عند الحديث عن تجربة الإدارة الذاتية، يجد المتلقي نفسه إزاء توجهين مختلفين، أحدهما يُركز دوماً على مقولة “بالرغم من كل السلبيات التي تعتري هذه التجربة، لكن لا بد من الدفاع عنها” وهو تحديداً، الشخصية المقموعة والمقهورة؛ إذ إن تلك السلبيات التي تتحدث عنها، عدا عن تكرارها منذ ستة أعوام، فإنها راحت تكبر وتتطور وشكلت لنفسها سلطة موازية لقوة الإدارة الذاتية، لا مجال للاقتراب منها، ولا حتى محاسبتها. والأمر هين للغاية، فيكفي تحليل اللغة المستعملة لدى مناصري هذا الخط التبريري، لمعرفة حجم الانفصال عن الواقع، أو عدم قدرتهم على مجاراة التطور الطبيعي للسوية والتطلع البشري، خاصة أن تجارب المجتمع المحلي مع القضايا الخدمية والمطاليب التي لا تشكل جزءاً من تطور بنية الإدارة الذاتية، ولا ترتبط لا بحالة حربٍ ولا ثورة، ولا هجماتٍ عسكرية على مدن أو مناطق في شمال شرق سوريا. فقط هي –التجارب- جزء من السؤال الطبيعي للأفراد والمجتمعات، حول آلية إدارة وتخطيط الموارد الاقتصادية للبلد، وكيفية إدارتها. خاصة أن وظيفة أيَّ سلطة تتحدد أولاً عبر تحديد التحديات وتوضيح سبل مواجهتها، بدلاً من إيجاد جدل فارغ يشغل السطح الخارجي من عقول الناس، والاتكاء على الذرائعية في كل شيء يصدف أن يكون الأهالي ممتعضين من شيء ما، ويتلوه تسويق خواتيم ملائمة لسياسة الحكومة/الإدارة.
والتوجه الأخر إنما ينبعث من رغبات الأهالي، هؤلاء الذين شيعوا الآلاف من أبنائهم، على أمل أن يعيشوا حياة لا تشبه سابقاتها من الأعوام التي مضت وهم يحلمون بيومٍ جديد. هذه الشريحة تحديداً، هي الأكثر مظلومية، تنطلق من مقولة “ما عاد من الممن السكوت، إذ لا شيء جديد نخسره، ولا بد من الحديث والكتابة ورفع الصوت لتفادي تغول أي سلطة” فمهما كانت الجهة الحاكمة على درجة كبيرة من الديمقراطية واحترام حقوق المواطنين، فإنها ستصبح غولاً عملاقاً ينهش بالفقراء ويُشارك جيوب الأغنياء، عندما لا تجد من يقف في وجهها، خاصة أن الحكومات في الشرق تفعل ذلك على الرغم من المقاومات والعصيان المدني، فكيف والحال بعدم وجود من يكتب ضد الفساد والنهب المنظم، وتركيع الأهالي جوعاً. بالعموم هذه الشريحة ليست عدوة ولا بغيضة ولا شريرة كما تسعى جاهدة الإدارة الذاتية لتوصيفهم عبر “عسسها ومخبريها والمبدعين من كتبة التقارير” هم باختصار من ارتضوا العيش في هذه الرقعة الجغرافية البائسة والحزينة على فقدها لكل شيء، ولولا فعل الكتابة ووسائل التواصل الاجتماعي، لكانت الشوارع تعج بمن يتحدث إلى نفسه.
أمام تكرار مشاهد وسيناريوهات فقدان المواد المطلوبة لأبسط مقومات الحياة، حيث طوابير الغاز والخبز، عدا عن النوعية ما فوق الرديئة لمادة المازوت المستعمل للتدفئة، والتي تحمل كميات ضخمة من الغازات المنبعثة منها، الكفيلة بخلق مجتمع متسرطن. باختصار فإن القضية ما عادت متعلقة بفقدان الخبز، ثم عودة الأفران للعمل مجدداً. وللإحاطة، ففي الحظر الكلي الأول، كانت دوريات التموين تفرض أسعاراً على الخضار والفواكه المستوردة من خارج المحافظة، بسعر أقل من سعر الشراء من منطقة المبيع، وفق العديد من التجار والموردين. اليوم تعاد القضية ذاتها، كذر الرماد في العيون، فالمشكلة لا تُحل عبر دوريات التموين التي تحولت إلى عمل التمويه والتغطية على الفشل الذريع في معظم مفاصل هذه الإدارة. وبالموازاة مع الفئتين المختلفتين في آلية توصيف الحديث عن الإدارة الذاتية، بات المجتمع منقسماً إلى طبقتين تتوسع الفجوة باضطراد مخيف، أقلية غنية ثرية فاحشة، وأكثرية مطلقة فقيرة معدومة، فالأخيرة حارب أبناؤها ففقدتهم، وفقدت معهم صبرها ورغبة الانتماء، والأولى استثمرت كل شيء عن الأكثرية المحتاجة.
فأصبحنا أمام مجتمع محلي مُنهار بفعل غياب العدالة الاجتماعية، لغياب البيئة النشطة والمثبتة لها، فغابت بذلك هذه العدالة عن بنية مؤسسات الإدارة الذاتية، واختفت معها التحولات الجذرية المنشودة، خاصة أن نوعية كثيرة من الأبحاث والدراسات، ركزت على حتمية الواجب الأخلاقي في التعامل مع القضايا التي تمس الشعب مباشرة، حينها تنتعش العدالة الاجتماعية التي تبحث عن علاقات الناس وحيواتهم لتحميها وتطورها. فيجد المجتمع فسحة لنفسه لإعادة تشكيل الكيان السياسي والاجتماعي المطلوب، فالحالة الاقتصادية السليمة لأي بلد لا تكون عشاً للصوص والمتنفذين، ما هي إلا نتاج اجتماعي وليس تراكما لنواتج الأفراد كل على حدة.
لهذا بات لزاماً على الإدارة الذاتية، تفهم بيئة المجتمعات التي تحكمها، فهي لا تنسجم أو تتماهى كلياً مع محاولات فرض السطوة ورسم السياسات لها، ولها أن تتخيل الأنظمة التي حكمت دول الربيع العربي، بعد أكثر من نصف قرن من الصلافة والصلابة في التعامل مع شعوبها ماذا حل بها. حقيقة هذا الفهم الغائب هو المانع من حصول التغيرات المنشودة، خاصة أن الجسر الأكثر رصانة لتحقيق الثقة بين الشعب والسلطة إنما هو العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات وتأمين قوت الجياع والذين ضاقوا ذرعاً بالسياسات الاقتصادية الممارسة على رؤوسهم.
وفي ظل غياب الخريطة الاقتصادية الحالية والمستقبلية، فإنه لا سلم أهلي بالمفهوم المتعارف عليه، خاصة أن القانون يطبق على الفقراء فحسب، ويستثني أعمدة شبكة الاقتصاديات الناشئة، بل توفر لهم الديناميكيات المطلوبة لتوسيع قاعدة ثرائها الفاحش على حساب الفقراء، فيكفي لأي سلطة، ومنها الإدارة الذاتية، اللجوء إلى خلق أزمة لأي مادة، لتشكل مورداً هائلاً إضافياً للبرجوازيات الحزبية التي لم تسهم في الحد من ظاهرة الفقر. وفي ترسيخ أهمية دور الطبقات البرجوازية الناشئة التي توفر لها السلطات في الحروب شبكة من العلاقات العامة النظامية والمشبوهة، فإنه من السخف بمكان وجود فعل جمعي دون استفادة خاصة، فالأفعال التي تؤدي لمنفعة عامة وإن كانت ذات خصوصية أو منفعة ذاتية، فإنها لا تعتبر أفعالاً أنانية ولا شخصية. لكن عمق وجذر المشكلة، أن غالبية التجاوزات المحمية إنما تصب في مصالح فئة ضيقة من الإدارة الذاتية، في مقابل توسع دائرة الفقراء والمحتاجين غير المستفيدين.
الأزمة التي يتحدث عنها الأهالي اليوم حول الخبز. هي أعمق وأكبر بكثير من ظاهرها وحالتها، وإن كانت ستحل قريباً جداً، لكنها المشكلة عينها التي تتكرر خلال كل بضع أشهر، سواء للمادة المطلوبة نفسها، أو لنوع أخر من المطاليب الشعبية. بات لزاما على هذه الإدارة أن تعي، أن القواعد الاجتماعية لم تعد تصدق ما يقال لها، فهي ترغب أن تعيش لتمارس حياتها، وليس أن تحتاج لتبحث عن إشباع بطنها، كما تفعل الأنظمة الشمولية مع شعوبها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا