لا يغيب عن نظر ولا مخيال أي سوري شريف، ولم يغب أصلًا في يوم من الأيام، حال المعتقلين السوريين في أقبية العسف والقهر وهدر الإنسانية. وهي قضية باتت من أهم القضايا الإنسانية والسياسة أيضًا التي تشغل بال السوريين، وتقلق راحتهم، وهم الذين ما برحوا يعيشون زمن القهر والهدر الأسدي، ويتحملون حالات التهجير القسري، داخليًا وخارجيًا، وكذلك المقتلة الأسدية المستمرة فصولًا في غير مكان من الجغرافيا السورية.
لكن قضية القضايا، ولب القهر الحقيقي للسوريين، هو الاستمرار في حجز حرية ما ينوف عن نصف مليون إنسان، وتغييب (بلا أي خبر) ما يزيد عن 200 ألف آخرين، وهو ما يجعل ذويهم في حيرة من أمرهم، فماذا هم فاعلون، وماذا بإمكانهم أن يقدموا على طريق معرفة أي خبر أو معلومة عن أبنائهم وآبائهم، بناتهم وشبابهم وشيوخهم، لا خبر عن الموت المحتمل، ولا معلومة عن مصائر (كوفيد )19 في أقبية خالية من كل أنواع الاستطباب أو الاعتناء الصحي العادي، فما بالنا إذا ما دخل وباء كورونا إلى الزنازين المكتظة، حيث ينام المعتقل على كتف زميله، ولا إمكانية لأي عناية بصحة فرد مصاب بأي مرض معدي او غير معدي.
والمعضلة الأكثر فجاجة هي حالة انزياح أخلاقية يراها السوريون، في تلافيف ومنحنيات الحركة السياسية التي تقوم بها غير مؤسسة من مؤسسات المعارضة، بلا إعطاء أهمية لأي معتقل أو لأسرتهم، حيث يعانون من القهر المضاعف، قهر النظام الذي اعتقل أبناءَهم، وقهر المعارضة المنشغلة بترهات وزيارات مكوكية، ورحلة الشتاء والصيف إلى جنيف، دون جدوى، ومن ثم دون أي اكتراث لمصائر السوريين في سجون الطاغية.
إننا اليوم ندق ناقوس الخطر، ونضع الجميع أمام مسؤولياتهم، بعد أن تسربت معلومات كثيرة تفيد بأن الموت الزؤام بدأ يفتك بإخوة لنا في زنازين القهر، بينما أضحى وباء الكورونا منتشرًا في العديد من أقبية الاعتقال الأسدي، وسط لا مبالاة من القائمين على السجون، وأمام تخلٍ واضح من معظم الهيئات الدولية والعربية، وأيضًا الدول الصديقة وغير الصديقة.
لا قهر اليوم يعلو قهر السجان للمعتقلين، ولا همجية الآن تعادل همجية زج مئات الآلاف من السوريين في زنازين العسف وقتل الإنسانية، ولا إرهاب يعلو على إرهاب العصابة الأسدية، التي تغيب خيرة شباب وشابات ورجالات الوطن السوري، وحجر ومنع أية معلومات للاطمئنان عنهم، في عملية تحدٍ صارخ للإعلان العالمي لحقوق الانسان، وكل الشرعة الدولية، ولا خوف يعادل اليوم خوف أمٍ على ابنها في معتقلات الأسد، ولا قلق يعلو القلق الذي نراه في أعين امرأة خُطف زوجها وزج به في المجهول، وفي معتقلات الخوف الأسدي، بينما يتفرج هذا العالم (المتحضر) على إجرام سلطة مازال يتعامل معها في المؤسسات والمنظمات الدولية على أنها ممثلة للسوريين كافة.
رب قائل يقول وهل تستطيع هذه المعارضة أن تفعل شيئًا، وهي التي وضعت كل بيضها في سلة الخارج، وارتمت في حضن الآخرين، ونامت هنيئة، لتفعل ما يريده ذاك الخارج، المنفلت من كل عقال، والمنشغل بمصالحه وهمومه، التي قد لا تتقاطع أبدًا مع المصلحة الوطنية السورية، ولا يقلقها مطلقًا مصير مئات ألوف السوريين الذين يعانون أشد أنواع المعاناة قسوة، في أقبية جلادين لا يعرفون الله، ولا أي إنسانية، مهما كانت مصائر الناس مميتة بين أيديهم.
ستظل قضية المعتقلين قضيتنا، وستبقى نهاراتهم ولياليهم ليالينا، وقلقنا المستمر الذي لا يسمح لأحلامنا أن تكون إلا أحلامهم بالحرية، والخروج من بين أيدي الظلام، وسنبقى نحاول فعل كل ما يمكن أو لا يمكن، من أجل إطلاق سراحهم. وسيظل كل معتقل سوري مهما كان، قريبًا أو بعيدًا، هو معتقلنا، والافراج عنه هاجسنا، نحو الحرية نسير وباتجاه الكرامة سرنا، واستشهد أكثر من مليون فرد من شعبنا، من أبنائنا وأهلينا، ولا يمكن أن نقبل بأقل من العدالة الانتقالية، وليس تلك (التصالحية) التي روج لها (غير بيردسون) ومن شجعه على ذلك. إذ لابد أن تبقى قضية المعتقلين قضيتنا، ولم نعد نقبل أن يظل الخارج يتعامل معها كملف من بين الملفات، إنها قضيتنا التي علينا جميعًا أن نبقيها حية وآنية وراهنة على طول المدى. ولا يجب أن نسمح اليوم بوجود فاعل لمن يحاول طمسها أو المساومة عليها، ولا شرعية أبدًا لمن يظن أن قضية المعتقلين باقية فقط على الرفوف وفي الأدراج، هي حية وراهنة، ولا نقبل إلا أن نبقيها كذلك، حية وراهنة وعلى أجندات كل المفاوضات، حتى ننعم بخروج آخر معتقل سوري من بين أيدي الجلاد والطاغية.