لم تشهد الحركة الإسلامية في تونس تصدعاً داخلياً كما تشهده اليوم. وأقصى ما عاشت من أزمات، كان في أعقاب الخروج النهائي من المجال العام ومن البلاد في عام 1991 عندما دخلت مجموعة من القيادات في صراع مع القيادة المتنفذة وعلى رأسها راشد الغنوشي، والذي انتهى بتثبيته رئيساً مرة أخرى وإقصاء جزء من العناصر المشاغبة واستيعاب الجزء الآخر منهم بالمنح والمواقع في المنافي.
لكن التصدع الداخلي الذي تعيشه الحركة اليوم، يبدو غير مسبوق. إذ يتجلى أكثر من خط داخل الحركة، وإن كان بعض الخطوط من خارج الحزب. فالحركة أكثر شمولية من التنظيم الحزبي وما زالت تستوعب حتى المنشقين عن الحزب. الخط الأول، هو الجناح المسيطر على قيادة التنظيم ويقوده راشد الغنوشي مستعيناً بدائرة ضيقة من عائلته وعدد من رموز البورجوازية الإسلاموية الصاعدة. هذا الجناح يرى أن الحركة الإسلامية لم تعد مكلفة بإيجاد الأجوبة الكبرى لأنصارها، ولا تحقيق المشاريع الكبرى (الخلافة، الشريعة، الدولة الإسلامية…) ولتكتفي الحركة بعملية أسلمة أفقية للمجتمع من دون ضجيج يكون الاقتصاد أداتها، في ظل صعود متواصل وسريع للنخب الاقتصادية والمالية الجديدة داخل الهيكل التنظيمي وتوسع قاعدة الأنصار من الشرائح الوسطى العليا (بخاصة المهنيين) والشرائح العليا (التجارية والعقارية أساساً) لكن هذا التيار القوي والمدعوم رأساً من القيادة المتنفذة بقدر ما يريد أن يفصل السياسي عن الديني فإنه يريد إعادة تسييس الديني من بوابة الاقتصاد، وتالياً أسلمة المجتمع في شكل ما، غير الذي عرفناه في السابق.
في مقابل ذلك، نجد خطاً ثانياً، يمثل المعارضة ويقوده عبداللطيف المكي وتمثله مجموعة الــ100. لكن الخلاف بين الجناحين لا يدور حول الأفكار والتوجهات الكبرى بقدر ما يحتدم حول مواقع الهيمنة داخل التنظيم، سياساً وإدارياً.
بموازاة ذلك نجد جناحاً آخر من داخل الحزب لديه توجهات معارضة للجناح المهيمن لا تتعلق فقط بالسياسات بل بالأفكار، ويمكن أن نسميه جناح “النقاء الإيديلوجي”، تمثله قيادات تاريخية دعوية وسياسية اختفت من مشهد الفعل السياسي بعد سقوط حكومة الترويكا في عام 2013، ودخول الحركة في توافق مع “حركة نداء تونس” بخاصة بعد إعلان الحركة عما أسمته بالفصل بين الدعوي والسياسي. يسعى هذا الجناح، الأقلي على مستوى القيادة والسائد في مستوى القاعدة الشعبية من الطبقة الوسطى والفقيرة، للمحافظة على الوجه الإسلاموي الظاهر للحركة ويعتبره رأسمالها الوحيد. هذا التيار ما زال سائداً في قاع الحركة وله أنصار عقائديون وله دعم كبير من المنشقين ومن الفاعلين الدينيين المستقلين (دعاة، خطباء، مشايخ…) ولديه عناصر كثيرة في الجهاز التنظيمي لكنه معاقب من أثر المواجهة الخاسرة التي خاضها من 2011 إلى 2013 وفشل فيها بخروج الحركة من رأس الحكم الذي ما زالت فيه.
ولدينا في مقابل هذه الأجنحة المتصارعة داخل التنظيم، جناح ثالث ضمن الحركة لكنه خارج الحزب وهو جناح “المفارقون للجماعة”، الذين خرجوا من التنظيم الحزبي في فترات مختلفة منذ التسعينات من القرن الماضي وحتى اليوم، لعل أبرزهم رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي، والذين ما زالوا يمتلكون شعبية داخل الجمهور الإسلاموي وعلاقات خارجية وازنة ولديهم نوايا عودة يعتبرونها “إنقاذية”.
لكن الواضح من خلال هذه المعارك الباردة داخل الحركة – والتي بدأت تأخذ طابعاً أكثر حرارة – أننا بإزاء تحولات كبيرة تعيشها النهضة سماتها العامة: نزع القداسة عن التنظيم، الانكماش أكثر نحو القُطرية، تحول طبيعة المنتمي الإسلاموي الحركي من ” النقاوة الدينية” إلى المنتمي العادي، والأهم هو طبيعة منهج التغيير الذي انحدر نحو محاولات الإنخراط أكثر ضمن المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة، من خلال وضع نسيج اقتصادي وبناء قوة اجتماعية، بعد أن كانت جزءاً من مشروع تغير “عالمي إسلاموي”.
