انقضت سريعاً الهبّة التي شهدتها السويداء انتصاراً لشيخ العقل حكمت الهجري. على غير عادتها، استوعبت سلطة الأسد الحدث بسرعة، وانتشرت الأخبار عن تقديم اعتذار للشيخ الهجري، وإطلاق سراح الشاب الذي كان اعتقاله الشرارة الأولى للمشكلة. الشيخ الهجري اتصل برئيس فرع المخابرات العسكرية وائل العلي من أجل إطلاق سراح الشاب، فتلقى منه الإهانة، ولم يبتلعها ويكتم خبرها، بل يبدو أنه تعمد نشر الخبر مدركاً حساسيته بموجب موقعه الديني.
والشيخ الهجري معروف بعلاقته الطيبة بسلطة الأسد، ويُنظر إليه بصفته الأقرب إليها من بين مشايخ العقل الأربعة الكبار. لذا، قد يوضع ما حصل برمته في سلة الخلاف الداخلي الذي يحدث ما يشابهه هنا وهناك بين موالين للأسد، لكن يبقى مستغرباً صدور الإهانة عن رئيس فرع المخابرات العسكرية الحالي، الأمر الذي لم يفعله سلفه في المنصب وفيق ناصر، وهو الذي اشتُهر ببذاءته وبطشه وقيام عناصره بعمليات واسعة من الترهيب والاغتيال والاختطاف.
من جهة المحتجين المتضامنين مع الشيخ، أتى تمزيقهم صور بشار الأسد كأنه صار من تقاليد الاحتجاج في السويداء، ولا يُستبعد صدور ذلك حتى عن أنصار للشيخ في موالاته السلطة، لا فقط عن متضامنين طارئين أو عن متضامنين طامعين في تفاقم الخلاف. توجيه الإهانة لبشار الأسد هو بمثابة تحميله المسؤولية الشخصية، وكأن هؤلاء يرون في رئيس فرع المخابرات مجرد موظف ناقل لها. أما إهانة حليف للسلطة فلا يستدعي الدهشة لمن يرى السياق كله، لأنها إمعان من الأخيرة في اختبار بأسها وسطوتها؛ هكذا كان الحال أيام عزّ الأسدية.
بعد شهور قليلة من اندلاع الثورة عام2011، شاع خبر شبيحة الفرقة الرابعة الذين داهموا بيتاً في ريف دمشق وراحوا ينكّلون بأصحابه، فأخبرهم صاحب البيت بأنه موالٍ مشيراً إلى صورة بشار المعلقة في الصالون، فما كان منهم إلا أن انتزعوا الصورة ودعسوا عليها وشتموه هو وبشار معاً. على الأرجح، لم يأت الدعس على الصورة انطلاقاً من التنافس المزعوم بين قائدهم ماهر وأخيه، فالسبب المباشر هو رغبتهم في سرقة محتويات البيت بغض النظر عن انتماء صاحبه التعيس، وممارسة هذه السطوة مستمدة مباشرة من ماهر الأسد لا من تلك الصورة المدعوسة.
أيامَ حافظ الأسد، خاصة قبل شروعه في مشروع التوريث، كانت بارزة تلك الإقطاعيات السلطوية التي يدين أفرادها بالولاء لزعيمهم المباشر أكثر من ولائهم له. المثال الأبرز كان ولاء عناصر سرايا الدفاع لـ”القائد رفعت”، وإذا كان بعض منهم يرى في ولائه لحافظ امتداداً منطقياً لولائه لرفعت فالبعض الآخر كان يحصر ولاءه برفعت الذي يراه الأجدر بالزعامة. إلى جانب رفعت، كان عناصر الوحدات الخاصة يرون علي حيدر زعيمهم ومثالهم الحاضر القوي، بينما لا يعدو حافظ الأسد كونه فكرة السلطة الغائمة، وحتى ضمن الوحدات الخاصة أمكن لضابط مثل هاشم معلا البروز كقائد فوج يحظى بطاعة عناصره إلى درجة الزج بهم في حقل ألغام، وهي حادثة واقعية شهيرة. أيضاً، كانت لشفيق فياض إقطاعيته المسماة الفرقة الثالثة، مع وجود مرشحين آخرين وإقطاعيات انقطعت عن النمو بسبب التوريث.
كما هو الحال عسكرياً، نسج الأسد علاقات مع البنى الأهلية الموروثة، الطائفية منها والعشائرية. في الجانب الطائفي، تحضر الطوائف المسيحية والطائفة الدرزية، لأنها الطوائف الممأسسة دينياً، ولها قوانين أحوالها الشخصية المعترف بها، بخلاف مذاهب ليس لها وضعية حقوقية خاصة كالإسماعيليين والعلويين والشيعة الإثني عشرية. أما الأكثرية السنية فهي أوسع من التمأسس الطائفي، وراهن الأسد فيها على بناء مصالح اقتصادية مع بقايا الرأسمال المديني وعلى العشائر في البادية والأرياف وصولاً إلى المدن، أي على البنيتين اللتين كانت أدبيات حزب البعث تتوعد بالانقضاض عليهما.
لدى الدروز، مثلما هو الأمر في الإقطاعيات الأخرى، قلة من الأفراد يحكمها الولاء المباشر لسلطة الأسد. ثمة ولاء وسيط، هو الأقوى والأبقى، هنا تتعين السلطة المباشرة ومكاسبها الصغيرة أو المتوسطة. منذ البدء، نسجت سلطة الأسد العلاقة مع المشايخ الكبار، ومن المعلوم أن رؤساء الطوائف وبعض رؤساء العشائر كانت لهم “حظوة” الاتصال المباشر بموظفين في القصر مخصصين لإدارة شؤونهم، بينما في الخلفية التي لا تغيب هناك عصا الترهيب لسلطة كانت ذات يوم كلية القدرة.
في الثمانينات اعتمدت سلطة الأب بشكل رئيسي على الإقطاعيات العسكرية لمواجهة الإخوان، لكنها أيضاً زادت من تقربها إلى الزعامات الأهلية “الطائفية والعشائرية”، وارتفع منسوب تدخلها لتطويع تلك الزعامات، أو التخلص من بعضها للإتيان بزعامات أكثر ولاء. في مواجهة الثورة، حشدت سلطة الابن مخزونها من التحالفات السابقة، وأنشأت مبكراً إقطاعيات عسكرية وشبه عسكرية جديدة، لتكون حربها مسنودة بمصالح واضحة ومباشرة، ضمن فهم واقعي لخوائها من القيم، وانقضاء عهد استخدام الشعارات للتكاذب، لقد أزفت لحظة الحقيقة.
ربما كان الولاء لبشار هو آخر حافز، إذا وجد، لدى كتلة كبيرة ممن دافعوا عنه. لعل أهميته الراهنة هي في بقائه كعنوان شكلي للإقطاعيات المنتشرة هنا وهناك، والتي أصبح بعضها مرتبطاً مباشرة بطهران أو موسكو. في مثال السويداء، وفي درعا المجاورة أيضاً، رأينا في العديد من المناسبات كيف يستقوي ممثلو بشار بضباط روس في المفاوضات مع الوجاهات المحلية، الطائفية أو العشائرية، وهي دلالة على ضعفه كقوة ترهيب منفصلة، وعلى افتقاره إلى الولاء لدى الأهالي. إنه “على سبيل المثال” يخسر في مواجهة الشيخ حكمت الهجري الذي يُنظر إليه كأشد شيوخ العقل موالاة، وهذا سيناريو قابل للتكرار أينما وجدت قوة محلية منظمة حول زعامة تحظى “لأي سبب كان” بولاء قوي يتغلب على الولاء الشكلي للأسد.
لقد انتهى الزمن الذي كانت فيه الأسدية تحتكر العنف، وتحتكر العلاقة بقوى الخارج، وهذا مكمن ضعف إضافي ثمين لا تريد موسكو وطهران التفريط به. تبقى قدرة بشار على الانتقام وفق منطق العصابات، وهذه استُخدمت في السنوات الأخيرة بوفرة تكفي للبرهنة على انعدام جدواها كوسيلة لاستعادة ما تضيعه الحماقة.
المصدر: المدن