لم يكن المحامي والناشط الحقوقي المعتقل “خليل معتوق” مثقفًا عضويًا بالمعنى الغرامشي للكلمة فحسب، بل فاض بالمفهوم وتوّزع به إلى آماد بعيدة وقصيّة، وذلك من خلال عمله ونشاطه وتكريسه الكثير من وقته للدفاع عن المعتقلين خارج أسوار الإيديولوجيا والطبقة والانتماء الحزبي الضيّق. واليوم بسبب من دكتاتوريّة عفنة نتبادل الأدوار حيث يرقد “الخليل” في أحد سجون ما يسمّى “الوطن”، الأمر الذي يحتّم علينا نحن الذين وقف لأجلنا في المحاكم مدافعًا عنّا ومحبيه وأصدقاءه وزملاءه، أن نُبقي قضيته راهنة وحيّة، أن نطالب بكشف مصيره دون تعب أو كلل أو ملل.
مرات قليلة وقصيرة التقيت بها بالمحامي والناشط المعتقل والمغيّب خليل معتوق، وذلك خلال لقاءات عابرة أو جلسات مقاهي كان المحامي يتواجد بها كاستراحة محارب قصيرة بين موعدين، يتوزعان على محاكم الاستثناء الكثيرة أو القصر العدلي في دمشق، ودائمًا لهدف واحد ووحيد، ألا وهو الدفاع عن المعتقلين السوريين. ولهذا الحال، فإنّ هذه اللقاءات القصيرة لم تسمح لي، مع الأسف، الادّعاء بالقول إنّه كان صديقًا أو حتى إنّني على معرفة نسبيّة به، وهي صفة تُشعر كلّ من لم يحوزها بالنقصان، خاصة لمن كان هذا الأمر كهذا متاحًا له ولم يفعل.
لكن، رغم هذا النقصان الذي يجلّلني حول هذا الرجل والمناضل الحقوقي البارز، فإنّ أمرين اثنين يجعلاني أشعر بنفسي قريبًا منه بهذا القدر أو ذاك، كما هي حال كل مواطن سوري في علاقته مع هذا المحامي والناشط الذي مارس مهنته وعمله مهتديًا بما هو أبعد بكثير من روح المثقف العضوي، بالمعنى الغرامشي للعبارة، لأنّ “خليلًا” فاض بالمفهوم وتوّزع به إلى آماد بعيدة وقصيّة، وذلك من خلال عمله ونشاطه وتكريسه الكثير من وقته برفقة فرسان آخرين للدفاع عن المعتقلين خارج أسوار الإيديولوجيا والطبقة والانتماء الحزبي الضيّق، ليدخل رحابة المثقف العمومي (بتعبير عزمي بشارة) المنتمي للناس ووجع الناس والساعي لتوسيع مساحة الحريّة في بلد كثرت سجونه ومحاكمه ومعتقلو الرأي فيه.
الأمر الأول، هو شخصي وعام في آن، إذ بعد خروجي من المعتقل في نيسان ٢٠١١ تلقيت اتصالًا من الأستاذ خليل معتوق، اطمأن فيه على صحتي ووضعي، ثم أخبرني في نهايته إنّه لا يوجد حولي أي دعوى متعلقة بشأن الاعتقال السياسي، ولكن هناك دعوى متعلقة بالعمل الصحافي مرفوعة من أحد الأشخاص ضدّي، ناصحًا إيّاي بمتابعتها وعدم إهمالها وهو ما لم يحصل لاحقًا بسبب تطورات الثورة وتشعبات طرقها.
ربما، لا أحد غير المعتقلين وأهاليهم يدرك اليوم معنى وأهميّة هذا الاتصال بالنسبة لروح شخص خرج للتو من المعتقل، وحدهم هؤلاء يعرفون ويشعرون بما يبثه هذا الاتصال من دفء وأمان في روح المعتقل، حين يعرف ويدرك أنه لم يكن وحيدًا في معركته ضدّ الدكتاتوريّة، أنّ هناك من يتابع أمره ويهتم به من تلقاء نفسه ودون أن يكلفه أحدٌ بذلك سوى ضميره الحيّ ووقته الثمين الذي وضعه في خدمة المعذبين والمعتقلين، أنّ هناك من يمده بالعزيمة في لحظات الضعف، أنّ هناك من يقف إلى جانبه ويجرؤ على الاتصال به علنًا في وقت يتحاشى فيه أقرب الناس الاتصال والتواصل خشيّة من بطش السلطة وغضبها.
يستحق بجدارة وحب أن يكون أحد رموزنا الوطنيّة في زمن كثرت فيه الخلافات والشقاقات، لا حول الرموز الوطنيّة فحسب، بل أيضًا حول المسائل الوطنيّة برمتها
هذا ما كان يقوم به خليل معتوق مع الجميع، لم يكن يحتاج لتكليف أو تذكير أو حتى توكيل من صاحب القضيّة ليقوم بما يعتبره واجبه، إلى درجة أنّه لم يسمع حتى شكري وامتناني له في نهاية المكالمة، إذ “لا شكر على واجب”، وهو الذي لا يستحق شكرنا ومحبتنا وامتناننا فحسب، بل يستحق بجدارة وحب أن يكون أحد رموزنا الوطنيّة في زمن كثرت فيه الخلافات والشقاقات، لا حول الرموز الوطنيّة فحسب، بل أيضًا حول المسائل الوطنيّة برمتها. ولذلك، فإنّ تذكّر خليل اليوم، هو من جهة أخرى محاولة لاستعادة ما فقدنا وما نحتاجه في شأن إعادة لملمة اجتماعنا الوطني السوري المنهك.
الأمر الثاني، يتعلّق بذلك الحضور والمكانة التي فرضها خليل معتوق على ما يمكن تسميته فضاءات المجتمعين السياسي والمدني والفاعلين السياسيين والمدنيين والثقافيين في سورية قبل عام ٢٠١١ وبعده، وهي مكانة مستحقة وممتلكة بقوة الجهد والتضحيّة والمثابرة والإيثار التي طالما عُرف به وليس بفعل الادعاء والترويج والمال السياسي أو غيره. مكانة تشعر بها من حديث الزملاء عنه، من احترام الناس له في مقهى الروضة أو الكمال أو الحجاز، من ردّة فعلهم وهزّة رأسهم المُستحسِنة والمُبجِلة حين يُذكر اسمه في مجلس أو حديث. ولهذا، ودون أن تنتبه يتسلل إليك هذا الرجل الذي نذر نفسه للإنسان، كائنًا ما كان انتماءه الديني أو العرقي أو السياسي، ليصبح جزءًا من ذاكرتك الوطنيّة والرمزيّة حتى دون أن يكون صديقًا مباشرًا لك.
لكن ها نحن اليوم، وبسبب دكتاتوريّة عفنة وقاتلة، نتبادل الأدوار، فنحن خارج السجن في منافٍ موّزعة ومتعددة، فيما هو يرقد خلف القضبان في زنزانة مظلمة في إحدى سجون ما يسمّى “الوطن”، وكأنّ الاستبداد الذي تحمّل على مضض خلال السنوات السابقة، نشاطه ونضاله ودفاعه الطويل عن المعتقلين، ضاق ذرعًا به وأراد تصفيّة حساباته مع الرجل دفعة واحدة، وهو الأمر الذي يحتّم علينا اليوم، نحن الذين وقف لأجلنا في المحاكم مدافعًا عنّا ومحبيه وأصدقاءه وزملاءه، وهم كثر إلى درجة يصعب معها عدّهم، أن نُبقي قضيته راهنة وحيّة، أن نطالب بكشف مصيره دون تعب أو كلل أو ملل، أن نُذكّر العالم دومًا وندق جدران خزانه الأصم، كي يعلم بأنّ محاميًا وناشطًا وإنسانًا لا يزال مصيره مجهولًا إلى جانب الآلاف ممن كان خليل ليدافع عنهم اليوم ويعلي الصوت لأجلهم لو كان حرّاً، وذلك جزء قليل مما يستحقه هذا الرجل الذي لم ينتظر كلمة شكر من أحد، رجل بقامة وطن لم نعرف كيف نصونه ونحميه، وفشلنا في أن نمنع حاكميه من اعتقال “الخليل” الذي ما تزال ساحات المحاكم تشتاق له وتحفظ له مكانه ليدافع عن المظلومين والمقهورين والمعتقلين الذين أصبح واحدًا منهم.
*- تنشر هذه المادة ضمن حملة “لنحقق العدالة” بالتعاون والشراكة مع معهد صحافة الحرب والسلام.
المصدر: موقع حكاية ما انحكت