بعد شهر من حملة واسعة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في السعودية، وشارك بها شخصيات كبيرة في المملكة، لمقاطعة البضائع التركية، أجرى فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي مقابلة قال فيها إن الرياض لديها علاقات “طيبة ورائعة” مع أنقرة.
وفي الوقت الذي نفى فيه المكتب الإعلامي الحكومي السعودي فرض قيود على البضائع التركية، كشف بيان مشترك لرؤساء أكبر 8 مجموعات تجارية تركية، تلقيهم شكاوى من شركات سعودية، تفيد بأن الرياض اشترطت عليهم التوقيع على وثائق تلزمهم بعدم استيراد بضائع من تركيا.
كانت هذه الحملة في أكتوبر الماضي، وأجرى الوزير مقابلته في نوفمبر، وبين الحدثين اتصل الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وبحثا “سبل تحسين العلاقات بين بلديهما”، في خطوة نادرة بالنظر إلى توتر العلاقات بين البلدين منذ مقتل الصحافي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر 2018.
ويعتقد محمد الحربي، المحلل السياسي السعودي، أن “هذه مؤشرات لحل الأزمة التركية مع المملكة”.
وبينما يشيد محللون وصناع قرار بمثل هذه التحركات، باعتبارها علامة على أن العلاقات التركية العربية على وشك فتح صفحة جديدة، بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من العداء المتزايد، تحذر كارولين روز، كبيرة المحللين في مركز السياسة العالمية (CGP)، من أن يترجم دفء العلاقات السعودية التركية الحالي إلى مصالحة تركية عربية أوسع.
إلا أن فراس رضوان، المحلل السياسي التركي يقول: “لا يمكن وضع العلاقات العربية – التركية في سلة واحدة، هناك علاقات أكثر من ممتازة مع الكويت وقطر والمغرب وعمان والجزائر وتونس”.
وأضاف “العلاقات متأزمة مع مصر والإمارات ونوعا ما مع السعودية والبحرين، لكن لا شيء يحول دون عودة هذه العلاقات”، قائلا إن “الأمن القومي التركي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي أيضا”
ورغم التوتر السياسي بين الرباعي العربي وتركيا، استمر ت العلاقات الأخرى، ولاسيما الاقتصادية.
وفي مؤتمر صحفي، عقده في وقت سابق من الشهر الجاري، قال وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، إن بلاده تعتبر “شريكا تجاريا أساسيا” لتركيا في الشرق الأوسط و”لا تعتز بأي عداء” معها.
وبعد أيام، قال قرقاش، في مقابلة تلفزيونية، إنه لا يوجد أي سبب للاختلاف مع تركيا إلا تبنيها جماعة الإخوان المسلمين.
وتقول روز لموقع “الحرة” إنه منذ الاتفاق الذي أُبرم في مدينة العلا السعودية، في وقت سابق من يناير، اتضح أن الإمارات والبحرين لن يتبعا خط الرياض، خاصة وأن الاتفاق لم يشمل المطالب الـ13 الأصلية التي أصدرتها دول الرباعي العربي (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر) باعتبارها الإنذار النهائي لقطر عام 2017.
خلاف أيديولوجي
ويربط فادي عكوم، المحلل السياسي، عودة العلاقات مع تركيا بـ”حسابات كثيرة جدا تتعلق بالنفوذ التركي في منطقة الشرق الأوسط والخليج، ودعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين، وتقديمها تعهدات بعدم التدخل مجددا بالشؤون الداخلية للدول الأربعة”.
وأضاف “قد يكون الملف المصري أكثر الملفات قساوة من الناحية السياسية، وأكثرها صعوبة خلال مرحلة التفاوض للتصالح”.
وكانت علاقات مصر مع تركيا توترت عام 2013 منذ عزل الرئيس محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين التي تصنفها الدول الأربعة إرهابية، بينما تستضيف كل من الدوحة وأنقرة أعضاء منها.
وتقول كبيرة المحللين في مركز السياسة العالمية (CGP)، كارولين روز، إنه رغم إنهاء الخلاف بين الرباعي العربي وقطر “على الورق”، لا تزال الإمارات وشريكتها الإقليمية مصر يعترضان على أيديولوجية حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الزعيم التركي رجب طيب إردوغان.
وأوضحت أن كلا من القاهرة وأبوظبي يواصلان معارضة حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، المدعومة من تركيا، فضلا عن مواصلة زيادة الدعم السياسي والعسكري لمنتدى غاز شرق البحر المتوسط “لدرء الأنشطة البحرية التركية من مسح وتنقيب وحفر”.
إرضاء “اللاعبين الكبار”
وأتاح الدعم التركي لحكومة الوفاق إلحاق سلسلة من الهزائم بقوات رجل شرق ليبيا النافذ خليفة حفتر، عقب هجوم طرابلس في 2019.
والإمارات ومصر على خلاف رئيس مع تركيا بشأن ليبيا ودعم جماعة الإخوان المسلمين. وإن كانت القاهرة أبدت مرونة مؤخرا لواقع الوضع الليبي.
وفي سبتمبر الماضي، كشف الكاتب والمحلل السياسي التركي، حمزة تكين، المقرب من السلطة الحاكمة في تركيا، ومحلل سياسي تركي آخر، وهو فراس رضوان، تحدث إليهما موقع “الحرة”، معلومات مؤكدة لديهما تشير إلى اجتماعات مصرية-تركية، على مستوى مخابراتي، بشأن الأوضاع في ليبيا، الأمر الذي لم تنفيه مصر.
لكن جلال حرشاوي، الباحث في المعهد السويسري للمبادرة العالمية، كان قد قال لموقع “الحرة”، في ديسمبر الماضي، إن “الإمارات لا تتقبل الواقع الحالي في شمال غرب ليبيا”.
