في ظل عدم وضوح سياسة الإدارة الأميركية الجديدة حيال القضية السورية، إذ غاب الملف السوري عن تصريحات الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، خلال الحملة الانتخابية وحتى اليوم، تبرز رسائل توجهها أطراف مختلفة في الصراع باتجاه واشنطن.
وفي هذا الإطار، وجّه النظام السوري مؤشرات لإمكانية التعاطي مع إدارة بايدن، لكن ضمن شروط، حددها من خلال بعثته الدائمة في الأمم المتحدة. على طرف آخر، تلقت إدارة بايدن نصائح من “مجموعة الأزمات الدولية”، بإعادة النظر في تصنيف “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) كمنظمة إرهابية، وذلك بعد ظهور قائدها أبو محمد الجولاني بحلة جديدة “عصرية” لدى استقباله الصحافي الأميركي مارتن سميث في إدلب، أراد من خلالها الجولاني إيصال رسالة باتخاذه، مع تنظيمه، طريقاً بعيداً عن التشدد وأكثر تقرباً من الانفتاح على الغرب والمجتمع الدولي.
ونقلت مجلة “نيوزويك” الأميركية، في عددها الصادر أول من أمس، عن البعثة الدائمة للنظام لدى الأمم المتحدة، أن “سورية (النظام) مستعدة للتعامل مع إدارة جو بايدن إذا تراجعت عن سياسات أسلافها في سورية”، مشيرة إلى أن مثل هذا التراجع سيشمل وقف التدخل في الشؤون الداخلية لسورية، وسحب القوات الأميركية المنتشرة من دون إذن دمشق، ووقف استغلال موارد النفط والغاز. كما طالبت البعثة بأن تشمل أيضاً إنهاء المساعدة لـ”قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، فضلاً عن وقف مساعدة الجهات الفاعلة الأخرى غير الحكومية المنخرطة في الحرب.
ولفتت البعثة، في حديثها للمجلة، إلى أن “سبب الخلافات القائمة مع الولايات المتحدة هي سياسات الإدارات الأميركية السابقة، من خلال التدخل في الشؤون الداخلية لسورية، واحتلال أراضٍ سورية، وسرقة مواردها الطبيعية، ودعم المليشيات الانفصالية والمسلحة وكيانات إرهابية”، مشيرة إلى أنه في حالة تلبية هذه الشروط، ستنظر دمشق في إعادة العلاقات مع واشنطن، التي قطعت في عام 2012. كما أوضحت أنه “في حال استعداد الإدارة الأميركية للتخلي عن هذه السياسات، فإن سورية لا تعترض على الاتصالات الهادفة، بعيداً عن الشروط التي كانت الإدارة السابقة تحاول فرضها في ما يتعلق بالوضع في سورية والمنطقة”.
ويبدو أن نظام بشار الأسد يحاول إعادة التواصل مع أميركا بعد تغيير الإدارة، التي أعلنت عن نيّتها بحث العودة للعمل بالاتفاق النووي مع إيران. وباتت دمشق تدرس جدياً سلوك هذا الطريق لتحسين علاقاتها مع واشنطن، بالاستفادة من الشروط الإيرانية لإعادة الاتفاق إلى حيز التنفيذ، بما قد يتضمنه من علاقة طهران مع النظام، وحل مشكلة انتشار قواتها ومليشياتها في سورية. وشكّل انتخاب بايدن بالنسبة للأسد بارقة أمل لإمكانية فك العزلة المشددة التي فرضتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب عليه، سواء بالضغط على أطراف دولية وإقليمية لتعزيز العزلة، أو من خلال العقوبات المستمرة، وآخرها المقوننة المتمثلة بـ”قانون قيصر”.
