ماذا لو لم تنطلق الثورة السورية في مثل هذه الأيام منذ تسع سنوات؟ ماذا لو لم ينطلق الربيع العربي من تونس، بإحراق “البوعزيزي” لنفسه، لتنطلق انتفاضات الشعوب في المنطقة، كالنار في الهشيم.. ماذا لو كانت الصورة كما هي عليه في نهايات عام 2010، من الرتابة والجمود، والسكون والعدم.
أسئلة مشروعة ربما لم يتطرق لها الكثيرون، لقد انشغل معظمنا في البحث والحديث عن مآلات الثورات والأوطان في ظل التحولات الكبيرة، والخيبات، التي أصابت الشعوب بانتكاسات ثوراتها، وفاتورة الدم التي دفعتها، باختصار، لم يكن لأحد أن يتصور ما أصاب تلك الثورات مهما أوتي من قدرات تحليلية، ومخيلة واسعة، كما أنه ليس هناك من كان يرغب بدموية المشهد وعنفه وما لحق به من مخاطر، ما فتئت تتعاظم، وتنذر بالأسوأ، ماذا لو لم تنطلق الثورة السورية على نظام الفساد والاستبداد، وحكم العائلة، ماذا لو بقي كل شيء على ما كان عليه من تسلط واستئثار لفئة قليلة خربت وشوهت كل شيء، الضمائر والأخلاق العامة، القيم والنفوس، وزرعت ثقافة تقوم على النفاق والخوف، الرذيلة والخنوع..
أزعم أن الثورة كانت حتمية، وما كان من الممكن أن تستمر نمطية المجتمع على ما كانت عليه، فكل عوامل الثورة ومبرراتها كانت قائمة وموجودة، وكثير من المحللين والمتابعين كانوا يدركون أن ثمة طوفاناً قادماً سيقلب كل المعادلات، ويطيح بكل مرتكزات نظام تعفن وأنتن، وبات يثير الغثيان، صحيح أن المنحى الذي أخذته الثورة كان مفاجئاً لجهة العنف المنفلت من كل عقال، ولحجم التآمر والخذلان الذي ووجهت به، وسوء أداء من تصدوا لقيادة الثورة والمعارضة، وفشل النخب المفجع، وارتهانها لأجندات الخارج، لكن كل ذلك لم يكن ليمنع وقوعها، أو حدوثها، كحتمية تاريخية لا مناص منها ولا فكاك.
ماذا لو لم يكتب أطفال درعا على حيطان مدارسهم، وفي الشوارع، مطالبين بإسقاط النظام، هل كنا سنبقى “بأمان” و”سلام” و”عايشين”، كما يحلو القول للبعض؟ بالمنظور التاريخي، وتحليل الواقع المعقد، الذي أضحت عليه سوريا، بعد نصف قرن من حكم البعث والطائفة والأسرة، وإخراجها من سياق التطور الطبيعي، وباستخدام أوليات علم الاجتماع، ما كان لنا أن نهرب من مصيرنا المحتوم أبداً، فما جرى هو نتيجة تراكم تاريخي وعجز عن الإجابة عن أسئلة الواقع وتحدياته، تتحمل مسؤوليته الثقافة والتاريخ والدين والبنية، الذي عمل الاستبداد على إفشال أي محاولات لإصلاحهم، أو إعادة قراءتهم، أو مراجعتهم، ليس لعاقل أن يتخيل، لو لم تقم الثورة، في أي درك من النفاق، وازدواج الشخصية، والتفكك الاجتماعي والرذيلة نحن فيه. ليس لأحدنا أن يتصور حجم النهب العام، وانسداد الفرص أمام أجيال وأجيال، أحلامها البسيطة في فرصة صغيرة عصية على التحقق.
ليس لمراقب أو مهتم أن يرسم صورة لمجتمع يغيب فيه القانون ويزداد فيه حجم الانتهاكات الأدمية والتجاوز على أبسط الحقوق، حتى غدا أقرب للقرون الوسطى، منه للقرن الذي نعيشه، ليس لأكثرنا فراسة أو نباهة كافية لكي يحيط بما كنا عليه، لا في الأدب، ولا الثقافة، ولا العلوم الإنسانية، لظلامية المشهد وسوداويته وفقدان أي أمل في التغيير، إزاء كل ذلك يصبح من العبث أن نسأل لماذا جرى كل ذلك ويجري، إنه نهاية حتمية وقدر مقدور.
قبل الثورة بسنوات صدر كتاب المؤرخ والباحث وأستاذ العلوم السياسية كارستين ويلاند، الاقتراع أم الرصاص، الذي ترجمه الى العربية الدكتور حازم النهار، بعد الثورة، وصدر عن دار الريس، تنبأ فيه الكاتب بالثورة، وحتميتها، ووضع سوريا أمام حتمية لا مفر منها، وهي المتمثلة بالثورة، بعد أن وضّح تماماً أن مشروع الأسد الابن يقوم على “عصرنة الاستبداد” على حد تعبير رايموند هينبوش في كتابه: ثورة من فوق، لذات المترجم وصدر عن ذات الدار، ماذا لو لم تقم الثورة سؤال افتراضي، خارج المنطق والتاريخ، وعوامل الصراع الكامنة في أعماق تربة المجتمع السوري، التي كانت تعتمل لدرجة حرارة البراكين والحمم، وبالتالي، يصبح من نافل القول، أنه لو لم تنطلق بالزمان والمكان اللذين حدثت بهما، كانت ستبدأ من مكان آخر وفي زمان غير بعيد.
ليس في التاريخ لو، كما في الواقع، والإجابة عن: ماذا لو لم تقم الثورة؟ ستكون ببساطة شديدة أننا على أعتاب ثورة، ما حصل هو تحصيل حاصل، وغير ذلك هراء، وإحالة لواقع غير الواقع الذي عاشه السوريون نصف قرن، من الاستبداد والفساد الذي يتكرس كل يوم، ولحظة، حتى بات معه السؤال، إلى متى وكيف، فكانت الإجابة الأبسط في تعبيرها لأطفال لم يؤتوا من العلم والحكمة والفلسفة كثيرا: الشعب يريد إسقاط النظام.
المصدر: مجلة الغربال