وأضاف أنه على المدى الطويل، ستظل أبوظبي ملتزمة بالقضاء على أي نظام حكم قد يقبل أو يدافع عن جماعة الإخوان المسلمين أو أي فصيل سياسي مشابه له في طرابلس.
ويرى حرشاوي أن “الإمارات لن تتوقف أبدا عن محاولاتها لجعل الوجود التركي في ليبيا مكلفا ومؤلما وغير دائم”.
أما عكوم فيقول: “هناك توافق دولي على التهدئة في ليبيا؛ يبدو أن تقاسم الحصص، النفطية أو السياسية، للدول المتصارعة في ليبيا أصبح واضحا على الأرض، وبات معلوما أن استمرار الأزمة لفترة أطول سيكون استنزافا للجميع دون استثناء”.
ويعتقد عكوم، في حديثه لموقع “الحرة”، أن الأوضاع في ليبيا ستظل كما هي؛ من ناحية النفوذ والتدخل الخارجي، لكن بوتيرة أقل”، موضحا أن التدخل سيكون سياسيا من أجل التوصل لحل دائم للأزمة، ويرضى جميع الأطراف الداخلية الليبية و”اللاعبين الكبار”، على حد وصفه، مشيرا إلى مصر وروسيا وتركيا والولايات المتحدة.
وأضاف “مصر على سبيل المثال تريد تأمين حدودها الغربية، وألا تتحول ليبيا لبوابة مفتوحة لدخول وخروج الإرهابيين”.
ويؤكد عكوم أن ما وصفه بـ”الثقة المصرية” بما ستؤول إليه الأوضاع السياسية في المستقبل القريب في ليبيا “سيكون العنوان الأساسي للحل”، قائلا إن القاهرة “لن ترض بحل ليبي على حساب أمنها القومي”.
لا حلول وسط
وفي الوقت الذي كانت تركيا تتنازع فيه مع اليونان وقبرص، عضوي الاتحاد الأوروبي، بشأن الأحقية في موارد الطاقة بمنطقة شرق البحر المتوسط، أسست مصر “منتدى غاز شرق المتوسط”، في يناير 2019، بعضوية إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية.
وسهلت اتفاقات ترسيم الحدود البحرية بين كل من مصر وقبرص واليونان دراسة وتنفيذ مشاريع تتعلق باستخراج الغاز الطبيعي وموارد أخرى في شرق البحر المتوسط، بينما ظل الخلاف يتصاعد بين تركيا وجيرانها.
وإلى جانب النزاع على موارد الطاقة، يسود خلاف بين تركيا وقبرص منذ وقت طويل بشأن جمهورية شمال قبرص المنشقة في الجزيرة.
وفي ديسمبر الماضي، أعلنت القاهرة، بالتزامن مع زيارة ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان إليها، انضمام الإمارات لمنتدى غاز شرق المتوسط. كما وقعت الإمارات، الأسبوع الماضي، مذكرة تعاون دفاعي وعسكري واستراتيجي مع قبرص.
ووصف المحلل السياسي الإماراتي عبد الخالق عبد الله، قبرص بـ”الشريك الجديد في محيط الشرق المتوسط”، قائلا إن ذلك يعكس “الحضور الاستراتيجي الإماراتي في صعود مستمر”.
تضحية بشرق المتوسط
ويعلق فادي عكوم، المحلل السياسي على ما وصفها بـ”أزمة تركيا في شرق المتوسط”، بقوله: “يبدو من الواضح أن المحاولات التركية باءت بالفشل، على الأقل جزئيا، خصوصا وأن التحالفات الثنائية والثلاثية بين قبرص واليونان ومصر والتدخل الفرنسي المانع للتوغل التركي، كان مؤثرا”.
ويرجح عكوم، في حديثه لموقع “الحرة”، أن “يضحى” إردوغان بمنطقة شرق المتوسط مقابل “ضمان استقرار أوضاعه، وعودته للساحة الشرق أوسطية من جديد، قائلا “إنه (إردوغان) بات يعلم أن هذه المنطقة ستكلفه سياسيا واستراتيجيا، كونها غير مهيأة لبسط نفوذه بالشكل الذي يحلم بها”.
وأضاف “إردوغان وصل إلى أذربيجان، وشرق المتوسط، وليبيا، وسوريا، وقطر. هو يعلم أنه سيضطر في النهاية للاستغناء عن بعض من هذه التوسعات، لرسم حدود النفوذ من جديد”.
وفي هذا الإطار، يقول فراس رضوان: “لا حلول وسط لأزمة شرق المتوسط”، مؤكدا أن “الخلاف الكبير يكمن بين اليونان وتركيا بسبب تداخل الحيز المائي بين الجرف القاري لكل منهما”.
وتعتقد كبيرة المحللين في مركز السياسة العالمية (CGP) أن النتيجة المحتملة لما بعد اتفاق العلا هي أن يشهد الشرق الأوسط نهاية رسمية للخلاف الخليجي وتقاربا بين تركيا والسعودية.
لكنها أضافت “قد نشهد تصاعد العداء بين تركيا والإمارات، حتى لو تم النظر لذلك باعتباره تحد لقيادة السعودية الفعلية لدول مجلس التعاون الخليجي”.
ويقول الحربي إن “الاقتصاد التركي المنحدر جدا يحتم على أنقرة النظر إلى الأعماق الاستراتيجية الحقيقية المستدامة للتغلب على كافة الظروف”.
إلا أنه أكد، وفي نفس الوقت، على أهمية “عدم التدخل في سيادة الدول العربية ومجتمعاتها وإيقاف كل ما يؤدي إلي زعزعة الأمن في هذه المنطقة المهمة من العالم”.
المصدر: الحرة. نت