لكن خريطة قوى الصراع داخل التنظيم الإسلاموي التونسية ستبقى مفتوحة على العديد من التغييرات لجهة تأثر وضع “النهضة” الداخلي بالوضع العام في البلاد والإقليم معاً. فموجة الاستقالات التي بدأت منذ العام الماضي ووصلت إلى مستويات قيادية عليا ليست خروجاً نهائياً من “النهضة”، بل محاولات ضغط على راشد الغنوشي، لأن أي قيادي نهضاوي يعي جيداً أنه لن يستطيع العمل السياسي خارج الحركة، لذلك فإن كل هذه الاستقالات وقتية وظرفية ويمكن أن يعود كل هؤلاء إلى الحركة قبل المؤتمر.
في المقابل، يبدو الغنوشي والدائرة المحيطة به على وعي جيد بذلك وهم يعملون منذ أشهر على محادثات جانبية مع المنشقين كلاً على حدة لإعادتهم إلى التنظيم، وقد نجحوا في إعادة زبير الشهودي – مدير مكتب الغنوشي سابقاً – والذي اتهم في استقالته الغنوشي وصهره بالفساد ثم ما لبث أن عاد وكذلك رياض الشعيبي الذي خرج منذ سنتين واتهم الحركة بالكثير من التهم ثم عاد مستشاراً سياسياً للغنوشي. فالغنوشي دأب منذ سنوات على استعمال المناصب والمال والامتيازات لاستمالة معارضيه داخل الحركة وخارجها، ويمكن أن تكون التنازلات الأخيرة التي حدثت في انتخابات المكتب التنفيذي تصب في هذا السياق.
أما الأجنحة المعارضة للغنوشي فتبدو حتى الآن ضعيفة على مستوى القيادة بالرغم من أنها تملك قاعدة واسعة داخل أنصار الحركة وأعضائها في المناطق والجهات، باعتبار أنها أصبحت تمثل “النقاء الثوري والمحافظة” أكثر مما يمثلها الغنوشي.
بيد أنه لا بد من الإشارة إلى أن قطاعاً واسعاً من “إخوان” الخارج (التنظيم الدولي) أصبحوا يساندون التيار المعارض للغنوشي، وهو ما بدا واضحاً في بعض المنصات الإعلامية القريبة أو التابعة للتنظيم. وفي المقابل، ما زال الفرع الأوروبي لجماعة “الإخوان” مسانداً قوياً للغنوشي سياسياً ومالياً، وقد نجح الغنوشي في ترفيع منير فلاح – التونسي النهضاوي – كي يكون مراقباً عاماً للفرع الأوروبي، أحد أهم وأنشط فروع الجماعة.
لكن تعادل القوى بين طرفي الصراع داخل التنظيم سيؤدي في النهاية إلى اقتسام المناصب خلال المؤتمر مع إمكان عودة وجوه غادرت الحركة وإيجاد صيغة توافقية تفصل بين رئاسة الحركة – التي لا يمكن قانونياً أن تؤول للغنوشي مرة أخرى – وبين منصب الزعامة، وهي أشبه برئاسة عليا قريبة للنموذج الإيراني للمرشد الأعلى، والذي سيكون من نصيب الغنوشي.
أخيراً يمكن القول إن نجاح “حركة النهضة”، خلال أكثر من أربعة عقود، في الحفاظ على تماسكها التنظيمي، وإن كان ذلك نسبياً، على الرغم من بروز نزعات انشقاقية ونقدية داخل الحركة منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي مع مجموعة اليسار الإسلامي، وصولاً إلى ما يحدث اليوم من صراعات داخلها، مروراً بخروج صالح كركر والغضباني والاستقالات في حقبة المهجر، كان من خلال أمرين، نجح فيهما الغنوشي: الأول، خلق عدو خارجي للحركة في شكل دائم، وطيلة عقود كانت الدولة هي العدو وحالياً أصبح الحديث عن التأمر الإقليمي كعدو، فيصبح همّ الجميع داخل التنظيم الغرق في مواجهة هذا العدو، وبذلك يسيطر هاجس البقاء عليهم ولا يلتفتون لنقد القيادة أو المطالبة بإصلاح أوضاع الحركة أو تغير سياساتها. أما الثاني، فهو سيطرة القيادة على مصادر تمويل التنظيم، بكل ما يجر خلفه من توزيع الإمتيازات، وبكل ما يعنيه من عصب حياة النشاط الحزبي. فأي جناح معارض للغنوشي ومهما كانت أهميته وقوته، لن يكون سائداً إن لم يوفر موارد مالية كافية لتعويض ما يوفره الغنوشي من موارد من خلال شبكاته الشخصية النافذة داخلياً وخارجياً.
المصدر: النهار العربي