بدا الرجل الأصلع ضعيفاً ولا يمكنه أن يؤذي أحداً وهو جالس في قفص الاتهام خلف حاجز زجاجي في مدينة كوبلينز الألمانية حيث يلتقي نهر الراين بنهر موزيل. إلا أن المظاهر غشاشة، فأنور رسلان البالغ من العمر 57 عاماً، كان فيما مضى ضابط أمن في سوريا، ولهذا وجهت له تهمة تعذيب أكثر من أربعة آلاف إنسان وقتل ما لا يقل عن 58 شخصاً ما بين عامي 2011-2012 وذلك عندما عزم الديكتاتور الذي يحكم سوريا، بشار الأسد على سحق المظاهرات التي كانت سلمية في بداياتها، وذلك لأنها زلزلت نظامه مع انطلاق الربيع العربي.
وهكذا أصبح السيد رسلان قيد المحاكمة بسبب خطأ ارتكبه عن قناعة، وذلك عندما انشق عن النظام في عام 2012 والتحق باللاجئين السوريين الذين حطت بهم الرحال في ألمانيا، وهناك حاول أن يستقر مع أسرته في ضواحي برلين، إلى أن تعرف عليه مصادفة أحد ضحاياه، فأبلغ منظمة حقوقية عن مكانه.
وبتشجيع من المنظمات غير الحكومية، وعلى الأخص المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان في برلين، قامت السلطات القضائية في ألمانيا بتطبيق مبدأ الولاية القضائية الشاملة، والتي يمكن بموجبها توجيه اتهامات لمنتهكي حقوق الإنسان في أي دولة، بصرف النظر عن مكان وقوع الجرائم. وبناء على ذلك، تم اعتقال السيد رسلان في عام 2019، لتبدأ محاكمته في كوبلينز في نيسان عام 2020، وقد تمتد لأكثر من عام.
وسيتم استدعاء عشرات الشهود ليدلوا بشهاداتهم أمام خمسة قضاة ألمان، كما يمكن أن تعرض آلاف الصور التي جمعها مصور عسكري سوري خلال تلك المحاكمة. وقد وصف حفار القبور حالة ووضع مئات الجثث، التي شوهت في أغلب الأحيان داخل أقبية البناء الذي كان السيد رسلان يعمل فيه، ثم رمي بها إلى قبور جماعية. كما تم عرض قائمة بأساليب التعذيب المتبعة أمام المحكمة، وتتضمن الصعق بالكهرباء، واقتلاع الأظافر، والضرب بالكابلات والسياط، والتعليق بشكل مقلوب، وغمر الضحية بالماء البارد، والاغتصاب، إذ لا شيء أبشع وأكثر وحشية من كل ذلك.
تاريخ الولاية القضائية الشاملة
هذا وقد لفتت فكرة الولاية القضائية الشاملة انتباه العالم في عام 1998، عندما أخطأ رئيس تشيلي السابق المجرم أوغستو بينوتشيه فافترض أنه يتمتع بحضانة دبلوماسية، لكنه اعتقل في بريطانيا بطلب من قاض إسباني، وأعيد في نهاية المطاف إلى بلده. ومنذ ذلك الحين تسارعت الأمور، ففتحت قضية جديدة في الثالث من كانون الأول في محكمة بسويسرا، حيث يخضع عليو كوسيه وهو قائد عسكري ليبيري سابق للمحاكمة بسبب ارتكابه جرائم منها القتل الجماعي وتجنيد الأطفال خلال الحرب الأهلية التي قامت قبل أكثر من عشرين عاما في بلده.
وهذا يعني أن عدد القضايا التي تقوم على مبدأ الولاية القضائية الشاملة آخذ بالتزايد والارتفاع، إذ يرى الخبير الأرجنتيني ماكسيمو لانجير في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس بأن هنالك 815 قضية من هذا النوع أقيمت بين عامي 2008-2017، وهذا العدد مساو تقريباً لعدد القضايا من هذا النوع التي رفعت خلال العقدين الماضيين معا. إذ قامت 16 دولة على الأقل بعقد جلسات استماع لقضايا بموجب الولاية القضائية الشاملة، و71 من تلك القضايا قد حسم أمرها، ومعظمها صدرت فيها أحكام بالإدانة. في حين أن نحو 40% من المتهمين كانوا من أفريقيا، وربعهم من الشرق الأوسط، وخمسهم من أوروبا و8% منهم من آسيا. وقد تلحق مناطق أخرى بهذه العملية، إذ تسعى الأرجنتين لاستخدام هذه الأداة الفعالة، كما أن بعض الدول تسمح بإجراء محاكمات بناء على مبدأ الولاية القضائية الشاملة ولكن لا بد لتلك المحاكمات أن تكون غيابية.
