الاشتراكية تشهد انبعاثاً. وتكشف استطلاعات الرأي عن شعبيتها المتزايدة في الولايات المتحدة، وخاصة بين الشباب. ويشير السياسيون المشهورون، مثل بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو كورتيز، بفخر إلى أنهم اشتراكيون. ولا يبدو أن الصحافة والمثقفين العامين يتوقفون عن الحديث عن الاشتراكية.
السبب الرئيسي لعودة ظهور الاشتراكية هو الرأسمالية -أو بالأحرى تداعياتها السلبية. فقد تباطأ النمو الاقتصادي على مدى العقود الماضية، وأصبحت مكاسبه تتوزع بشكل أقل تساوياً باطراد: أصبح التفاوت في الدخل في الولايات المتحدة اليوم في أعلى مستوياته منذ بدأ مكتب الإحصاء في تعقبه، وتسيطر نسبة أعلى واحد في المائة من الأميركيين على حصة من ثروة الأمة تعادل ما تمتلكه الطبقة الوسطى بأكملها، وفقاً للاحتياطي الفيدرالي. وكان عدم المساواة المتزايد مصحوباً بارتفاع في منسوب انعدام الأمن أيضاً.
كما يقول الأستاذ في جامعة ييل جاكوب هاكر، فقد ازداد تقلب الدخل، وكذلك فعلت “المسافة التي ينزلقها الناس هابطين السلم عندما يفقدون توازنهم المالي”. وفي الوقت نفسه، جعلت العولمة والتغير التكنولوجي المواطنين في جميع أنحاء الغرب أقل يقيناً بشأن مستقبلهم ومستقبل أولادهم. كما انخفضت المرونة وإمكانية الانتقال الاجتماعي، لا سيما في الولايات المتحدة، مما يهدد بتحويل “الذي يملك” و”الذي لا يملك” إلى فئات وراثية. وعلاوة على ذلك، لا يقتصر الأمر على أن الأشخاص الذين لا يملكون اليوم بعيدون اقتصاديًا عن الذين يملكون وأكثر احتمالاً لأن يبقوا كذلك من السابق، لكنهم أيضاً أكثر احتمالاً لأن يعيشوا حيوات أقصر، وأن يعانوا من مشاكل في الصحة الجسدية والعقلية، وأن يقعوا فريسة للإدمان على الكحول والمخدرات، وأن يعيشوا في مجتمعات محطمة. وقد خلقت هذه التطورات انقسامات عميقة وإحباطاً متزايداً في المجتمعات الغربية، ووفرت أرضاً خصبة لاتجاهات العداء للمهاجرين، والاستقطاب والشعبوية.
أصبحت العواقب السلبية للرأسمالية المعاصرة واسعة النطاق ومثيرة للقلق. لكنها ليست جديدة، مع ذلك. كان الرخاء النسبي والاستقرار الديمقراطي اللذان وسما العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، هما اللذان جعلا الأميركيين والأوروبيين ينسون كم يمكن أن تكون الرأسمالية تخريبية.
في واقع الأمر، كان هناك اعتقاد شائع، خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بأنه لا يمكن التوفيق بين الرأسمالية والديمقراطية. وخشي العديد من الليبراليين والمحافظين من أن يؤدي تمكين الديمقراطية، من خلال تمكين الجماهير، إلى ما سمّاه جون ستيوارت مِل، على سبيل المثال، “طغيان الأغلبية” -وأن يتبين أن الديمقراطية غير متوافقة، كما قال جيمس ماديسون، مع “الأمن الشخصي أو حقوق الامتلاك”. ومن أجل تأمين الحماية من تهديدات الحرية الاقتصادية، قد يكون من الضروري، كما اقترح لودفيغ فون ميسيس، وفريدريك هايك، وميلتون فريدمان، وآخرون، تعليق الديمقراطية لصالح نوع من الليبرالية الاستبدادية. وفي الوقت نفسه، افترض الكثير من الاشتراكيين أن الرأسماليين سينبذون الديمقراطية بسرعة -“سيلجؤون إلى الحراب”، كما كتب فريدريك ستيركي؛ الزعيم الاشتراكي والنقابي السويدي في أواخر القرن التاسع عشر- بدلاً من السماح لحكومة منتخبة ديمقراطياً بتهديد قوتهم الاقتصادية وامتيازاتهم.