غير أن إدارة بايدن لم تعط إشارات واضحة، لا نحو النظام أو المعارضة، أو باقي الأطراف لإمكانية التعامل مع أي منها. ولا يزال تعاطيها مع القضية السورية ضعيفاً، لا سيما أن الإدارة لم تقم إلى الآن بتعيين مبعوث أميركي خاص إلى سورية خلفاً للسابق جويل رايبرون. وحضرت القضية السورية في تصريحات للمتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس حول التفكير الحالي لإدارة بايدن بشأن سورية، قبل الذكرى العاشرة للحرب. وقال برايس، في مؤتمر صحافي يوم الثلاثاء الماضي، “سنجدد جهود الولايات المتحدة للترويج لتسوية سياسية لإنهاء الحرب الأهلية السورية، بالتشاور الوثيق مع حلفائنا وشركائنا والأمم المتحدة”. وأكد أنه “يجب أن تُعالج التسوية السياسية الأسباب الكامنة التي أدت إلى ما يقرب من عقد من الحرب الأهلية. سنستخدم الأدوات المتاحة لنا، بما في ذلك الضغط الإقتصادي، للضغط من أجل إصلاح ذي مغزى والمساءلة. وسنواصل دعم الأمم المتحدة ودورها في التفاوض على تسوية سياسية بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254”.
من جهة أخرى، يشكّل عدم وضوح موقف إدارة بايدن من الأزمة السورية، منطلقاً حتى للتنظيمات التي تصنفها واشنطن إرهابية، لتصور آلية يتم اعتمادها ومشاركتها في العملية السياسية، من خلال إعادة تقييم أدائها واعتمادها من قبل إدارة بايدن، أو الإدارة في واشنطن بشكل عام، التي تُعتبر البوصلة للغرب والمجتمع الدولي في تصنيف الجماعات في سورية، والشرق الأوسط عموماً. ولم يشكل ظهور أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام”، بحلة جديدة، بعيدة كل البعد عن زي الإسلاميين المتشددين، المبادرة الأولى لتقديم أوراق اعتماده حول إمكانية تغيير أفكار ومنهجية تنظيمه ليكون مقبولاً من الفاعلين الدوليين في الأزمة السورية. وهي ليست المحاولة الأولى للجولاني لإعطاء هذا الانطباع، إذ سبقتها إشارات سابقة في هذا السياق، ولا سيما في العامين الأخيرين، مع تمدد “الهيئة” في إدلب وقضائها على جزء كبير من الفصائل المعارضة المعتدلة أو تهميشها.
وعلى ذلك، جاءت نصائح “مجموعة الأزمات الدولية”، وهي منظمة غير حكومية مقرها بروكسل، لإدارة بايدن، حول إعادة النظر بتصنيف “هيئة تحرير الشام” كمجموعة إرهابية، وذلك من خلال “تقدير موقف” أصدرته المجموعة، يوم الأربعاء الماضي، حمل عنوان “في إدلب السورية، هناك فرصة لواشنطن لإعادة تصور (تعريف) مكافحة الإرهاب”.
وقالت المجموعة إنه “إذا كانت إدارة بايدن تسعى إلى تصحيح السياسة الخارجية المفرطة في استخدام القوة العسكرية التي تنتهجها واشنطن، فإن هناك فرصة لإعادة تعريف استراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب تكمن في إدلب، وهي المنطقة التي وصفها مسؤولون أميركيون ذات يوم بأنها أكبر ملاذ آمن لتنظيم القاعدة منذ 11 سبتمبر/أيلول (2001). ولم تعد المحافظة السورية الشمالية الغربية كذلك لعدة أسباب”. وأشارت إلى أن “إدلب تبقى ملجأ مزدحماً لثلاثة ملايين مدني، وموقع كارثة إنسانية محتملة تلوح في الأفق ومعقلا أخيرا للجماعات الثورية السورية. كما أن مصيرها قد يكون محورياً لمستقبل وسياسة الولايات المتحدة تجاه التشدد الإسلامي في المنطقة”.
ونبهت المجموعة إلى أن “علاقة هيئة تحرير الشام، وهي الجماعة المتمردة الأكثر هيمنة في إدلب، انكسرت مع شبكات الجماعات الجهادية، وتسعى الآن إلى الدخول في مجال المشاركة السياسية بشأن مستقبل سورية. من الناحية النظرية، ينبغي أن تتيح هذه الوقائع فرصاً لتجنب تجدد العنف”. وأكدت أنه “من الناحية العملية، يشكل استمرار وضع هيئة تحرير الشام كمنظمة إرهابية (كما صنفتها الولايات المتحدة وروسيا ومجلس الأمن الدولي وتركيا) عقبة رئيسية، وله تأثير مخيف على الدعم الغربي لتوفير الخدمات الأساسية في إدلب، ما يزيد من تفاقم الأزمة الإنسانية. كما منعت إجراء مناقشات مع هيئة تحرير الشام نفسها حول سلوكها ومستقبل الأراضي التي تسيطر عليها، حيث تتجنب الدول الغربية والأمم المتحدة الاتصال مع الهيئة تماماً، في حين تقصر تركيا نفسها على الحد الأدنى اللازم لتسهيل وجودها العسكري في إدلب”، موضحة أن “غياب هذا التواصل يقوض وقف إطلاق النار ويوقف القوى الخارجية عن الضغط على الهيئة لاتخاذ المزيد من الخطوات البناءة”.
ورأت المجموعة أن “هناك حاجة ملحّة إلى أفكار خلاقة لكيفية الحفاظ على هذه الهدنة الهشة، من خلال إيجاد جواب مباشر بشأن وضع الهيئة. ومع ذلك، من الصعب تصور أن تنبع هذه الأفكار من الأطراف الفاعلة في شمال غرب سورية”، بالإشارة إلى أن أنقرة مترددة في الانخراط دبلوماسياً مع “هيئة تحرير الشام” بسبب غياب الدعم الدولي، في حين تفضّل موسكو ودمشق انتصاراً عسكرياً صريحاً على “الهيئة”. وفي خضم ذلك تقدّم “تحرير الشام” نفسها على أنها تدافع عن إدلب من أي تقدم آخر للنظام. وبناء على ذلك ترى المجموعة بأن هناك فراغاً سياسياً، وواشنطن الآن في وضع جيد لملء هذا الفراغ، موضحة أنه “يجب على إدارة بايدن أن تعمل مع الحلفاء الأوروبيين وتركيا للضغط على هيئة تحرير الشام من أجل اتخاذ المزيد من الإجراءات التي تعالج المخاوف المحلية والدولية الرئيسية، وتحديد معايير واضحة (إذا تم الوفاء بها) يمكن أن تمكن هيئة تحرير الشام من التخلص من علامتها الإرهابية”.
وبعد انتشار صورة الجولاني، قبل أيام مع صحافي أميركي، عبّرت “الهيئة” صراحة، في تصريح عبر مكتبها للعلاقات الإعلامية، عن اعتقادها بأنه “من الواجب علينا كسر العزلة، وإبلاغ واقعنا بكل السبل الشرعية المتاحة، وإيصال ذلك إلى شعوب الإقليم والعالم، بما يساهم في تحقيق المصلحة ودفع المفسدة لثورتنا المباركة”.
على صعيد الأطراف الأخرى المتحكمة في الأرض، فليس هناك مخاوف كردية كبيرة من جهة الإدارة الأميركية الجديدة، في ظل الإجماع الأميركي، حتى مع إدارة ترامب، على دعم الأكراد شمال شرق سورية، حتى حين أراد التخلي عن دعم المجموعات الكردية المقاتلة بشكل مباشر، من خلال قراري الانسحاب من سورية، اللذين لم ينفذا بسبب عرقلة مؤسسات الحكم الأميركية المختلفة. في حين تبقى المعارضة المتمثلة بالائتلاف الوطني السوري والمقربة من أنقرة، مشتتة، من دون أن تقدم موقفاً حقيقياً للإدارة الأميركية الحالية. وتكمن أبرز مخاوفها في تخفيف إدارة بايدن لمفاعيل عقوبات “قانون قيصر”، وتعيين مسؤول جديد عن الملف السوري في البيت الأبيض أو الخارجية غير منسجم مع أفكارها وتطلعاتها، بعد خسارتها لأبرز أصدقائها من المبعوثين الأميركيين إلى سورية، بعد انتهاء خدمة جويل ريبرون.
المصدر: العربي الجديد