110 قضايا في ألمانيا
هذا وتتصدر إسبانيا وبلجيكا عمليات متابعة القضايا بموجب الولاية القضائية الشاملة. في حين تتميز هولندا والدول الإسكندنافية عن غيرها من الدول بإجراء محاكمات لتلك القضايا. وهكذا تأتي ألمانيا في الطليعة. إذ بحسب ما أورده السيد باتريك كروكر من المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي ساعد ما لا يقل عن عشرة مدعين في محاكمة كوبلينز، فإن التحقيقات تجري اليوم حول 110 قضايا بموجب الولاية القضائية الشاملة في ألمانيا، ومعظم تلك القضايا تتصل بالعراق وسوريا (أي فيما يتعلق بنظام الأسد وتنظيم الدولة الذي قام الجهاديون فيه باتخاذ عبيد لهم). بيد أن قضية كوبلينز تعتبر الأولى من نوعها وذلك لأنه يمثل فيها أمام القضاء أحد أعوان النظام السوري ولو كانت رتبته متوسطة.
بيد أن الناشطين الحقوقيين لا يعتبرون الولاية القضائية الشاملة نظاماً ينافس المحاكم الدولية المتعددة التي تم إنشاؤها خلال العقدين الماضيين، والتي توجت بتشكيل المحكمة الجنائية الدولية، بل يرون أنها مجرد تتمة لكل ذلك. لكنها مفيدة؛ وذلك لأن المنظومة القديمة تشتمل على ثغرات، فعلى سبيل المثال وقفت دول قوية وهي الصين وروسيا في أغلب الأحيان في وجه تشكيل محاكم دولية تدعمها الأمم المتحدة بخصوص القضية السورية، وذلك لأن تلك القوى لا تحترم مبدأ الحقوق الفردية، وتسعى لحماية من يواليها. ولهذا وبحزن شديد أعرب المحامي الأيرلندي المدافع عن حقوق الإنسان فيرغال غاينور الذي يسعى لأن يصبح المدعي العام القادم في المحكمة الجنائية الدولية عن أسفه لما يجري وذلك عندما قال: “لقد منعت المحكمة الجنائية الدولية من التدخل في المسألة السورية، ولهذا لا بد أن يتدخل في تلك المسألة نظام عدلي شامل أكثر رحابة وأوسع من هذا”.
ومنذ بداية عملها في لاهاي عام 2002، ظلت المحكمة الجنائية الدولية حجر الزاوية بالنسبة لأي هندسة طموحة جديدة للعدالة الدولية، ثم إنها المحكمة الدائمة الوحيدة التي يتم من خلالها محاكمة كبار المجرمين مثل رؤساء الدول والحكومات عند ارتكابهم جرائم خطيرة تقوم على التعذيب وجريمة العدوان، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والإبادة الجماعية. ولقد وقع ثلثا دول العالم، أي ما لا يقل عن 123 دولة، بينهم 33 دولة أفريقية، على قرار تشكيل المحكمة الجنائية الدولية، والتي تقوم رسالتها الأساسية على حرمان أي رئيس من الاعتقاد بأن بوسعه الإفلات من العقاب.
بيد أن المحكمة الجنائية الدولية تعثرت بشكل كبير بسبب قضايا جيوبوليتيكية، إذ لا يمكنها أن تؤدي مهامها إلا عند التزام الموقعين عليها بواجباتهم التي تنص على اعتقال وتسليم المتهمين إلى لاهاي. إلا أن مجموعة من الدول المهمة التي تضم الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند رفضت التوقيع على قرار تشكيل هذه المحكمة، لأنها اعتبرتها تمثل انتهاكاً لسيادتها. وعليه يمكن إحالة القضايا للمحكمة الجنائية الدولية فقط من قبل مجلس الأمن الدولي أو بموافقة الدولة التي وقعت فيها تلك الجرائم. وحتى الآن قام مجلس الأمن بإحالة قضيتين فقط لتلك المحكمة، خلال اللحظات القصيرة التي قررت فيها كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا ألا تعرقل ذلك القرار. وعليه تم توجيه اتهام للرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب عملية إبادة جماعية بحق شعبه في جنوب بلاده، أي في دارفور. كما وجهت اتهامات للديكتاتور الليبي القذافي، عندما بلغ الربيع العربي أوجه، بقصف المدنيين في مدينة بنغازي.
الاقتصار على أفريقيا
لقد نجحت المحكمة الجنائية الدولية بإدانة عدد من كبار الرجالات غير أن جميعهم كانوا أفارقة. وهكذا خلصت العديد من الحكومات الأفريقية، التي كانت في بداية الأمر تتوق إلى رفع الأمور لتلك المحكمة بعد المجزرة التي وقعت في رواندا، إلى أن هذه المحكمة معادية للأفارقة، بالرغم من أن جميع القضايا الأفريقية، باستثناء القضية الليبية والسودانية، قد أحالتها حكومات الدول الأفريقية بنفسها إلى المحكمة الجنائية الدولية.
إذ بفضل وساطة الأمين العام السابق للأمم المتحدة، السيد كوفي عنان، الذي تعود أصوله إلى غينيا، اقتنعت الحكومة الكينية في عام 2011 بالسماح للمحكمة الجنائية الدولية بإدانة شخصيتين متنافستين بعد انتخابات توقفت بشكل دموي. وهكذا قامت تلك المحكمة بتوجيه اتهامات ليوهورو كينياتا وويليام روتو، اللذين أصبح الأول منهما رئيساً والثاني نائباً للرئيس فيما بعد، وذلك بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إلا أن تلك المحكمة قامت بإسقاط تلك الاتهامات لاحقاً. ولذلك يرى ريد برودي وهو محام أميركي مختص بحقوق الإنسان بأن: “المحكمة الجنائية الدولية لم تستطع مضاهاة الحكومة الكينية التي سيطرت على كل شيء، إذ سيطرت على البلد وعلى الشهود وعلى الأدلة، وهكذا أسقط في أيدي العاملين في لاهاي ولم يعد بوسعهم أن ينتصروا في تلك المعركة” وهذا بحد ذاته يعتبر إهانة بحق المحكمة الجنائية الدولية.
كما أن عدم قيام الدول بإلقاء القبض على الرئيس السوداني عمر البشير وهو يتجول بين الدول الأفريقية، حتى بعد توقيعها على قرار تشكيل المحكمة الجنائية الدولية، يذكرنا مرة أخرى بعدم وجود أية صلاحيات لتلك المحكمة، خاصة بعدما فرشت دولة جنوب أفريقيا السجاد الأحمر للبشير عند استقباله. وثمة نقطة سوداء أخرى في تاريخ تلك المحكمة، وذلك عندما قامت بتبرئة لوران غباغبو رئيس ساحل العاج الأسبق من تهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بعد ثماني سنوات من محاكمته.
إلا أن مناصري تلك المحكمة يوردون غيرها من المحاكم التي دعمتها الأمم المتحدة والتي أقامت العدل بالنسبة للكثير من الضحايا الذين عاشوا فظائع وجرائم خلال تفكك يوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي وكذلك خلال مجزرة رواندا التي قتل فيها 500 ألف إنسان بواسطة فؤوس وذلك في العام 1994. فقد صدرت أحكام على قرابة 90 مجرما يوغوسلافيا و61 راونديا تقضي بحبسهم وكانت معظم الأحكام بالسجن المؤبد. وآخر استئناف تقدم به راتكو ملاديك وهو جنرال أشرف على المجزرة التي قتل فيها 7 آلاف رجل وصبي بوسني مسلم في سربيرنيتشا عام 1995، ستعقد من أجله جلسة استماع في عام 2021، لتنتهي بذلك عملية المقاضاة التي استغرقت جيلاً كاملاً.
وفي الوقت الذي تعاني فيه المحكمة الجنائية الدولية، أثبتت غيرها من المحاكم الهجينة فعالية أكبر، والتي تبنت مزيجاً من الأنظمة القضائية الخاصة التي تعمل تحت إشراف مجموعة من القضاة المحليين والأجانب. وحول ذلك يخبرنا سيرغي براميرتز الذي شغل منصب المدعي العام لفترة طويلة في محكمة يوغوسلافيا، فيقول: “أبداً لن تكون المحكمة الجنائية الدولية هي الحل لكل انتهاكات حقوق الإنسان. وبما أنني أؤمن بالنظام الانتقائي لهذا أرى بأن المحكمة الجنائية الدولية تلعب دوراً مهماً وليس حصرياً”.
اخلط ثم نسق
لعل ذلك يمثل أفضل طريقة لمتابعة العمل، فقد ترأس السيد برودي حملة ناجحة لإدانة حسيني هبري رئيس تشاد السابق الذي ارتكب مجازر جماعية، ثم هرب ليعيش في منفاه بالسنغال، وهناك تمت محاكمته وحكم عليه بالسجن المؤبد في عام 2016 وذلك على يد محكمة أفريقية خاصة دعمتها الأمم المتحدة. ففي تلك القضية، بالرغم من أن العدالة تحققت بفضل محكمة خاصة، فإن العملية القضائية ضد السيد هبري بدأت بموجب الولاية القضائية الشاملة التي تبنتها بلجيكا، التي توددت في نهاية الأمر إلى الحكومة الجديدة في السنغال، التي يدعمها الاتحاد الأفريقي، فأقنعتها بتشكيل محكمة خاصة لتلك الغاية. ولهذا يرى السيد برودي بأن حادثة بينوتشيه التي مثلت سابقة حينئذ تحولت إلى مصدر إلهام بالنسبة لضحايا هبري من التشاديين فيما يتعلق بتحقيق العدالة.
هذا وتوضح قضية أخرى قامت مؤخراً الفعالية الدائمة للمحاكم التي تدعمها الأمم المتحدة. إذ كان لدى فيليسيان غابوغا محطة إذاعية في راوندا أسهمت في تدبير المجزرة، وذلك عندما حرضت الجار على قتل جاره. بيد أنه هرب من الاعتقال طيلة 26 عاماً، فقد وجد أحد الوشاة الذين حاولوا أن يرشدوا الشرطة إلى مخبئه في كينيا غارقاً في دمه وذلك في عام 2003. إلا أن هذا الرجل ألقي القبض عليه بالقرب من باريس خلال شهر أيار المنصرم، إذ ظل يقيم هناك باسم وهوية مزورين، وبعد ذلك تم تحويله إلى المحكمة الجنائية الدولية. كما يمكن إحالته إلى مدينة أروشا التنزانية حيث تولت آلية خاصة مهام محكمة رواندا (التي أغلقت في عام 2015)، وذلك لتقوم بمحاكمة آخر من تبقى من المجرمين الذين ارتكبوا تلك المجزرة.
أنياب أقل مما هو ظاهر
لقد رفضت الولايات المتحدة التي كانت خلال ولاية أوباما عضواً فاعلاً ومؤثراً في مجلس حقوق الإنسان والمشاركة في ذلك المجلس خلال ولاية دونالد ترامب. بيد أن هذا المجلس، بالرغم من عيوبه، مفيد، وذلك لأن نظامه القائم على مراجعة دورية شاملة يضع كل دولة في دائرة الضوء كل أربع سنوات. كما أن تفويضات التحقيق الذي بوسع هذا المجلس أن يصدر أمراً للبدء بها وضعت في كثير من الأحيان أسس العمل من أجل تحقيقات أخرى، أجرتها في بعض الأحيان هيئات ذات أنياب أكثر وأكبر. أضف إلى ذلك أن المقررين الخاصين والخبراء المستقلين الذين يزيد عددهم على 50 والذين يعملون لصالح هذا المجلس كتبوا غير مرة شروحا مفصلة وحادة حول عمليات التعذيب والاختفاء القسري والإعدامات الميدانية، إلى جانب تطرقهم إلى موضوعات أكثر غموضاً مثل سوء المعاملة التي يتلقاها من يعانون من مرض المهق أو الجذام.
وفي عام 2005 أقرت الأمم المتحدة مبدأ “مسؤولية الحماية” في قضايا الإبادة والجرائم الجماعية، لتبرر بذلك فكرة التدخل العسكري الحر. إلا أن هذا المبدأ طوي ولم يستخدم إطلاقاً، وذلك نظراً لاحتمال قيام كل من الصين وروسيا بعرقلة أي اقتراح من هذا القبيل يمكن أن يعرض على مجلس الأمن.
إلا أن الحكومات التي تهتم بحقوق الإنسان أصبحت أكثر دهاء في الالتفاف حول تلك العقبات. إذ بالرغم من عدم وجود أي دليل على قرب انهيار نظام الأسد، فإن كماً كبيراً من الأدلة التي تدينه قد تم جمعه، وقد تستخدم تلك الأدلة في المحاكم يوماً ما ضد كبار الأوغاد الذين عملوا لصالح النظام. فقد قيل بأن لجنة العدالة والمساءلة الدولية وهي منظمة غير حكومية مقرها في هولندا والتي شاركت في قضية كوبلينز، قد قامت بجمع 800 ألف وثيقة تجرم الأسد وجلاوزته.
وثمة طريقة أخرى للالتفاف على الجهات التي تضع عقبات أمام حماية حقوق الإنسان وتتمثل بالعمل من خلال الجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة بدلاً من مجلس الأمن الدولي. فالقرار الذي تقدمت به دولة ليختنشتاين الصغيرة في عام 2016 دفع إلى تشكيل آلية دولية محايدة ومستقلة للتحقيق في الجرائم المرتكبة في سوريا منذ عام 2011. وحتى تظل في الطليعة، قامت دولة غامبيا الصغيرة أيضاً بانقلاب قضائي مماثل، وذلك بعدما أصدر مجلس حقوق الإنسان قراراً في عام 2018 يقضي بتشكيل آلية تحقيق مستقلة من أجل ماينمار. إذ حصدت غامبيا دعم منظمة التعاون الإسلامي التي تضم 57 دولة وذلك لرفع قضية ماينمار إلى محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، والتي تعدّ أعلى محكمة دولية يمكن للدول التنازع إليها، وذلك حتى تقوم تلك المحكمة بالنظر في قضية سوء التعامل مع أقلية الروهينغيا المسلمة. وفي شهر أيلول الماضي، أعلنت هولندا عن عزمها على محاسبة سوريا أمام محكمة العدل الدولية وذلك بسبب الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت في سوريا بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب.
ولكن هل تعدّ هذه المجموعة من المحاكم والقوانين والتقارير التي تسمي الحكومات والأشخاص وتلصق بهم وصمة العار رادعاً حقيقياً؟ “يستحيل إثبات العكس” بحسب رأي أندرو غليمور، وهو نائب سابق لرئيس اللجنة العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، إلا أن هذا الرجل يتابع بالقول: “ولكن بلى، فهم يرفضون ذلك، بما أنهم يكرهون أن يوصموا بالعار”، إذ قال ذلك وهو يستشهد بالمدى الذي تذهب إليه بعض الدول مثل الصين لتمنع الآخرين من وضعها تحت المراقبة والمحاسبة. أما الأمير زيد رعد الحسين، المفوض السامي السابق لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة فيرى: “إنه لهراء أن يتفوّه شخص ما بأنه لا يهتم بذلك”، ثم يضيف وكله أمل بأن: “يأتي ذلك اليوم الذي ستتحول فيه المحكمة الجنائية الدولية إلى محكمة قوية وذات نفوذ”.
وعلاوة على ذلك، ثمة إشارات توحي بأن الدول الضعيفة التي كانت تخضع للصين في محافل مثل مجلس حقوق الإنسان لم تعد تفعل ذلك. ولكن ثمة خلاف يطهى على نار هادئة بالنسبة للانتخابات التي سيجريها المجلس لتعيين رئيس جديد من مهامه رسم جدول أعمال للمجلس، إذ يبدو أن الصين عازمة على منع فيجي من الوصول إلى هذا المنصب، كونها ستأخذ حقوق الإنسان على محمل الجد إذا فازت بمنصب رئاسة المجلس. ولهذا تعمل الصين على الترويج لمرشح مرن حسب مفهومها ألا وهو البحرين، ولكن قبل خمس سنوات من الآن كان بوسع الصين أن تسود المجلس بكل سهولة، أما اليوم فلا يمكنها ضمان ذلك.
العودة إلى المسار
في الوقت الذي لم يهتم فيه ترامب بحقوق الإنسان إلا لماماً، يثق المدافعون عن حقوق الإنسان بأن الرئيس جو بايدن لا بد أن يعززها ويشجع عليها، إلا أنه من غير المرجح أن يقوم هذا الرجل بالعودة إلى المحكمة الجنائية الدولية، مع احتمال قيامها بالتحقيق مع ربيبة أميركا، أي إسرائيل، أو محاسبتها لأميركا نفسها على الجرائم المرتكبة في أفغانستان. ولكن من المحتمل أن يقوم بايدن بإلغاء الأمر التنفيذي الغريب الذي أصدره ترامب والقاضي بفرض عقوبات على العاملين في المحكمة الجنائية الدولية، ويشمل ذلك المدعي العام فيها السيدة فاتو بينسودا، وذلك في حال زيارتهم لأميركا. أي أن الولايات المتحدة قد تقوم بدعم المحكمة الجنائية الدولية مجدداً ولكن بشكل ضمني، كما سبق لها أن فعلت في الماضي. وقد يسعى الرئيس بايدن للعودة إلى الانضمام لمجلس حقوق الإنسان، الذي كانت أميركا تتزعمه أيام أوباما.
ويرى المدافعون عن حقوق الإنسان بأن وجود شبكة دائمة من المحاكم ونشر فكرة الولاية القضائية الشاملة يرفع من مستوى الآمال والتوقعات، إذ يرى مارك ليمون من منظمة الحقوق العالمية وهي عبارة عن مركز أبحاث مقره في جنيف، بأن: “الأمور تتخذ مساراً رائعاً، لكننا بحاجة إلى مجموعة من الأدوات”، ثم أشاد بالاتحاد الأوروبي والعديد من الدول لقيامها بسن قوانين ماغنيتسكاي (التي تحمل اسم محاسب ضريبي قتل لفضحه أساليب الاحتيال التي تمارسها الحكومة الروسية) والتي تعمل على ملاحقة الأشخاص الذين ارتكبوا انتهاكات لحقوق الإنسان أو مارسوا عمليات فساد على نطاق واسع. أما السيد برودي الذي يسعى لتقوم غينيا الاستوائية بتسليم الديكتاتور الغامبي السابق يحيى جامح حتى يواجه اتهامات بضلوعه بالاشتراك والتواطؤ في عمليات قتل، فيرى بأن: “الأجواء مختلفة تماماً”.
في حين أن السيد ستيفان راب الذي انتدبه أوباما من أجل قضايا جرائم الحرب والذي يصف نفسه بأنه معجب بالولاية القضائية الشاملة وبالمحاكم الهجينة، يعتقد أنه: “ثمة مجموعة كاملة من الأمور التي تحدث والتي تجعل من فكرة إقامة العدل على المستوى الدولي أمراً ممكناً”. وهنا لا بد من الصبر، إذ ها هو البشير قد أودع في السجن منذ أن أطيح به في عام 2019، وقد يخضع هذا الرجل للمحاكمة أيضاً، ومن الممكن أن يتم ذلك عبر محكمة هجينة تقام في السودان. أما أنور رسلان، رجل الأمن السوري الذي يخضع للمحاكمة في كوبلينز، فهو لا يمثل ذلك النوع من الشخصيات المهمة التي عقدت المحكمة الجنائية الدولية العزم على حبسها مدى الحياة. ولكن بالنسبة لضحايا التعذيب في سوريا، تعتبر هذه المحاكمة خطوة تحظى بترحيب كبير. وهكذا ستبقى الأدلة قيد الجمع، ويعود الفضل في ذلك إلى الولاية القضائية الشاملة التي اعتمدت في ألمانيا وغيرها من الدول، ما يعني بأن الأسد لن ينعم بالإفلات من العقاب على ما اقترفت يداه إلى الأبد.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا/ إيكونومست