ومع ذلك، خلال ثلاثينيات القرن العشرين، وخاصة بعد العام 1945، حدث ما وصف بأنه تحول كبير في جميع أنحاء الغرب، والذي مكَّن من التوفيق بين الديمقراطية والرأسمالية. وكان أحد الأسباب الحاسمة وراء ذلك هو انتصار فهم اجتماعي ديمقراطي للعلاقة بين الاثنتين.
الديمقراطية الاجتماعية هي أحد أشكال الاشتراكية والذي يتميز بقناعة بأن الديمقراطية تجعل من الممكن -والمرغوب فيه- الاستفادة من إيجابيات الرأسمالية بينما تتم معالجة جوانبها السلبية عن طريق تنظيم الأسواق وتطبيق السياسات الاجتماعية التي تعزل المواطنين عن أكثر عواقب تلك الأسواق تدميراً وزعزعة للاستقرار.
بما أن العالم يعيش حالياً في خضم ردة فعل ارتدادية أخرى ضد الرأسمالية وانتعاش للاشتراكية، من الجدير مراجعة ما ترتب على ذلك التحول السابق، وكيف اختلفت المبادئ الديمقراطية-الاجتماعية التي بني عليها عن تلك التي فضلها الاشتراكيون الآخرون، وما الذي يخبرنا به هذا كله عن المشاكل التي نواجهها اليوم.
* *
أدى انتشار الرأسمالية خلال القرن التاسع عشر إلى نمو اقتصادي وابتكار لم يسبق لهما مثيل، لكنه جلب أيضاً لامساواة هائلة، وتشوشاً اجتماعياً، واضطراباً ثقافياً. ومن غير المفاجئ أن تكون ردة فعل ارتدادية قد تطورت بسرعة ضد هذه الظروف. وخلال العقود الأخيرة من ذلك القرن، برز كارل ماركس كأقوى منتقد للرأسمالية، والذي رسخ أفكاره لتكون الأيديولوجية المهيمنة لحركة اشتراكية دولية متنامية. وجاءت قوة الماركسية من قدرتها على الجمع بين نقد لاذع لطبيعة الرأسمالية وعواقبها، والاقتناع بأن تلك الطبيعة تقودها بلا هوادة إلى انهيارها. كان الأمر، كما قال ماركس، “مسألة … قوانين (و) … نزعات تعمل بضرورة حديدية في اتجاه تحقيق نتائج حتمية”.
مع ذلك، حتى بعد الكساد الطويل الذي شهدته نهاية القرن التاسع عشر، لم تظهر الرأسمالية أي علامات على الانهيار المحتوم الذي توقعه ماركس. ودفع ذلك إلى إثارة هذا السؤال: ما الذي يجب عمله؟ إذا كانت الرأسمالية لن تختفي من تلقاء نفسها، فكيف يجب أن يجلب الاشتراكيون عالماً أفضل إلى الوجود؟
جادل البعض بأنه إذا لم تختف الرأسمالية من تلقاء نفسها، فيجب على الاشتراكيين القضاء عليها بالقوة. وكان الزعيم الروسي الثوري، والرئيس السوفياتي لاحقاً، فلاديمير لينين أهم المدافعين عن هذا الرأي، وأصبح ورثته معروفين بالشيوعيين. وفي زمن لينين، رفض معظم الاشتراكيين إجابته وظلوا ملتزمين بمسار سلمي وديمقراطي نحو الاشتراكية.
