المنطقة التي صنعتها الثورة المضادة
لم تكن الجماعات الإسلامية وحدها هي التي رأت حظوظها وهي تأخذ منعطفات حادة في أعقاب الانتفاضات العربية. بدا أن تطلعات المحتجين الديمقراطية تؤذِن بدور جديد للولايات المتحدة -واحدٍ ربما يفي بمضامين خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما الشهير في القاهرة، والذي كان يعِد بـ”بداية جديدة” للعلاقات الأميركية مع المنطقة. لكن الواقع، في الحقيقة، كان مختلفًا كثيرًا.
تحدت الانتفاضات العربية النظام المدعوم من الولايات المتحدة بالكامل، ما أدى إلى تسريع انسحاب واشنطن من المنطقة. ويعود فك الارتباط الأميركي مع المنطقة إلى العديد من الأسباب، بما فيها الفشل الذريع الذي مُني به مشروع غزو العراق في العام 2003، والتحولات في الاعتماد على الطاقة، والحاجة الاستراتيجية إلى التوجه نحو آسيا، والنفور الداخلي من الحروب البعيدة. لكن الانتفاضات قوضت بشدة التحالفات الأساسية للولايات المتحدة، وشجعت القوى المحلية على انتهاج سياسات تتعارض مع سياسات واشنطن، ودعت المنافسين العالميين، مثل الصين وروسيا، إلى منطقة كانت أحادية القطب ذات مرة.
ربما كان احتضان الولايات المتحدة للانتفاضات بطريقة أكثر قوة سيساعد على ترسيخ المزيد من التحولات الديمقراطية. لكن جهود إدارة أوباما أثبتت كونها فاترة وغير فعالة، وتركت النشطاء وهم يشعرون بالتخلي عنهم، بينما جعلت الحلفاء المستبدين يشعرون بأنه يتم التخلي عنهم هم أيضاً في الوقت نفسه. وأدى إحجام الإدارة عن التصرف بقوة أكبر في سورية وسعيها الحازم للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران إلى مزيد من نفور شركاء الولايات المتحدة في المنطقة. ونتيجة لذلك، خلال معظم العقد الماضي، عمل حلفاء الولايات المتحدة المفترضون في المنطقة ضد السياسات الأميركية، بشكل علني في كثير من الأحيان.
وفي المقابل، شاركت إدارة ترامب هؤلاء الحلفاء في النظرة العالمية، بما في ذلك ازدراؤهم للديمقراطية العربية والصفقة الإيرانية. لكن سياساتها أثبتت أنها لم تعد مطَمئنة في كثير من الأحيان. وكان عدم رد الرئيس دونالد ترامب على الهجوم الصاروخي الإيراني في العام 2019 على مصفاة بقيق النفطية السعودية، على سبيل المثال، والذي أدى إلى تعطيل ما يقرب من خمسة في المائة من إنتاج النفط العالمي، موقفاً صدم المنطقة. وفي معظم القضايا الإقليمية، بدا أن الولايات المتحدة في عهد ترامب لا تمتلك أي سياسة على الإطلاق. وبينما يتلاشى الوجود الأميركي في المنطقة، كانت قوى الشرق الأوسط عاكفة على تشكيل نظام جديد خاص بها.
بعض أجزاء هذا النظام الإقليمي البديل مألوفة. كان موت حل الدولتين الإسرائيلي-الفلسطيني قادماً على الطريق منذ وقت طويل. وانتشر الصراع بين إيران وخصومها من العرب السنة مثل السرطان، لكنه ظل يتبع خطوطًا مألوفة منذ الأعوام الأولى من القرن. وزادت إيران من استخدام القوى بالوكالة، خاصة في العراق وسورية، واحتفظت بنفوذها الإقليمي على الرغم من انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي وحملة “الضغط الأقصى”. وأرسل هجوم طهران على بقيق رسالة إلى دول الخليج مفادها أن أي صراع محتمل سيكون مكلفًا. بل إن حملة الهجمات المستمرة على القوات الأميركية في العراق التي تشنها الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران دفعت وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى التحذير من أن الولايات المتحدة قد تتخلى عن سفارتها في بغداد -وهو حلم يراود إيران منذ وقت طويل.
