حملت السنوات التسع الماضية ما يكفي من دلالاتٍ للسوريين على أن التدخل الدولي المنشود لإنهاء الصراع في سورية ليس من ضمن خيارات جميع الأطراف المعنية بالملف السوري، بما فيها التي تحولت من داعم لأحد طرفي الصراع (النظام والمعارضة) إلى شركاء أو مستثمرين في الصراع. وزاد من احتمالية ترك سورية خارج القرار الدولي الفعلي لوقف المأساة تشتت الطرفين المحليين وانقسامهما إلى عددٍ يتوالد مع طول أمد الصراع، وفتح بازارات المصالح الدولية والإقليمية في سورية.
لم تعد سورية (النظام) كذلك كتلة موحدة تقف بحماية الواجهة الإيرانية، كما هو الحال قبل التدخل الروسي المباشر عام 2015، وهي أيضاً ليست سورية الأسد المتماسكة تحت ظل الحماية الروسية، بل هي انقساماتٌ بين التبعيتين محلياً، كما هو حال الملف السوري على طاولات الحوار الأممي الذي ينظر إلى الحل في سورية من زوايا المصالح مع كل من إيران وروسيا، وكما تعاينه الولايات المتحدة الأميركية ملفا تحدّده زاوية الانفراج مع الملف النووي الإيراني، أو زاوية الانعكاس مع العلاقة الأميركية – الروسية.
الرهان الإيراني اليوم، على واقعة عودة الديمقراطيين إلى الحكم في البيت الأبيض، يحمل أكثر من بعد في تحسين العلاقات البينية الأميركية – الإيرانية، وهو لا ينطلق فقط من أنها عودة إلى ما قبل السنوات الأربع لإدارة الرئيس دونالد ترامب المنتهية ولايته في 20 يناير/كانون الثاني الحالي، وطي صفحة الردع الإسرائيلي لأدوارها في المنطقة، بل هي مبنيةٌ أيضاً على عمق التفاهمات السابقة للديمقراطيين في الملف النووي، ونقاط تحوّل العلاقة غير المباشرة بين الطرفين، إلى أدوارٍ تكامليةٍ قد تصل إلى ممارسة إيران دور الشرطي الأميركي في سورية وعموم منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يؤشّر إليه الخوف الخليجي الذي تظهر ملامحه تارة باللجوء إلى إسرائيل منقذا، أو بالبحث عن تقاطعاتٍ تقرّبهم من الحوار مع إيران وتركيا لتجنب مفاعيل أدوارها القادمة عليهم.
ومن جهة ثانية، تراهن إيران أيضاً على موقف الحكومات الأوروبية الغارقة في مشكلاتها الاقتصادية، والضغوط الشعبوية عليها الرافضة للاجئين، وتداعيات جائحة كورونا، وتعرف حقيقة موقفها من القرارات الأميركية “الترامبية” وعقوباتها على إيران. وقد دفعت الدول الأوروبية الشريكة في الاتفاق أثمانا باهظة لتلك العقوبات، واضطرارها إلى الانسحاب من الاستثمارات الكبيرة في إيران أو معها، بل ترى أوروبا أن الانسحاب الأميركي كان متنفساً لإيران للمضي في تطوير منظومتها النووية والصاروخية، وهي ترى في العودة إلى اتفاق 2015 (5 زائد 1) الباب الوحيد الذي يمكن، من خلاله، فتح المفاوضات لتهذيب السلوك الإيراني، وضغط طموحاته النووية، وتعليبها في إطار الاتفاق القابل للتطوير.
وبذلك، ترى إيران بقاء اللاحل في سورية (أي بقاء الوضع على حاله في سورية) هو الحل الحقيقي الذي يمكّنها لاحقاً من صناعة أقلّ من تسوية، وأكثر من اتفاق وتوافق تضمن به وجودها الفاعل والمؤثر في سورية وجوارها لبنان، وهو ما عملت عليه منذ بدء التفويض الأميركي لروسيا بالملف السوري، واتفاق وزيري خارجية البلدين، جون كيري وسيرغي لافروف، في سبتمبر/أيلول 2016، حيث عملت على تعطيل وانتهاك كل عملية وقف إطلاق نار أو تسوية، حتى تلك التي هي طرفٌ فيها، كما هو الحال في اتفاقات أستانة التي أبقتها كقميص عثمان ترتديه وقت تشاء، شريكة في الحل، أو تخلعه حين الحاجة معطّلة له.
استنفذت روسيا، خلال السنوات الأربع الماضية، فرصها في إلزام الأطراف السورية بحل توافقي يجمعهم (معارضات ونظاما) في حكومة واحدة، تسرّع من عملية البدء في إعمار سورية لتعويض خسائرها، بعد أن كانت شريكةً فعليةً في تقويض نفوذ إيران، من خلال إبعادها عن طاولة المفاوضات الدولية بشأن سورية، واستفرادها على مدار السنوات الماضية بتمثيل النظام في المحافل التفاوضية، وكانت تأمل في أن تكون سورية ورقة “تقايض” بها على ملفاتها الأوروبية والأميركية، ولكن عدم تمكّنها من استعادة كامل الأراضي السورية، ومنها إدلب، إلى النظام السوري، من بوابة اتفاقات آستانة، واستهانتها بالمطامع التركية في سورية، أعادها إلى نقطة البداية التي تجعل منها شريكةً لإيران في سورية، وليست بديلا عنها.
ليست روسيا، بواقع وجودها الحالي في سورية، طرفاً ضعيفاً، ولكنها ليست الطرف الأقوى في ظل الانفتاح الإيراني – الأميركي المرتقب، وهي تدرك أن مساحتها في سورية في عهد ترامب ليست المساحة نفسها في عهد الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن. ولهذا، قد تأخذ مصالحها الاقتصادية والعسكرية ضماناتٍ أكبر بوجود حل سياسي للمأساة السورية تحت قرار مجلس الأمن 2254. ومقدّمة لذلك، ستتصاعد في روسيا استعادة التصريحات أن الحل في جنيف، وليس في مكان آخر، وستعود موسكو إلى تشجيع جلسات اللجنة الدستورية كمؤقت لضبط النفس، بينما تتضح لديها الرؤية عن السياسات الأميركية في سورية، وإذا ما كانت الإدارة الجديدة ستمدّد لها صلاحية الحركة في الأجواء السورية، لصياغة تسويةٍ قابلة للتطوير في اتجاهين: لمصلحة تثبيت النظام قوة مطلقة تحت وصايتها، مع تعديلات للسماح للمعارضة بمشاركة وهمية غير فاعلة. أو لمصلحة تشذيب سلوك النظام أو تنظيفه، سواء من أعلى قمته، أو من أوسطها كما هو مطروح الآن، وإدخال تعديلاتٍ تسمح بتغيير شكل الحكم ونوعه، بما يتوافق ودستورها المقترح للمعارضة في العام 2016، وبما يضمن المصالح الكردية التي تحميها الولايات المتحدة في سورية، وبعض مصالح المعارضة السورية.
بينما سيكون “اللاحل” في سورية هو سيد الموقف، في حال كان تفاؤل إيران بديمقراطي البيت الأبيض (بايدن) في مكانه، بحيث تبسط إيران كامل سيطرتها على واقع سورية، وتطوّق مصالح روسيا داخل قواعدها واتفاقاتها الاقتصادية، وتمضي بالنظام السوري، وعلى رأسه بشار الأسد، إلى ما هو أقل من إصلاح، يتعكّز عليه أمام المجتمع المحلي، خلال ولايته الجديدة التي تبدأ منتصف هذا العام، ويقود خلالها العملية السياسية لإصلاح الدستور مع “كيانات المعارضة”، على مدار الأعوام السبعة المقبلة.
ربما كانت روسيا أهون الشرّين في قراءة المشهد السوري، إذا توفرت للسوريين معارضة وطنية بمشروع حقيقي وأجندة سورية، تفاوض من أجل مصالحهم، وليس على مصالحهم، وتضع المجتمع الدولي أمام خيارٍ واحدٍ، وهو القبول بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وبناء مستقبلها، ولو كان ذلك على حساب القبول بحلولٍ تراكميةٍ مفتوحةٍ على التغيير والإصلاح، وليست بيد أيٍّ من الأطراف الساعية إلى تقاسم سلطةٍ حاليةٍ استبداديةٍ محصنةٍ بالحديد والنار والسجون.
المصدر: العربي الجديد