الإدارة الدبلوماسية الأميركية لن تكون مطلقة الصلاحية في ترتيب ملفات الشرق الأوسط. على العكس من الترحيب والارتياح اللذين أظهرتهما بعض الأوساط الإيرانية، يبدو أن أجواء التردد والتشكيك لم تستغرق كثيراً من الوقت لتتحول إلى حال من الترقب الممزوج بنوع من القلق بصعوبة الانتقال إلى انفراج سهل، في ما يتعلق بأزمة العلاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، التي لم تتردد في المسارعة إلى الإعلان عن شروطها في التعامل مع الأزمة الإيرانية، غير المختلفة كثيراً عن شروط الرئيس السابق دونالد ترمب، وإن بأسلوب ولغة أقل استفزازية.
أجواء الارتياح هذه عكستها أوساط رئيس الجمهورية حسن روحاني مع اللحظات الأولى لحسم نتائج الانتخابات الأميركية وتولي جو بايدن إدارة البيت الأبيض، بالتزامن مع رفع مستوى الرهانات بحدوث تطورات إيجابية تساعد في الخروج من عنق العقوبات التي تحولت إلى ما يشبه الحرب الاقتصادية، وفق توصيف روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، دفعت الأول إلى إعلان “فرحه وارتياحه” لخسارة ترمب.
موقف إدارة بايدن من الملف الإيراني، وعودة طهران للتمسك بموقفها الرافض للضغوط الأميركية وشروطها لإعادة إحياء الاتفاق النووي، تزامنا مع ارتفاع منسوب القلق الروسي من السياسات المتوقعة للإدارة الأميركية الجديدة، وحجم التحديات التي قد تفرضها على قيادة الكرملين خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً في ظل ما شهدته موسكو وبعض المدن الروسية من تحركات للمعارضة بعد اعتقال المعارض أليكسي نافالني، وهي مخاوف لم ينجح الاتصال الهاتفي الذي أجراه بايدن مع نظيره الروسي فلاديمير بوتن في التقليل من حجمها، بخاصة أن الموقف الروسي ذهب إلى توجيه أصابع الاتهام إلى واشنطن بالوقوف وراء تحركات المعارضة، إضافة إلى مخاوف موسكو من مرحلة جديدة من التعامل الأميركي مع الملفات الدولية، بخاصة في الشرق الأوسط التي تشكل مناطق اشتباك بينهما.
هذه المخاوف المشتركة بين طهران وموسكو، والتي يمكن توصيفها بأنها متجذرة كتجذر العلاقات التاريخية بين البلدين، والتي يعود عمرها إلى “أكثر من عمر أميركا”، بحسب تعبير الوزير الإيراني خلال مؤتمره الصحافي المشترك مع نظيره الروسي سيرغي لافروف قبل أيام في موسكو، دفعتهما إلى التعبير عن حجمها، باعتبار أن “الأوضاع الدولية بعد خروج ترمب أصبحت أوضاعاً خاصة، ونحن بحاجة إلى تنسيق مواقفنا وتموضعنا”.
ملفات متعددة
إعادة تنشيط التنسيق بين طهران وموسكو في هذه المرحلة قد لا تقتصر على المواقف في ما يتعلق بآليات إعادة تفعيل الاتفاق النووي، ووقوف روسيا إلى جانب إيران في لعبة الشروط الأميركية – الإيرانية المتبادلة، بل تفترض من الطرفين إعادة ترتيب أوراقهما في منطقة غرب آسيا في ظل المستجدات التي طرأت على الموقف الأميركي من هذه الملفات، وما يخلقه ذلك من تحديات.
فإذا كانت طهران اقتربت نسبياً من غايتها مع الرئيس السابق ترمب في ما يتعلق بوجود القوات الأميركية في العراق وأفغانستان، فقد أعادت قيادة البنتاغون الأمور إلى دائرتها الأولى مع قرار إعادة النظر في قرار تقليص عدد هذه القوات في هذين البلدين بما يتناسب مع الاستراتيجية الأميركية، مما يعني أن الإدارة الجديدة لن تتساهل في إعطاء إيران نقاطاً مجانية، وفي الوقت نفسه ستمارس ثقلها ودورها لمنع المنطقة من الذهاب إلى أي نوع من المواجهات العسكرية، وهذا ما برز من خلال التحرك الذي تقوده “البنتاغون” لتطمين القيادة الإسرائيلية التي رفعت مستوى التهديدات ضد حلفاء إيران في كل من لبنان وسوريا والعراق وقطاع غزة على لسان رئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، الذي اعتبر أن “العودة إلى الاتفاق النووي أو حتى التوصل إلى اتفاق مشابه ومعدّل، سيكون سيئاً على المستويين العملي والاستراتيجي، لذا يجب عدم السماح بذلك”.
دخول “البنتاغون” كشريك على خط الجهود السياسية الموضوعة على جدول إدارة البيت الأبيض، يعني أن الإدارة الدبلوماسية الأميركية لن تكون مطلقة الصلاحية في ترتيب ملفات الشرق الأوسط وغيرها، بعيداً من موقف ورأي القيادة العسكرية المعنية أيضاً وبشكل مباشر بهذه الملفات، وهذه الشراكة ستكون بمثابة ترجمة للتعاون الذي حصل بين الرئيس الجديد والقيادة العسكرية في الأزمة الداخلية حول نتائج الانتخابات، وأيضاً تعويضاً عن سياسة الإقصاء التي مارسها ترمب ووزير خارجيته مايك بومبيو تجاه البنتاغون في ما يتعلق بالقرارات الاستراتيجية التي اعتمدت على الساحة الدولية.
استقطاب تركيا
وفي مقابل المحور الذي رسمته تل أبيب على لسان كوخافي، الممتد من اليونان وقبرص ومصر والأردن والدول الخليجية، “حيث تقف إسرائيل داخل هذا التحالف”، تأتي أهمية تنشيط التنسيق الروسي – الإيراني الذي لا يستبعد محاولة استقطاب جدية للحكومة التركية، من خلال سد الفجوات التي برزت خلال الأشهر الأخيرة، إن كان في أزمة منطقة القوقاز الجنوبي (الحرب الأرمينية – الآذربيجانية) أو الأزمة الليبية، أو تطورات الأزمة السورية، وصولاً إلى المخاوف الأفغانية وتعطيل عملية الحوار القائمة بين حركة طالبان وحكومة كابول برعاية أميركية.
زيارة ظريف إلى موسكو هي الثانية له خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بعد 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، إلا أنها هذه المرة تترافق مع جملة من المعطيات المفصلية التي تستدعي مستويات عالية من التنسيق بين الطرفين، خصوصاً في ملفي الأزمتين الأفغانية والسورية، فضلاً عن تنشيط التعاون والحوار مع الجانب التركي في ما يتعلق بمنطقة القوقاز والجوانب المتعلقة بالشرق الأوسط.
وقد تزامن وصول ظريف إلى موسكو مع وصول وفد من حركة طالبان بقيادة رئيس المكتب السياسي للحركة الملا عبدالغني برادر وبعلم وتنسيق إيراني مع حكومة كابول، والذي من المفترض أن يتباحث مع المسؤولين الإيرانيين حول المستجدات الأميركية وإمكان لجوء إدارة بايدن، ونتيجة لمواقف البنتاغون الأخيرة، إلى إعادة النظر في الاتفاق بين طالبان وواشنطن، وبالتالي سعي هذه الحركة للتنسيق مع دول الجوار بهدف الدفع بعملية السلام الأفغاني الداخلي للوصول إلى نتائج إيجابية، وهي نقطة اتفاق روسي – إيراني سبق أن عبر عنها الطرفان بعد تزايد مخاوفهما عند استبعاد “واشنطن – ترمب” لهما من أجواء والشراكة في عملية التفاوض.
إعادة الإدارة الأميركية ترتيب الخوف لدى خصومها قد يدفع طهران إلى فتح ملف المفاوضات التي تقودها موسكو في قاعدة حميميم بين الحكومتين السورية والإسرائيلية للتفاهم على سلام بين البلدين، والتي لم تكن بعيدة من أعين القيادة الإيرانية، ما يعني إمكان ذهابهما إلى خيار إبطاء هذا المسار أو حتى تجميده، بانتظار اتضاح صورة الموقف الأميركي وآليات تعامله معهما في الملفات التي تشكل مساحة اهتمام مشترك، وما ينسحب على هذين الملفين ينسحب أيضاً على الملفات الأخرى، بما فيها التعاون مع تركيا وإمكان العودة إلى تفعيل مسار “أستانة” حول الأزمة السورية لإنهاء القضايا العالقة أو المتبقية والتي تعزز مواقف هذه الأطراف، في حال التفاهم على تفعيل مسار الحل السياسي وإعادة الإعمار.
المصدر: اندبندنت عربية