كان التغيير الحقيقي في المنطقة بعد الانتفاضة هو ظهور خط صدع داخل العالم السني نفسه، والذي يمتد عبر الخليج والشام وشمال إفريقيا. ومع وجود الولايات المتحدة إما على الهامش أو مهووسة بإيران، خاض السنة الطامحون إلى القيادة العربية صراعات بالوكالة عبر الخريطة الإقليمية برمتها. ودعمت هذه الكتل السنية المتنافسة جماعات متنافسة في كل عملية انتقال سياسي وحرب أهلية تقريبًا، محولة التنافسات السياسية المحلية إلى فرص لخدمة التنافس الإقليمي. وكانت الآثار مدمرة: تمزُّق السياسة المصرية والتونسية؛ وانهيار المرحلة الانتقالية في ليبيا ما بعد القذافي؛ وانقسام المعارضة السورية.
لا شيء يجسد الأنماط الفوضوية لهذا الشرق الأوسط الجديد متعدد الأقطاب أفضل من الخلاف السعودي الإماراتي مع قطر في العام 2017، والذي حدث ردًا على دعم قطر المفترض لجماعات إسلامية. وقد أثر الخلاف الدبلوماسي على مجلس التعاون الخليجي الذي كان في يوم من الأيام أكثر الهيئات متعددة الأطراف فعالية في المنطقة، وأعاق جهود الولايات المتحدة لبناء جبهة موحدة مناهضة لإيران. وبدلاً من الخضوع للضغوط، اعتمدت قطر ببساطة على الدعم الإيراني والتركي والحماية الأميركية (تستضيف الدوحة قاعدة العديد الجوية الضخمة التي تستخدمها الولايات المتحدة)، وعلى مواردها المالية الهائلة. وقد استقر هذا الحصار في نهاية المطاف على واقع جديد شبه دائم، لكنه ليس خطيرًا بشكل خاص؛ حيث تدور التوترات في الغالب من خلال المنافسة بالوكالة في ليبيا والسودان وأماكن أخرى. ويُظهر عدم قدرة الولايات المتحدة على إجبار حلفائها على حل خلافاتهم والتعاون ضد إيران مدى تراجع نفوذها في المنطقة منذ العام 2011.
علاوة على ذلك، دعا هذا الخلاف الخليجي الداخلي إلى ظهور مسعى تركي جسور إلى قيادة المنطقة. في شمال سورية، أعاد الجيش التركي ترسيم حدود المنطقة بحكم الأمر الواقع، ومارس ضغوطًا على الوحدات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، والتي كانت كافية لإجبار القوات الأميركية على الانسحاب. وأتْبعت تركيا هذا النجاح بتدخل عدواني في ليبيا بهدف مواجهة ما تعتبره دعما مصريا وإماراتيا لخليفة حفتر، قائد القوات العسكرية المعارضة للحكومة المؤقتة التي تعترف بها تركيا وقوى أجنبية أخرى. وكان التوسع العسكري التركي، ودعم الجماعات السنية التي تخلت عنها الدول العربية الراعية، كلها عوامل أدت إلى ظهور محور إقليمي جديد شق طريقه عبر القسمة الشيعية-السنية.
كانت الولايات المتحدة غير مرئية تقريبًا في معظم هذه الصراعات. في عهد ترامب، الذي ركزت إدارته على إيران ولم تكن مهتمة بالفروق الدقيقة في السياسة الإقليمية، اختفت واشنطن إلى حد كبير كجهة فاعلة رئيسية، حتى في مناطق مثل العراق وسورية، حيث ما تزال القوات الأميركية منتشرة. وبعيدًا عن تشجيع التغيير الديمقراطي -أو حتى الدفاع عن حقوق الإنسان- اختار ترامب بدلاً من ذلك الاعتماد على شركاء الولايات المتحدة في المنطقة لتشكيل تحالف عريض ضد إيران. ومع ذلك، في غياب الوساطة الأميركية في أماكن أخرى، أدت تدخلات الجهات الفاعلة الإقليمية إلى إطالة أمد النزاعات القائمة، مع القليل من الاهتمام بمعاناة الناس الموجودين على الأرض. وعلى الرغم من أن المتقاتلين ضيعوا منذ فترة طويلة هدفهم الأصلي، فإن العنف الراسخ ما يزال مستمراً من خلال التدخل الإقليمي واقتصاديات الحرب المحلية.
