لن يتأخر الوقت حتى تثبت الرؤية، ويتأكد أن إدارة الرئيس الاميركي الجديد جو بايدن ستباشر بسرعة في تقديم التنازلات او بتعبير أدق في تنفيذ تراجعات في السياسة الخارجية، لكي تضمن التفرغ للمشكلات الداخلية الناجمة عن جائحة كورونا وما خلفته حتى الآن من خسائر بشرية كارثية على الاميركيين، ومن خسائر مادية تقدر قيمتها بثلاثة تريليونات دولار على الاقتصاد الاميركي.
الملامح الاولى لتلك التراجعات يمكن تلمسها في مواقف مختلف الدول المرتبطة بأميركا في علاقات تحالف او تخاصم او حتى عداء، والتي تترقب ان يعمد بايدن وفريقه الى التخلي التدريجي عن سياسات سلفه الرئيس السابق دونالد ترامب، ويعيد تنظيم السياسة الدولية على أسس براغماتية جديدة تخفض الاعباء عن أميركا المثقلة بالأزمات الداخلية، وتفوض الحلفاء إدارة شؤونهم وقضاياهم بأنفسهم، وتترك للخصوم والاعداء مسؤولية التخفف من العقوبات وحالات الحصار.
الحالة الايرانية نموذجية، وكذا الحالة الاسرائيلية. وهما، وإن كانتا تقفان على طرفي نقيض، لكنهما تتوقعان من إدارة بايدن، الموقف نفسه: التراجع عن نقض الاتفاق النووي مع إيران، والتخلي عن سياسة العقوبات المشددة. وهما تعبران عن هذا التقدير على طريقتهما الخاصة. تريد تل ابيب ان تكون شريكاً مباشراً في التفاوض مع الجانب الايراني، حول العودة الى الاتفاق النووي، والشروط المطلوبة للقبول بهذه العودة. بينما تطلب طهران إعتذاراً أميركياً عما فعله ترامب بالاتفاق النووي وبإعتماد سياسة الضغط القصوى، وتسليماً مسبقاً بعدم البحث في أنظمة الصواريخ الايرانية المنصوبة في كل من لبنان واليمن والعراق وسوريا، والتي جرى إستخدام بعضها بكثافة منذ تنصيب بايدن رئيساً، الاربعاء الماضي.
لن تجد إدارة بايدن على الارجح صعوبة في التوصل الى صيغة مرنة تخفض سقف المطالب المطروحة حاليا من قبل الجانبين، وتطرح حلاً مبتكراً يطمئن الاسرائيليين ولا يغضب الايرانيين، يبدأ بتخفيف تدريجي للعقوبات القاسية على إيران، مقابل تجديد الالتزامات الايرانية بخفض تخصيب اليورانيوم، وخفض إطلاق الصواريخ من بغداد ومن صنعاء خاصة، وإبقائها صامتة في لبنان وسوريا.
السيناريو نفسه تماماً مطروح بالحرف على إدارة بايدن ومراجعتها المرتقبة للأزمة السورية: الورقة الصادرة قبل أيام عن مركز كارتر، الذي يغذي في العادة الادارات الديموقراطية الاميركية بالدراسات والاقتراحات والافكار، والتي تحمل عنوان “مسار نحو تحويل النزاع في سوريا..إطار لمقاربة متدرجة” تتضمن سبعة مقترحات لبناء الثقة مع نظام بشار الاسد، وهي عبارة عن خطوات تدريجية مشروطة تقضي بتخفيف العقوبات بما يسمح بمواجهة جائحة كورونا والشروع في إعادة بناء البنى التحتية، مقابل تنفيذ الاصلاحات الواردة في قرار مجلس الامن الدولي الرقم 2254، لا سيما الافراج عن المعتقلين والسماح بعودة المهجرين..
السطر الاول من تلك الورقة، يشهد وحده على ما يمكن إنتظاره من إدارة بايدن، عندما يقول بالنص: “خلال العام الماضي، شهدت سوريا عنفاً أقل من وقت مضى منذ بدء الحرب الاهلية قبل عشر سنوات..”، ويبدو ان محرري الورقة فاتهم أن يوجهوا الشكر الى كل من روسيا وإيران ومليشياتهما، على هذه المحصلة الصحيحة (والمحرجة لأميركا)، للعام السوري الفائت!
لدى بايدن وفريقه الجديد نبذ تام لفكرة العقوبات التي تحولت مع ترامب الى سلاح فتاك، غير إنساني وغير أخلاقي، يؤذي الشعوب ولا يضر بالحكومات، بدليل التجربة الايرانية والسورية واليمنية، وقد جرى إستخدامه لتعويض النقص في الافكار الاميركية الخلاقة لمقاربة مشكلات معقدة واجهتها الولايات المتحدة في أكثر من بقعة في العالم، لا سيما الشرق الاوسط.
وهو موقف متقدم فعلاً لفريق بايدن، لأنه يفترض الرغبة في الخروج من المآزق التي خلفها ترامب وراءه، لاسيما في إيران وسوريا.. لكن إسقاطه مثلا على الحالة اللبنانية، لا يفسح في المجال إلا لترقب مثل هذا المشهد الكاريكاتوري: يمكن أن تتبنى الادارة الاميركية الجديدة، (حرصاً على ان تظل السماء زرقاء) موقف الرئيس ميشال عون المتشدد، وتوصي الرئيس سعد الحريري بتوسيع حكومته المقترحة لتضم عشرين وزيراً بينهم سليم جريصاتي وطلال ارسلان..
مع بايدن، كما يبدو، لن يشعر أحد بالحنين الى ترامب، بل بالكثير من الملل.
المصدر: المدن