كما انقسم المعسكر الديمقراطي أيضاً. اعتقد الاشتراكيون الديمقراطيون أنه على الرغم من احتمال أن يكون ماركس مخطئاً بشأن اقتراب انهيار الرأسمالية، فإنه كان محقاً في أن طبيعتها اللامساواتية المتأصلة وعواقبها المدمرة على العمال والفقراء تعني أنها لا يمكن -ولا ينبغي- أن تستمر إلى ما لا نهاية. وكانت لإصلاحات الرأسمالية، حسب هذا الرأي، قيمة محدودة لأنها لا تستطيع تغيير النظام بشكل أساسي. وقد عارضت الناشطة البولندية الألمانية روزا لوكسمبورغ كلاً من الديمقراطية الاجتماعية والشيوعية اللينينية معاً، على سبيل المثال، لكنها اعتقدت أن محاولات “الحد من الاستغلال الرأسمالي” كانت محكومة بقدر الفشل، في حين أصر جول غيسده؛ الاشتراكي الفرنسي البارز، على أنه “بمضاعفة الإصلاحات، تتم مضاعفة مظاهر الزيف” -طالما بقيت الرأسمالية موجودة، فسوف يتم استغلال العمال دائماً.
ورفض فصيل ديمقراطي آخر، أسلاف الديمقراطية الاجتماعية، الرأي القائل إن الرأسمالية محكومة بحتمية الانهيار في المستقبل المنظور، وجادلوا بأن هدف الاشتراكية، بدلاً من محاولة تجاوز الرأسمالية، يجب أن يكون تسخير قدرتها الإنتاجية الهائلة مع ضمان أن تعمل نحو تحقيق الغايات التقدمية بدلا من الغايات المدمرة. وكان هؤلاء إصلاحيين، لكنهم لم يروا الإصلاح غاية في حد ذاته؛ كانت لديهم أهداف أوسع.
قدم إدوارد بيرنشتاين، وهو منظّر سياسي ألماني وسياسي كان من أكثر المدافعين المبكرين في هذه المجموعة تأثيراً، أطروحته المشهورة بأن “ما يسمى عادةً بالهدف الأخير للاشتراكية لا يعني أي شيء بالنسبة لي. الحركة هي كل شيء”. وكان يعني بهذا أن الحديث عن مستقبل مجرّد ينطوي على قيمة ضئيلة؛ بدلاً من ذلك، يجب أن يكون الهدف هو تنفيذ إصلاحات ملموسة، والتي يمكن أن تخلق مجتمعة عالماً أفضل.
كانت قصة الاشتراكية خلال القرن الماضي هي قصة معركة بين هذه البدائل: الشيوعية؛ والاشتراكية الديمقراطية؛ والديمقراطية الاجتماعية.
واتخذت هذه المعركة مساراً تصاعدياً في الغرب خلال سنوات الحرب. في أوروبا، واجه الاشتراكيون مشهداً سياسياً حولته الحرب العالمية الأولى والمشاكل الاقتصادية المتنامية، والذي بلغ ذروته في “الكساد العظيم”. وكان أحد تداعيات هذه الفترة الفوضوية التطرف السياسي المتنامي، الذي استند إلى معاناة العديد من المواطنين وإحباطهم من عجز الحكومات الديمقراطية عن تلبية احتياجاتهم -أو عدم رغبتها في ذلك.
إدراكاً للمخاطر -بالنسبة للديمقراطية واليسار- من تجاهل هذه المعاناة والإحباط، جادل الديمقراطيون الاجتماعيون بأن هدف اليسار الأكثر أهمية يجب أن يكون استخدام الدولة للإصلاح، بل وربما تحويل الرأسمالية. ولم يعتقد الاشتراكيون الديمقراطيون أن هذا ممكن أو ينبغي عمله، لأنهم نظروا إلى الرأسمالية على أنها غير قابلة للإصلاح بشكل جذري، وبأنها محكومة بقدر الانهيار.
في الوقت نفسه، رحب الشيوعيون بجذل بـ”الكساد العظيم”، لأنه أضعف النظام الرأسمالي الديمقراطي الذي كانوا مصممين على الإطاحة به. وفي واقع الأمر، في بعض الحالات التي تجلت بالطريقة الأكثر مأسوية في ألمانيا، تحالف الشيوعيون مع الفاشيين في محاولة للإسراع في زواله. (بالإضافة إلى العمل مع النازيين لتعطيل البرلمان الألماني، انضم إليهم الشيوعيون أيضاً في اقتراع لحجب الثقة في أيلول/ سبتمبر 1932، وأطاحوا بالحكومة القائمة وجلبوا انتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر)، والتي أدت في نهاية المطاف بأدولف هتلر إلى سدة السلطة ووضعت أوروبا على الطريق نحو الفاشية والحرب).
في الولايات المتحدة، توصل فرانكلين دي. روزفلت إلى العديد من نفس الاستنتاجات التي توصل إليها الديمقراطيون الاجتماعيون الأوروبيون. وإلى جانب ألمانيا، كانت الولايات المتحدة الأكثر تضرراً من “الكساد العظيم”. وعلى الرغم من أن الديمقراطية كانت متجذرة هناك أكثر من أوروبا، فقد زاد عدد المواطنين الأميركيين الساخطين خلال أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، وزاد الدعم للحركات الشعبوية والعنصرية، وشرع عدد مفاجئ من المواطنين والسياسيين، بمن فيهم هنري فورد، وتشارلز ليندبيرغ، والقس تشارلز كوفلين، في الإشادة علانية بهتلر.
أدرك روزفلت أنه إذا لم تتم معالجة الكساد بقوة، فستزداد التهديدات الموجهة إلى الديمقراطية. وبناء على ذلك، وعد “بصفقة جديدة للشعب الأميركي”، والتي يكون من شأنها معالجة المعاناة الاقتصادية التي تدمر البلاد وتهدد النظام الاجتماعي. ومن خلال الإظهار للمواطنين أن الحكومة يمكن أن تحميهم من المعاناة والمخاطر وانعدام الأمن الناتجة عن الرأسمالية، تم تصميم “الصفقة الجديدة” لاستعادة الثقة بها وبالديمقراطية. (لاحظ أحد أنصار الصفقة الجديدة: “نحن الاشتراكيين نحاول إنقاذ الرأسمالية، ولن يسمح لنا الرأسماليون الملعونون بأن نفعل”).
باختصار، بحلول منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، كانت للديمقراطية الاجتماعية ملامح سياسية واضحة وبرنامج يقوم على الاعتقاد بأن الحكومات الديمقراطية تستطيع -ويجب أن- تواجه العواقب السلبية للرأسمالية. وخلال أعوام ما بين الحربين، لم يتمكن الاشتراكيون الديمقراطيون من تنفيذ أجندتهم، باستثناء الدول الاسكندنافية، والولايات المتحدة بدرجة أقل. ومع انهيار الديمقراطية في جميع أنحاء أوروبا خلال ثلاثينيات القرن الماضي ثم الحرب العالمية الثانية، جاءت فرصة للتحول نحو فهم ديمقراطي اجتماعي للعلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية. (يُتبع)
*عالمة سياسية تركز على تاريخ الديمقراطية الاجتماعية، وأستاذة العلوم السياسية في كلية بارنارد بجامعة كولومبيا. ومؤلفة كتاب “أولوية السياسة: الديمقراطية الاجتماعية وصنع القرن العشرين لأوروبا”، والكتاب المقبل” الديمقراطية والدكتاتورية في أوروبا: من عصر الأرستقراطية حتى يومنا الحاضر”.
المصدر: فورين أفيرز/ الغد الأردنية