبات “قانون قيصر” التي سنشهد عبرها ولادة عقوبات من نوع متطور تحمل معها الضغوط الاقتصادية ليس فقط على دمشق وإنما أيضاً على موسكو.
لا يمكن لكل من روسيا وتركيا مواجهة الولايات المتحدة بسياسة تصعيدية لكن قد يكون عليهما تقديم أوراق تنازل لواشنطن التي ابتعدت عن الملف السوري في أيام ترامب وباتت الفترة المقبلة مرحلة “تحصيل ضرائب” لإدارة بايدن بعد مساحة التمدد الواسع الذي منحه ترامب للروس والأتراك على حد سواء.
التصعيد محتمل في جبهتي الشمال السوري الغربي منها والشرقي، فالروس والأتراك لن يقبلوا تمددا كبيرا للأميركان في إدلب بحجة “مكافحة الإرهاب”، لذا فإن ساعة الإعلان عن تصفية نفوذ عديد القوى الإرهابية في الشمال الغربي حان موعدها. في المقابل فإن الشمال الشرقي بتعقيدات النفوذ الموجود على أراضيه والتداخل الكردي – العربي يُبقي مصير المنطقة هناك ضبابيا بين كيان مستقل يمنح حكما ذاتيا للأكراد، وبين صراع عشائري بين أطراف متعددة تتلقى دعما متعدد الأشكال والنوايا، بين روسيا التي ستدعم العشائر الموالية لحكومة دمشق، وبين تركيا التي تدعم العشائر المعارضة لنفوذ “قسد” في المنطقة، وبين الولايات المتحدة التي لن تبخل على “الإدارة الذاتية” بدعم استراتيجي يحدد بوصلة سياستها في سوريا على وجه الخصوص، والمنطقة بشكل عام.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا