العالم بعد فيروس كورونا – (2-1)

مجموعة من المفكرين ترجمة: علاء الدين أبو زينة

بعد مرور عام على شروع جائحة “كوفيد – 19” في انتشارها الذي لا هوادة فيه في جميع أنحاء العالم، بدأت الملامح العامة لنظام عالمي أعاد الوباء تشكيله في الظهور. تماماً مثلما حطم الفيروس حياة الناس، وعطل الاقتصادات، وغيّر نتائج الانتخابات، فإنه سيؤدي إلى تحولات دائمة في مراكز القوة السياسية والاقتصادية داخل البلدان وفي ما بينها. ولمساعدتنا على فهم هذه التحولات، مع دخول الأزمة مرحلة جديدة في العام 2021، طلبت مجلة “فورين بوليسي” من 12 مفكراً رائداً من جميع أنحاء العالم أن يزودونا بتوقعاتهم بشأن النظام العالمي بعد الوباء. وقدم لنا مداخلاتهم حول هذا العنوان كل من جون آر ألين؛ لوري غاريت؛ ريتشارد ن. هاس؛ ج. جون إكنبيري؛ كيشور محبوباني؛ شيفشانكار مينون؛ روبن نيبليت؛ جوزيف س. ناي الإبن؛ شانون ك. أونيل؛ وستيفن م. والت.
* *
وقتٌ للقيادة
جون ألين، رئيس معهد بروكينغز.
قلة قليلة فقط من الفائزين الحقيقيين، إن وجدوا من الأساس، هم الذين سيخرجون من هذه الأزمة الصحية العالمية -ليس لأن المرض كان خارج قدرتنا على السيطرة، وإنما لأن معظم البلدان فشلت في ممارسة القيادة والانضباط الذاتي المجتمعي الضروريين للسيطرة عليه إلى أن تصبح اللقاحات متاحة.
أصبح “كوفيد – 19” بسرعة واحداً من أكثر العوامل ضغطاً على نظامنا الدولي الهش مُسبقاً، فكشف العيوب، وعمّق نقاط الضعف، وفاقم المشكلات المزمنة. وعلى المستوى الأكثر أساسية، سلطت هذه اللحظة الصعبة الضوء على مدى سوء تجهيز أنظمتنا الصحية العالمية، وأجبرت العديد من البلدان على اتخاذ قرارات أخلاقية مدمرة لتحديد من هم الأكثر استحقاقًا لتلقي الرعاية الطبية من مواطنيها. وعلاوة على ذلك، بدلاً من بناء تحالف عالمي متجدد لمكافحة هذا المرض المروع، اعتمدت العديد من البلدان على انتهاج سياسات انعزالية. وأدى ذلك إلى استجابات مجزأة وغير فعالة، حيث ارتفعت أعداد الحالات مرة أخرى وبشكل كبير في جميع أنحاء العالم، وكانت الولايات المتحدة واحدة من أسوأ الأمثلة.
في الحقيقة، يمثل “كوفيد – 19” سلسلة معقدة من المشكلات المترابطة عبر-الوطنية التي تتطلب حلولًا متعددة الأطراف يديرها القادة. ولمعالجة قضايا مثل العنصرية المنهجية، وتغير المناخ، والحاجة إلى انتعاش اقتصادي عالمي، من الضروري حقًا أن نسعى إلى تعزيز، وليس إضعاف، نظامنا الدولي المشترك. وفي حين أن العلم سينقذنا في نهاية المطاف، فليس ثمة أمل في اتخاذ إجراءات منسقة ضد المرض -وفي التعافي النهائي منه- من دون قيادة.
* *
بذور الثورة
آن ماري سلوتر، الرئيسة التنفيذية لمؤسسة “أميركا الجديدة”
أظهر الوباء بشكل لا لُبس فيه أن حكومة الولايات المتحدة ليست لاعبًا يستغنى عنه في الشؤون العالمية. فقد سحبت إدارة ترامب المنتهية ولايتها الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ورفضت الانضمام إلى شراكة “كوفاكس” التي تضم 172 دولة لضمان وصول عالمي عادل إلى اللقاحات، وتخلت عن المسؤولية عن معالجة الوباء في الوطن، في الولايات والمدن الأميركية. وما يزال الأميركيون يدفعون الثمن بينما مضت بقية العالم قدُماً.
أظهر الوباء أن المنظمات الخيرية والمدنية، والشركات والجامعات الأميركية هي التي لا غنى عنها. فقد ساعدت “مؤسسة بيل وميليندا غيتس” على تنظيم تحالف اللقاحات، “غافي” Gavi، و”ائتلاف ابتكارات التأهب للأوبئة”، وكلاهما شريكان رئيسيان للاتحاد الأوروبي ومنظمة الصحة العالمية في جهود مكافحة الأوبئة، مثل مبادرة “كوفاكس”. كما أن شركات الأدوية الأميركية كانت بالغة الأهمية في تطوير اللقاح وتصنيعه وتوزيعه -بمساعدة الحكومة الأميركية أو من دونها- حتى في الوقت الذي تحرز فيه الشركات الأوروبية أيضًا تقدمًا سريعًا في هذا المضمار. ويلعب العلماء والأطباء وعلماء الأوبئة الأميركيون أدوارًا حيوية في الشبكات العالمية من خلال مشاركة المعلومات حول الفيروس، إضافة إلى الاستراتيجيات الناجحة للوقاية والعلاج.
كانت أكبر مفاجأة جلبها الوباء هي الفصل الدراماتيكي، على المستويين الوطني والعالمي، لاقتصاد الأغنياء عن اقتصاد كل الآخرين. وتسبب “كوفيد – 19” في وفاة أكثر من مليون شخص في جميع أنحاء العالم، وخلق كارثة اقتصادية للعاملين بأجر وللأعمال الصغيرة. ومع ذلك، تكشف الأسواق المالية عن القليل من الضرر -بل إن قيم الأصول تذهب إلى مستويات أعلى باطراد. وتزرع الفجوات من هذا النوع بذور الثورة.
* *
العولمة تتغير بسرعة
لوري غاريت، متخصصة في الكتابة عن العلوم، وكاتبة عمود في مجلة “فورين بوليسي”
نظرًا للتأخيرات الحتمية في طرح اللقاحات، لن يختفي فيروس كورونا في القريب. وهو السبب في أن الوباء سيستمر في أن يغيّر بسرعة مشاهد العولمة والتصنيع.
لا يخطط نصف الرؤساء التنفيذيين لأكبر 500 شركة أميركية لإعادة سفر الأعمال إلى مستويات العام 2019. ويتوقع أكثر من ربعهم أن لا تستعيد القوى العاملة لديهم حجمها الذي كانت عليه قبل انتشار الوباء. ويقول ثمانية من كل 10 منهم أن النزعة القومية ستصبح قوة مهيمنة في البلدان التي يعملون فيها، ما يؤثر على سلاسل التوريد وقرارات تحديد مواقع الشركات، والمناخ التنظيمي. ومعظمهم مقتنعون بأن تحولاً أسرع إلى الروبوتات والذكاء الاصطناعي سوف يساعد على عزلهم ضد التمارض العُمَّالي الجماعي من أجل إقامة الاعتصامات، وفي وقايتهم من الصدمات الوبائية في المستقبل. وحتى لو تعافت الإيرادات بالنسبة للعديد من الشركات، فإن المزاج السائد في مجالس الإدارة يظل قاتمًا.
حتى الآن، لم يتمكن معظم المشترين، من الشركات والحكومات على حد سواء، من حل مشكلات الإنتاج والإمداد في عصر الوباء الذي نعيشه. وسوف يعمدون إلى تنويع المورِّدين لكي يصبحوا أقل اعتمادًا على دولة واحدة، مثل الصين، وسيقومون ببناء مخزونات احتياطية للتعامل مع أي اضطرابات مستقبلية. وسوف تبتعد الشركات والحكومات عن العلاقات والصفقات التجارية طويلة الأمد التي أدامت العولمة، في اتجاه التزامات أقل استقرارًا والتي يمكن إبرامها -وكسرها- في استجابة سريعة لأي تفشيات للأمراض أو أحداث غير متوقعة في المستقبل.
وسيكون هناك خاسرون؛ فقد جعلت التداعيات الاقتصادية الوخيمة التي جلبها الوباء الملايين من الناس يشعرون بالمرارة والاستياء، وأكثر احتمالاً لإلقاء اللوم عن محنتهم على المنافسين الأجانب. وتواجه المؤسسات الصحية والإنسانية العالمية تحديات شديدة بسبب تصاعد النزعة القومية والصعوبات في حشد الدعم المالي. ونتيجة لذلك، قد يكون أحد الآثار طويلة المدى لهذا الوباء هو جعل العالم أقل قدرة على الصمود في مواجهة الجائحة التالية.
* *
القرن الآسيوي المؤهّل
كيشور محبوباني، زميل متميز في معهد أبحاث آسيا بجامعة سنغافورة الوطنية
الأرقام لا تكذب. كان معدل الوفيات الناجمة عن “كوفيد – 19” أقل في شرق وجنوب شرق آسيا. ولك أن تقارن فقط أرقام فيتنام (0.4 حالة وفاة لكل مليون شخص) والصين (3) وسنغافورة (5) وكوريا الجنوبية (10) واليابان (17)، بأرقام وفيات بلجيكا (1446 لكل مليون) وإسبانيا (979) وبريطانيا (877) والولايات المتحدة (840)، وإيطاليا (944).
والأرقام هي قمة جبل الجليد فحسب. وتحتها وخلفها تكمن القصة الأكبر عن انتقال الكفاءة من الغرب إلى الشرق. وقد عُرفت المجتمعات الغربية ذات يوم باحترامها للعلم والعقلانية. لكن دونالد ترامب خلع القناع –حرفياً- عن هذا الوهم. ويحدّق الآسيويون باندهاش في أنصاره الذين بلا أقنعة للوجوه.
وكان الغرب معروفًا أيضًا بالحكم الرشيد، وخاصة الاتحاد الأوروبي. لكن الموجة الثانية القوية من الوباء تؤكد حدوث خطأ ما. ولكن، ما الخطأ الذي حدث؟ إحدى الإجابات البسيطة هي الرضا عن الذات. فقد افترض الغرب أنه سينجح في هذه المعركة. وفي المقابل، من خلال تجربتها السابقة مع الأوبئة الفيروسية مثل الـ”سارس”، أدركت مجتمعات شرق وجنوب شرق آسيا أنه يتعين عليها أن تكون صارمة ويقظة ومنضبطة. وكان أحد المتغيرات الحاسمة هو احترام الحكومة. لحسن الحظ، لم تسقط هذه المجتمعات أبدًا في الوهم الـ”ريغاني” القائل إن “الحكومة هي المشكلة”. بدلاً من ذلك، تنظر هذه المجتمعات إلى الحكومة على أنها الحل. وهكذا، تمكن كل من المجتمع الفيتنامي شديد الانضباط، والمجتمع التايلندي المضطرب سياسيًا، من إخضاع “كوفيد – 19” ووضعه تحت السيطرة. واستجابت المؤسسات الحكومية القوية، وخاصة في المجال الصحي والطبي، بكفاءة كبيرة. ومن المرجح أيضًا أن تتعافى اقتصادات شرق آسيا بشكل أسرع، على نحو يعكس الكفاءة في الإدارة الاقتصادية.
عندما يبحث مؤرخو المستقبل عن بداية “القرن الآسيوي”، فيحتمل كثيراً أنهم سيشيرون إلى “كوفيد – 19” باعتباره اللحظة التي عادت فيها الكفاءة الآسيوية إلى الظهور بقوة.
* *
عصر جديد من نشاط الدولة
شانون ك. أونيل، نائبة الرئيس، ونائبة مدير الدراسات، وزميلة أولى في مجلس العلاقات الخارجية
لن تكون التجارة، أو الاستثمار، أو انتشار الفيروسات هي التي ستشكل المرحلة التالية من العولمة، وإنما ستشكلها الجغرافيا السياسية والنشاط الحكومي. وقد تعافت سلاسل التوريد العالمية إلى حد كبير من الصدمات الاقتصادية الحادة -التي قلصت كلاً من العرض والطلب على حد سواء- نتيجة الإغلاق الوبائي الذي تسبب به فيروس كورونا في الربيع الماضي. لكنها تواجه الآن تحدياً أكثر ديمومة والذي يأتي من تصرفات الدول. سوف يستمر تصاعد التوترات السياسية بين الولايات المتحدة والصين، وفك الارتباط بين القطاعين الصناعيين في البلدين.
ما يزال تسليح القوة الاقتصادية والمالية لتحقيق مكاسب جيوسياسية عن طريق المقاطعات والعقوبات والقيود الأخرى في صعود. وبينما يكافح الاقتصاد العالمي للتعافي من الوباء، تقفز الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى حمأة المعركة الاقتصادية بجهودها للتأثير على الاستثمارات وتوجيهها، وتحفيز الابتكار الصناعي، وإدارة الأمن القومي والدفاع عنه في عالم رقمي، وتشكيل الاقتصادات الوطنية باستخدام كل أنواع أدوات السياسة.
ثمة حاجة إلى سياسات صناعية ذكية لمعالجة المشاكل التي لن تحلها الأسواق من تلقاء نفسها، مثل تغير المناخ، وإلى تحقيق تكافؤ الفرص بين البلدان من خلال إزالة الحواجز التنظيمية وغيرها من الحواجز عن طريق الاتفاقيات التجارية الشاملة وغيرها من الاتفاقات متعددة الأطراف. لكن كل نشاط الدولة هذا يهدد بزيادة الحمائية القاسية من النوع الذي يعمّق الانقسامات بين البلدان، ويفتّت سلاسل التوريد، ويقمع الابتكار والنمو العالميين. والتحدي الذي يواجه قادة العالم الآن هو التدخل بطرق ذكية تحافظ على المنافسة والانفتاح وتشجعهما.
* *
المستبدّون الآن أسوأ
ستيفن إم والت، أستاذ العلاقات الدولية في كلية كنيدي في جامعة هارفارد
كما هو متوقع، سّرع فيروس “كوفيد – 19” انتقال مركز القوة من الغرب إلى الشرق، ووضع قيودًا ومحدّدات إضافية على العولمة، مؤدياً إلى عالم أقل انفتاحًا وازدهارًا. لكن الوباء لم يضع حداً للجغرافيا السياسية التقليدية أو الخصومات الوطنية، كما أنه لم يُؤذن بقدوم حقبة جديدة من التعاون العالمي.
بينما تتعافى الصين من الوباء، تواجه الولايات المتحدة وجزء كبير من أوروبا موجات أخرى من الإصابات، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى فشل القادة في الاستجابة للتفشي بسرعة وفعالية. ولا يُضفي هذا النمط الصلاحية على الحكم الاستبدادي، كما تريدنا بكين والمعجبون بها أن نعتقد. كان أداء كل من أستراليا، وكندا، ونيوزيلندا، وكوريا الجنوبية وتايوان جيدًا، وكلها دول ديمقراطية، جيداً بينما تعثرت دول مثل روسيا وإيران والعديد من الديكتاتوريات الأخرى.
كانت العولمة في تراجع، وكان التعاون الدولي لهزيمة الوباء فاترًا في أحسن الأحوال. ولم يحُل الوباء دون حدوث صدامات جديدة بين الهند والصين، ولم يوقف سفك الدماء في سورية أو اليمن. ويستمر التنافس بين الولايات المتحدة والصين في التصاعد.
والأخبار الجيدة؟ لم تتحقق المخاوف واسعة الانتشار -بما فيها مخاوفي أنا- من أن احتمال أن يستخدم المستبدون والشعبويون والأوتوقراطيون حالة الطوارئ لتوطيد سلطتهم. فقد خسر الشعبويون الأرضية في النمسا وبريطانيا وألمانيا. ويواجه حزب القانون والعدالة البولندي معارضة جديدة. ويتعرض الحكام المستبدون، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، إلى ضغوط أكبر بعد سوء تعاملهم مع الوباء. والأهم من ذلك كله: أصبح الشعبوي الأكبر، دونالد ترامب، رئيساً بولاية واحدة.
وهذا، أيضاً، سبب كبير للأمل. مع التصميم، وارتداء أقنعة الوجه وإطلاق اللقاحات، سوف نتجاوز هذا الوضع الصعب.
*نُشرت هذه المداخلات تحت عنوان: The World After the Coronavirus

المصدر: الغد الأردنية/(فورين بوليسي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى