تحدّ الدولة المصرية، عبر عرقلة الأبحاث، من إمكانية الحصول على معلومات من شأنها المساعدة في حل الأزمات، وخصوصًا في المناطق الحدودية.
مع أن محيط المناطق العسكرية في القاهرة ومدن وادي النيل يعجّ بمثل هذه التحذيرات، باتت أغلب المناطق المتاخمة لحدود الدولة أيضًا مناطق عسكرية بموجب القرار الرئاسي رقم 444 للعام 2014. وأدّى هذا القرار إلى مزيد من التقييد على حركة الباحثين العاملين في مصر، وخصوصًا حول القضايا الحدودية، فأصبح إجراء الأبحاث السياسية أو الثقافية مهمة شبه مستحيلة.
وليست هذه القيود المفروضة سوى جزءٍ من توجّه أوسع تبديه الدولة المصرية للتحكم بتدفّق المعلومات. فمع أن مصر تمتلك كنزًا من البيانات والأرشيفات من شأنه مساعدة صنّاع القرار على تبنّي سياسات تصبّ في خير المجتمع، تسعى الدولة إلى منع المواطنين العاديين كما الباحثين من الحصول على هذه المعلومات.
يُضاف إلى ذلك أن الدولة اتّخذت إجراءات تعيق بشكلٍ كبير قدرة المعنيين على إجراء الأبحاث الميدانية. فبات هذا الأمر في غاية الصعوبة مثلًا في المناطق الحدودية المصرية التي تعتبرها السلطات مواضيع حساسة للغاية. وتشير هذه القيود بالدرجة الأولى إلى عجز الدولة عن فهم إيجابيات إعداد مثل هذه الأبحاث. وهذا مستغربٌ جدًّا نظرًا إلى أن مصر تضم مراكز أبحاث عريقة مثل مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري، ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية التابع لمركز الأهرام الإقليمي للصحافة، والمجلس القومي للسكان، وهو معهد يُعنى بإجراء أبحاث متعلقة بسكان مصر ويرفع التوصيات إلى الهيئات التنفيذية.
نتيجةً لإجراءات التأميم التي شهدتها مصر عقب ثورة العام 1952، أصبحت الأبحاث، كما الفنون والصحافة، واقعة ضمن صلاحيات الدولة حصرًا. ففيما يواجه الباحثون المرتبطون بالدولة عراقيل بيروقراطية تقيّد نطاق أبحاثهم، يواجه الباحثون المستقلون تحديات أكبر، أبرزها عدم الحصول على الاعتراف من الحكومة.
يؤدي عجز الباحثين المستقلين عن نيل الاعتراف اللازم، إضافةً إلى عدم فهم قيمة الأعمال البحثية، إلى إدامة الشكوك المُحيطة بالباحثين ومشاريعهم. وغالبًا ما تعامل السلطات الباحثين كالصحافيين، ما يدفع الشرطة أو القوى الأمنية إلى اعتقالهم وسجنهم فيما هم يجمعون المعلومات الضرورية. وهذا تحديدًا ما حصل مع الصحافية بسمة مصطفى، التي ألقي القبض عليها أثناء تغطيتها احتجاجات الأقصر في تشرين الأول/أكتوبر 2020، واحتُجزت لأيام عدّة.
كذلك، أُلقي القبض على صحافي آخر هو إسماعيل الإسكندراني، على خلفية أبحاث أجراها حول الوضع السياسي في منطقة حدودية مهمة هي سيناء. واحتُجز لمدة خمس سنوات وحوكِم أمام محكمة عسكرية اتُّهم خلالها بنشر أخبار كاذبة ومغلوطة. والجدير ذكره أن هذا الاتهام وُجّه إلى الكثير من المواطنين من دون وجود أدلة تثبته. وفي نهاية المطاف، حُكم على الإسكندراني بالسجن عشر سنوات.
وفي حالات أخرى، كانت الشبهات وحدها كفيلة بأن تودي بحياة باحثين، كحال الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، الذي كان يجري أبحاثًا حول محاولات الباعة المتجولين في القاهرة لتأسيس نقابة، عندما اختُطف في كانون الثاني/يناير 2016، وتوفي على ما يبدو إثر تعرّضه للتعذيب.
لا بدّ من الإشارة إلى أن القيود الأمنية التي تفرضها الدولة غير محدّدة بدقة وتشمل مجموعة كبيرة من المسائل. وتنطبق القيود نفسها على التوثيق الفوتوغرافي، المتاح للجميع تقريبًا بفضل الهواتف الذكية. لكنه بات خطيرًا اليوم، لأن الشرطة قد تحقّق مع المصوّر، ما قد يؤدّي أحيانًا إلى تداعيات أشدّ خطورة.
لذا، من الضروري أن يحصل الباحثون على الاعتراف والاعتبار اللازمين، كي تأخذ الأبحاث المكانة التي تستحقها كوسيلة لتطوير المعارف المتعلقة بمصر وتعزيزها. ويُعتبر هذا الأمر ملحًّا، إذ إن المناطق الحدودية المصرية على وجه الخصوص تعاني عوامل عدة مُزعزِعة للاستقرار، بدءًا من النزاع المسلح ضد الجماعات الإرهابية في سيناء ووصولًا إلى الخلافات مع السودان حول مثلث حلايب وشلاتين. إن الحكومة، إذ تستمر في عرقلة الأبحاث، تمنع بذلك الباحثين من التعمّق في فهم القضايا المجتمعية، وبالتالي تحول دون إنتاج المعارف الضرورية لتخفيف حدّة الأزمات والصراعات التي تشهدها المناطق الحدودية المصرية.
أخيرًا، يتعيّن على الدولة اتّخاذ الإجراءات الضرورية وحماية الباحثين العاملين في ظروف محفوفة بالمخاطر، وغالبًا ما يقعون بين مطرقة الجماعات الإرهابية التي تعتقد أنهم يعملون لحساب المخابرات المصرية من جهة، وسندان الدولة من جهة أخرى. وإذا ما قرّرت الدولة حماية الباحثين، فهذا يعني أنها تعترف بفوائد إجراء الأبحاث، وهو ما فعلته السلطات للمفارقة مرارًا في السابق مع بعض الأبحاث المستقلة، ودعوة الوزراء للباحثين والخبراء المستقلين للاستفادة من أبحاثهم. لهذا السبب، يُعتبر تحسين ظروف إجراء الأبحاث في مصر جزءًا لا يتجزأ من عملية التصدّي إلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية الكثيرة التي تواجهها البلاد.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط