عشر سنواتٍ عجافٍ مرّت أو كادت تنصرم، ونزيف الدم السوري لم يتوقف يوما، ومعاناة أهلنا تزداد يوما بعد يوم، والنظام يزداد شراسةً وتنمّراً وفتكاً، والاستحقاق الانتخابي على الأبواب، والمعارضة الهزيلة تكشف عن زيفها، والفساد المستشري في مؤسساتها بات يزكم الأنوف، وعصابة محمد الجولاني تقوم بدور شرطي النظام، و”قسد” (قوات سورية الديمقراطية) تستفرد بالمنطقة الشرقية، وتنهب خيراتها وتستعبد أهلها، والأمور تزداد سوءاً، ولا حل يلوح في الأفق، فما العمل؟ لا بدّ أولاً من تشخيص هذا الواقع المرير، ومن ثم اقتراح الحلول المناسبة.
ليس لدى أي سوري ثائر حر شريف، خرج في هذه الثورة العظيمة، أي شك اليوم في فساد مؤسسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والمؤسسات المنبثقة عنه، والتي تمثل المعارضة السورية كافة، سواء السياسية منها، أو العسكرية شاملة منظمات الإغاثة، وأصبحت قناعته في ذلك، كما هي قناعته التامة في فساد النظام وزمرته العميلة المجرمة. ويذهب السوري الثائر أكثر من ذلك في ربط بعض شخوص هذه المعارضة بالنظام نفسه، ويصل الشك عنده إلى حدّ القناعة، شبه التامة، بوجود عناصر مهمة فاعلة من رموز هذه المعارضة، من صناعة النظام، وهي تتبع له، واستطاع زرعها في جسد المعارضة الهشّ، وسيطرت بعوامل كثيرة على قرار تلك المؤسسات، حتى باتت تلك المؤسسات رهينةً لها، وتتحكّم بها كيفما تشاء، وثمة أحداث جارية تؤكد هذه الشكوك، ولا سيما أن الاستحقاق الانتخابي لرئيس العصابة قاب قوسين أو أدنى، وهي مرحلةٌ مفصليةٌ في عمر النظام، يعمل جاهداً على استثمارها لصالحه، وإشراك هذه المعارضة الهزيلة بشكل رسمي فيها، وهي ما تحاول فعله من خلال أداء الهيئة الدستورية، والإعلان عن تشكيل هيئة انتخابية، واستعداد بعض الأشخاص للترشح لخوضها، يعني إعطاء الشرعية للنظام المجرم، وإعادة إنتاجه وتعويمه لمرحلة جديدة، قد تطول سبع سنوات عجاف أخرى.
الأخطر من ذلك والأدهى والأمرّ أنها ستخرجه من دائرة الإجرام والإبادة الجماعية، والديكتاتورية والاستبداد، إلى دائرة الديمقراطية والحرية، ومن ثم البطولة والوطنية والثورية وحامي الحمى، ومحارب الإرهاب. وقد تستثمر هذه السنوات المريرة من فترته الرئاسية المقبلة، لتهيئة ابنه خليفة له، ويقضي فيها على آخر جيوب المقاومة، وآخر نفس ثوري في الشعب السوري كله، ومن هنا تأتي خطورة الانتخابات، وجريمة من يترشّح ويشترك ويشارك فيها.
الشعب السوري اليوم أمام مهمة كبيرة، وهي ضرورة إزالة رموز فاسدة تربعت على قمة هذه المؤسسات رغماً عن الشعب الثائر، مدفوعة بأجندات غربية، ومن دون إرادته، وحولتها إلى باب للاسترزاق والكسب غير المشروع والثراء الفاحش على حساب دماء الشعب السوري ومعاناته. والدفع بالشخصيات الوطنية النظيفة من أصحاب الخبرة الكبيرة، والكفاءة العالية، والسمعة الحسنة، إلى تصدر المشهد بدلاً عنهم، ووضع الأمور في نصابها الصحيح. ومن ثم محاسبة الجميع، بمن فيهم الذين يدّعون النزاهة والحرص على الثورة، ويعملون على انتقاد هذه المؤسسات الفاسدة في مجالسهم الخاصة؛ من شخصياتٍ كانت وما زالت ضمن هذه الجوقة الفاسدة سنوات طويلة، وساهمت مساهمة كبيرة في التغطية عليهم، ومشاركتهم الجريمة على استحياء، وعملت معهم على إبعاد الشخصيات الوطنية، ذات التاريخ النضالي المشرّف، والخبرات المتراكمة في العمل السياسي، المشهود لهم بالنزاهة ونظافة اليد، وسلامة القلب، وصدق النيات، والإخلاص في العمل.
السؤال الملح: كيف يمكن أن يتم ذلك؟ لقد أصبح من العسير جداً فك العقدة السورية؛ لأنها باتت اكثر تعقيداً من أي وقت مضى، في ظل سيطرة حفنة من المنتفعين على “الائتلاف” وباقي مؤسسات المعارضة السورية وهيمنتهم. وكان من المأمول من الدول الراعية للشعب السوري التي تسلمت الملف، وأصبحت مسؤولة عنه، أن تنتبه إلى ما يفعل هؤلاء، وتضع رقابة عليهم، وطريقة لمحاسبتهم، ومنعهم من التصرّف بأموال الشعب، وقرار الثورة. لم تفعل ذلك، بل أعطتهم الشرعية، وأمدّتهم بأسباب القوة، ومنحتهم الغطاء، ووهبتهم الحصانة، وأطلقت يدهم، ومنعت معارضيهم من النيل منهم.
مهمة الشارع اليوم أن يدفع المعارضين لهم لفضحهم، وكشف فسادهم، وبيان أساليبهم في تدمير الثورة، وإنهاء الثوار. وعلى الرغم من صعوبة الأمر، وقد يكون أحد أهم الأسباب للقضاء على هؤلاء، وفي هذا الوقت، أن يتداعى عدد من الشخصيات الوطنية إلى عقد مؤتمر وطني في الداخل المحرّر، لانتخاب قيادات جديدة بديلة عنهم، وإعداد العدة لامتلاك قرار الثورة من جديد. ولا يُنسى هنا دور الفصائل العسكرية التي كانت لحمة الثورة وسداها، وانخرط فيها خيرة الثوار، وقدّموا أرواحهم فداء لوطنهم وشعبهم وثورتهم، تحوّلت في معظمها إلى عصابات قتل، وجريمة منظمة، وتخلت عن دورها الوطني، وشكلت الغطاء له، وتقاسم قادتها الغنائم معهم، وصارت أداة لقمع الشعب، بعد أن كانت سيفاً مدافعاً عنه، ومن خرج عليهم حاسبوه وعاقبوه وحرموه وجردوه وأودعوه السجن أحياناً.
وثمة فساد معظم كوادر منظمات الإغاثة يزكم الأنوف، وتحكّمها بالمساعدات، واستغلاها لإذلال الشعب وتجويعه وتمزيق لحمته الوطنية، وتحويله إلى متسوّل مرتزق عاطل من العمل، عاجز عن فعل شيء.
يقول أحدهم رداً على سؤالنا له: كيف يمكن الخلاص من هذا الواقع المرير وتغييره؟ قال بيأس: إذا كنت لا تستطيع إقالة مدير مخيم فاسد، أو رئيس جمعية إغاثية، فكيف تستطيع إزاحة عصابة أبو عمشة، أو جماعة الجولاني، أو إقالة فلان، أو إنهاء دور علان، وتسلط هذا على اللجنة الدستورية، وتنازلات ذاك أمام عصابة النظام.
يثمل الجولاني اليوم الخنجر المسموم في خاصرة الشعب الثائر، وضابط المخابرات الذي يستحلّ كل الحرمات، ويستبيح الأموال والأرواح، ويفتك بالشعب فتكا لم يستطعه النظام نفسه، ويعربد هو وعصاباته المجرمة، ويحوّل الشمال المحرّر، وتحديداً مناطق نفوذه، إلى غابةٍ ومزرعةٍ وإمارة، وينصّب نفسه أميراً على ركام وطن هده القصف، وشعب هده الجوع والظلم والحرمان. ولا سبيل للخلاص إلا بقوة أكبر، والقوة له وليست عليه، ومن يرتجى منهم الخلاص يؤمنون له الغطاء، ويطلقون يده يفعل ما يشاء من دون رقيب ولا حسيب.. إنه الوجه الآخر لبشار وعصابته، يفعل ما يعجز عنه صنوه وخليله وربيبه ومعلمه وسيده.
تستبيح “قسد” المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من سورية، وتنهب قادتها عصابات معروفة ثرواتها التي تقدر بملايين الدولارات يومياً، وتعربد في المنطقة متسلحةً بطيران التحالف وجيوشه وعساكره، وشعبه الرازح تحت الاحتلال “القسدي”، لا حول له ولا قوة، ويعمل المستحيل لإقناع التحالف الدولي باستحالة التعايش مع “قسد”، وردم الهوة الكبيرة التي تتسع يوماً بعد يوم .. وتثبت “قسد” كل يوم فشل مشروعها في المنطقة، وهي في الأصل لا تحمل مشروعاً، ولا تتعدى كونها عصابات، وأداة من أدوات النظام.
ما هو الحل؟ الحل في أن يخرج الأشخاص الملوثون من مؤسسات المعارضة السياسية والعسكرية، وأن تحل بديلاً عنهم الشخصيات الوطنية النظيفة، والخلاص من الجولاني وعصابته، وأن تنسحب “قسد” من منطقة شرق الفرات، وتسلم المنطقة لأبنائها، وهم من يستثمر ثرواتها لإعمار المنطقة وازدهارها، وعودة أهلها، وسعادة أبنائها.. وأن تستعيد الثورة ألقها، ويعيدها الثوار سيرتها الأولى.. ولكن كيف؟ هذا هو السؤال المحير.. الذي يبحث عن جواب، وهذا هو امتحان الثورة الكبير.
المصدر: العربي الجديد