استطاع دونالد ترامب أن يجرّد الرئيس دونالد ترامب من إنجازات في السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة ليتذكّره التاريخ مُقلَّصاً في مشهد تحريض داعميه على اقتحام مبنى الكونغرس للانقلاب على الديموقراطية. الأجيال المُقبلة لن تتذكّر لدونالد ترامب انه أوقف الصين عن التمادي التجاري على حساب الأميركيين؛ أو انه وضع العصا في اتفاق نووي مع إيران أبرمه سلفه مَكّنت “الحرس الثوري” من التوسّع العسكري في سوريا دعماً للنظام ضد شعبه ومن الهيّمنة على دول مثل العراق ولبنان. أو انه دشّن علاقات بين الدول الخليجيّة العربية والمغرب والسودان مع إسرائيل لم يسبق لها مَثِيل، أو أنه ساهم جذريّاً في المصالحة بين السعودية وقطر وبالتالي عادت العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي بعد انقطاع.
الأجيال المُقبلة ستتذكّر دونالد ترامب من زاوية ذلك اليوم المشؤوم عندما فقد بصيرته وخضع لاعتباطيته واستسلم لنزعته الانتقامية وخَسِر احترام الأميركيين والعالم. دونالد ترامب قدّم أثمن هديّة وداع الى الرئيس المُنتخب جو بايدن ليس فقط بحشده شبه اجماع أميركي وعالمي وراء ضرورة تسلّمه مفاتيح السلطة بلا عراقيل، بل بدفعه أقرب الناس اليه لرفض تلبيته كما فعل نائبه مايك بنس الذي أصرّ على القيام بمهماته الدستورية وتأكيد فوز بايدن بالرئاسة. ولربما يكون جمع صفوف أقطاب الحزب الجمهوري في مواجهة دونالد ترامب بسبب حماقة تحريضه على اقتحام الكونغرس، تطوّر فائق الأهمية على أداء إدارة بايدن في السياسة الداخلية والخارجية على السواء. ذلك أن ما حدث من ضرب جنون في العاصمة الأميركية أيقظ الجميع الى خطورة الانزلاق في متاهات حروب أميركية – أميركية.
هذا لا يعني أن العلاقات بين الحزبين الحاكمين ستكون سَمناً على عسل، ولا يعني أن حزب دونالد ترامب سيُسامح الحزب الجمهوري على الوقوف بوجهه. فلدونالد ترامب نفوذ كبير داخل مؤسسة الحزب الجمهوري ولديه قدر كبير من الأموال الانتخابية، وهو عنيد ومصرّ وغاضب ويشعر بأنه ضحية الخداع والغش – والأرجح أنه لن يتراجع الى المجهول ويختفي. بل هناك من يعتقد أن الدراما لم تنتهِ بعد وأن أحداثاً لافتة قد تقع بين الآن وموعد 20 كانون الثاني (يناير)، موعد تسليم السلطة.
خسارة دونالد ترامب للبيت الأبيض بعد ولاية واحدة هي في نظره إهانة لا تُغتَفَر. بعض المقرّبين منه يُصرّ على أنه يعتزم الإعلان عن ترشحه للرئاسة عام 2024 لربما يوم تسليم البيت الأبيض الى جو بايدن. بعضهم يؤكد أن الذين يستنتجون انحسار نجم دونالد ترامب نتيجة ما حدث انما يجهلون ما في ذهنه وفي أذهان داعميه. فهذا رجل مُسلَّح بملايين من أتباعه العازمين على إعادته الى البيت الأبيض، أو على الأقل، أنهم عازمون على تعطيل قدرة جو بايدن على الحكم. فهم، من وجهة نظرهم، ضحية الغُبن الانتخابي، ولديهم خطة لا ترتكز إلى الحزب الجمهوري كمرجع وإنما الى دونالد ترامب.
قد يدفع كل ذلك الجمهوريين والديموقراطيين الى العمل معاً في أكثر من ملف، وقد يكون ذلك تطوّراً جيّداً يعزّز المساءلة والمشاركة في صنع القرار بدلاً من نزعة الاستفراد به. فالديموقراطيون لهم اليوم السلطة التنفيذية في البيت الأبيض كما السلطة التشريعية في مجلس الشيوخ وفي الكونغرس حيث لهم الأكثرية هناك. قد يطيب لبعضهم رفض العمل المشترك مع الجمهوريين، وهذا سيؤدي الى مواجهات في الكونغرس لا سيّما في شأن قضايا مهمة في السياسة الخارجية كتلك نحو الصين أو إيران. وقد يفضّل البعض تجنّب المواجهة كي لا تُكبَّل الأولويات التي يريد لها فريق بايدن أن تنطلق بسرعة مثل العزم على استئناف الاتفاق النووي مع إيران ورفع العقوبات كخطوة أولى تليها المفاوضات على الصواريخ الدقيقة والباليستية وعلى السلوك الإيراني الإقليمي كخطوة تالية.
توصيات فريق بايدن للرئيس في شأن منطقة الشرق الأوسط لا تنطلق من نقطة نكران ما حقّقته إدارة ترامب بل من ضرورة البناء على الإيجابيات بالذات في ما يخص إسرائيل بصفتها الحليف الدائم للولايات المتحدة في المنطقة. الهدف هو تأمين كل مساعدة أميركية ضرورية لإسرائيل في كل منعطف بما في ذلك ما يؤدي الى مساعدات تُرغّب إسرائيل بالانخراط في التفاوض مع الفلسطينيين، والعكس بالعكس. المهم هو الحفاظ على توسيع ما أنجزه دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنير في اتفاقات ابرامز التاريخية وبدء التطبيع ما بين الدول العربية لا سيّما الخليجيّة وبين إسرائيل. والسؤال هو، مَن مِن الديموقراطيين سيكون “كوشنير” بايدن علماً أن كوشنير أدى أيضاً دوراً أساسياً في تهيئة الأجواء للمصالحة الخليجيّة – الخليجية والتي ينوي فريق بايدن البناء عليها والاستفادة منها سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً.
الجديد في تفكير فريق بايدن هو الأسلوب الذي يوصي به رئيسه لجهة نوعيّة التواجد والدور الأميركي في الشرق الأوسط بحيث يكون دوراً مُرشِداً يوازن بين المصالح الأميركية والواقع الإقليمي عند بناء “شرق أوسط جديد”. انه دور مرئي إنما بأسلوب جديد.
بالنسبة إلى الوجود الأميركي العسكري، يوصي فريق بايدن بتطوير وعصرنة وتوسيع القواعد الأميركية في المنطقة، وذلك بسبب تطوير كل من الصين وروسيا تواجدهما العسكري في الشرق الأوسط والخليج، كما بسبب الطموحات الإيرانية الإقليمية.
روسيا قد يكون مرغوباً بها كشريك جزئي “part time partner” في موضوع سوريا وإيران إنما ليس على مستوى المسائل الاستراتيجية. فموسكو تحاول زيادة تواجدها في المنطقة، ورأي فريق الشرق الأوسط الذي يصوغ السياسة الأميركية العريضة هو أن على إدارة بايدن أن تحتوي الطموحات الروسية بخطوات ملموسة كي لا تفلت بلا مراقبة.
إيران تشكّل معضلة لفريق بايدن الذي يصرّ على سياسة السكّتين two track مع استخدام “الضغوط الناعمة” soft pressure ثم اللجوء الى “الطريق الصعب” hard road إذا رفضت طهران تلبية واشنطن. المعضلة متعدّدة الجوانب، أحدها يتمثّل بالناحية الزمنية، لكن هذا الأسلوب، في نظر فريق بايدن، يعطي الولايات المتحدة مرونة أكثر في التعامل مع إيران.
هناك توصية بضرورة البدء، على أي حال، بعملية قطع الوصال بين عدد من الدول الخاضعة لنفوذ إيران – العراق ولبنان وسوريا واليمن – وبين طهران من خلال مختلف الأدوات، وذلك بأسرع ما يمكن. فإيران بمفردها تشكّل خطراً على المنطقة، إنما من دون “حزام نفوذها”، لن تشعر المنطقة بالطمأنينة. كيف يتصوّر فريق بايدن أن في وسعه تحقيق ذلك؟ الأمر ليس واضحاً بعد. فهذا الهدف من المستحيل إقناع أركان النظام في إيران بتبنّيه لا سيّما “الحرس الثوري” الذي يتولّى ملفّات هذه الدول ولن يتخلّى عنها بدعم تام من مرشد الجمهورية علي خامنئي.
الأدوات التي في ذهن فريق بايدن قد تكون رفع العقوبات التي تحتاجها الجمهورية الإسلامية الإيرانية أشد الحاجة، إنما من المستبعد جداً أن تضحّي قياداتها بمنطق وجوديتها raison d’etre – والذي يقضي بترسيخ نفوذها في العراق ولبنان وسوريا واليمن – في مقابل رفع العقوبات. المسألة أساسية ووجودية. وعسى أن تكون لدى فريق بايدن معادلة سحرية لتحقيق هذا الهدف. منطقيّاً، يبدو أن في ذهن هذا الفريق استخدام أدوات العقوبات بصورة مختلفة عن كيفية استخدام إدارة ترامب لها تنطلق من رفع العقوبات ثم التهديد بإعادة فرضها. وهذا قد يكون خطيراً.
خطورة بعض الأفكار التي يحملها فريق الشرق الأوسط الى الرئيس جو بايدن تكمن أحياناً في سذاجة سياسية ليس واضحاً إنْ كانت متعمّدة كوسيلة من وسائل تحقيق الأهداف، أو إنْ كانت حقّاً سذاجة. فلقد عاد الكلام الذي ساد في زمن الرئيس الأسبق باراك أوباما عن “القوة الناعمة” عبر العمل مع الجيل الجديد من السياسيين والقيادات السياسية والرأي العام في مرحلة دخول الشرق الأوسط مرحلة التغيير الداخلي الجدّي.
واضح أن فريق بايدن يريد العمل عن كثب مع الدول الأوروبية ما يلاقي ترحيب دول الاتحاد الأوروبي التي أزعجتها أساليب ترامب نحوها لا سيّما الإصرار على تسديدها نفقات شراكتها في حلف شمال الأطلسي “الناتو”. وهناك اليوم تواصل وتشوّق عبر الأطلسي لاستئناف ما كانت عليه العلاقات الودّيّة قبل زمن ترامب. ثم أن ما فعله دونالد ترامب بتحريضه على اقتحام الكونغرس لاقى قرفاً أوروبياً يريد فريق بايدن البناء عليه لإصلاح السمعة الأميركية أوروبياً.
فريق بايدن يود أن يقوم الرئيس الجديد بزيارة الى الشرق الأوسط قبل نهاية 2021 إنما شرط أن تكون للزيارة نتائج ملموسة. هدفها ليس استدعاء العداوة مع دول المنطقة وإنما صياغة شراكات جدّيّة ولعب أدوار نشيطة. لذلك يبرز الكلام عن تعيين شخصيّة تتولى مَهمّة المبعوث الخاص الى الشرق الأوسط بصلاحيات واسعة مطلع ولاية بايدن.
بعض الدول العربية بدأ يتأقلم مع عهد جديد ولعلّ دول مجلس التعاون الخليجي الست – السعودية والإمارات والكويت وقطر وعُمان والبحرين – استبقت موعد 20 كانون الثاني (يناير) وقَدّمت الى إدارة بايدن فرصة البناء على إنجازات لصالحها حتى وإنْ كانت صُنِعَت على أيادي إدارة ترامب، كما كان واضحاً تماماً في قمة العُلا وقراراتها التاريخية.
المصدر: النهار العربي