ما الذي سيأتي
على الرغم من نعي الانتفاضة العربية السابق لأوانه وإرثها المظلم، لم تكن الموجة الثورية للعام 2011 مجرد سرابٍ عابر. الآن، بعد عشرة أعوام، شرعت الواجهة الاستبدادية للمنطقة في التصدُّع مرة أخرى. وأدت انتفاضات كبرى مؤخرًا إلى منع إعادة انتخاب الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، وأفضت إلى الإطاحة بالزعيم السوداني الذي حكم لفترة طويلة، وتحدت الأنظمة السياسية الطائفية في العراق ولبنان. ولا يكاد يتمكن لبنان من تشكيل حكومة بعد عام من الاحتجاجات والكارثة المالية وتداعيات انفجار غير مفهوم في ميناء بيروت. كما شهدت بعض الدول انفتاحاً جديداً وعرضت رغبة في التغيير.
بدت هذه الأحداث في البداية محيرة. ألم يكن من المفترض أن يعيد انتصار حكاما مستبدين الاستقرار لأنظمتهم؟ ألم تكن الجماهير العربية مهزومة ومرهقة ويائسة؟ في واقع الأمر، لم يكن ما بدا وكأنه النهاية سوى منعطف آخر فحسب من دورة لا هوادة فيها. في الحقيقة، كانت الأنظمة التي يُفترض أنها توفر الاستقرار هي الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار. كان فسادها، واستبدادها، وحكمها الفاشل، ورفضها الديمقراطية، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان هي التي دفعت الناس إلى الثورة في المقام الأول. وبمجرد أن بدأت الانتفاضات، أدى القمع العنيف الذي تعرضت له إلى تأجيج الاستقطاب الداخلي والحروب الأهلية، وهو ما أفضى بدوره إلى تفاقم الفساد والمشاكل الاقتصادية. وبذلك، بما أن هذه الأنظمة تشكل العمود الفقري للنظام الإقليمي، فلن يكون هناك استقرار.
الآن، يبدو اندلاع المزيد من الاحتجاجات الجماهيرية حتمياً لا مفر منه. ثمة، ببساطة، الكثير من المحركات لعدم الاستقرار السياسي، والتي تجعل من الصعب، حتى بالنسبة لأكثر الأنظمة قسوة، البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى. وقد أدى قدوم جائحة “كوفيد -19″، وانهيار أسعار النفط، والانخفاض الحاد في تحويلات العمال المهاجرين إلى زيادة الضغوط الجديدة المكثفة على الاقتصادات الضعيفة مسبقاً بطريقة كارثية. وتستمر الحروب المستعرة في ليبيا، وسورية، واليمن في إنتاج اللاجئين، والأسلحة والتطرف، بينما تجتذب التدخل الخارجي. ويمكن أن تسوء الأمور أكثر. فقد تتصاعد المواجهة الأميركية المتوترة مع إيران فجأة إلى حرب ساخنة؛ أو قد يؤدي انهيار للسلطة الفلسطينية إلى اندلاع انتفاضة أخرى.
هذا هو السبب في أن معظم الأنظمة في المنطقة، على الرغم من تأكيدها العنيد لنفسها، تشعر بانعدام الأمن بوضوح. الحكومة المصرية تسحق كل علامة محتملة لقيام اضطرابات شعبية. ولم تتعاف أنقرة أبدًا من صدمة محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016. وقادة إيران مهووسون بالمحاولات الخارجية لإثارة الاضطرابات في بلدهم، في حين يكافحون للتعامل مع العقوبات الاقتصادية. وما تزال الدول تعتقل المعارضين. وليست هذه كلها من سلوكيات الحكومات الواثقة. بالنسبة لهذه الحكومات، كان الدرس المستفاد من العام 2011 هو أن التهديدات الوجودية -مثل الديمقراطية- يمكن أن تظهر من أي مكان وفي أي وقت. ويدفعها جنون الارتياب، بدوره، إلى انتهاج السياسات نفسها التي تغذي مشاعر السخط الشعبي. وبفضل ما يقرب من عقد من القمع الحكومي المتزايد، لم يعد المجتمع المدني والمؤسسات السياسية التي قد توجه الإحباط الشعبي في العادة موجودة. وعندما يصل هذا الغضب حتمًا إلى درجة الغليان، فإن تجلياته ستكون أكثر دراماتيكية من أي وقت مضى.
من غير المرجح أن تشبه الاحتجاجات المستقبلية انتفاضات العام 2011. فقد تغيرت المنطقة كثيراً. لقد تعلم الأوتوقراطيون كيفية احتواء المتحَدّين، وإحباطهم وهزيمتهم. ومن غير المرجح أن تفاجئ الاضطرابات الداخلية أو العدوى الإقليمية الأنظمة في حالة من الغفلة وإهمال الحذر. ويغلب أن لا تمتنع الحكومات عن استخدام القوة ضد المواطنين في المراحل الأولى من الاحتجاج. لكن المتظاهرين المحتملين تعلموا أيضًا دروسًا قيمة. على الرغم من أن العديد من الجماهير العربية محبطة ومكسورة، إلا أن الحركات الثورية الأخيرة في الجزائر والعراق ولبنان والسودان أثبتت أن الانضباط والالتزام ما يزالان حاضرَين شعبياً. وفي جميع هذه البلدان الأربعة، أثبت المواطنون أنهم قادرون على إدامة التعبئة اللاعنفية لأشهر متتالية، على الرغم من القمع والاستفزازات.
كما أن البيئة السياسية في الشرق الأوسط أصبحت مستقطبة أيضًا في محاور متنافسة، بطريقة تحول دون وجود ذلك النوع من الهوية عبر-الوطنية التي سمحت للانتفاضات العربية بالانتشار بسهولة. الآن، على عكس العام 2011، لا يوجد جمهور عربي موحَّد. ووسائل الإعلام الإقليمية، التي كانت ذات يوم مصدرًا للوحدة، تفتتت. وأصبح يُنظر إلى القنوات الإعلامية المؤثرة الآن على أنها أدوات منحازة لخدمة سياسة البلدان التي تديرها، وليس كمنصة للنقاش المشترك. وفي الأثناء، تعرضت وسائل التواصل الاجتماعي العربية للاستعمار الكامل من خلال حرب المعلومات والروبوتات والبرمجيات الضارة، ما خلق بيئة سامة تكافح فيها التحالفات الجديدة العابرة للأيديولوجية من أجل الاندماج. لكن هذه الصعوبات، كما توحي التفاعلات بين المحتجين الجزائريين والسودانيين، وصلابة الحركات العراقية واللبنانية، تظل قابلة للتغلب عليها.
إضافة إلى ذلك، أصبحت البيئة الدولية اليوم، بالمقارنة مع العام 2011، أقل انفتاحًا على موجة ثورية جديدة، ولكنها أيضًا في وضع يجعلها أقل قدرة على منعها. وفي حين كافحت إدارة أوباما للتوفيق بين القيم الديمقراطية والمصالح الاستراتيجية، دعمت إدارة ترامب بالكامل حكاما وشاركتهم في وضع حد للاحتجاج الشعبي. ولن يتطلع أحد في الشرق الأوسط اليوم إلى واشنطن للحصول على إشارات أو إرشادات. وتفهم الأنظمة العربية والمتظاهرون على حد سواء أنهم سيكونون وحدهم.
لا يعني القول إن موجة أخرى من الانتفاضات مقبلة على الطريق المصادقة على نظرة حتمية للتاريخ، والتي ينتصر فيها الجانب المحق حتمًا. بعيداً عن ذلك، سوف تحدث الانتفاضات، وعندما تفعل، فإنها ربما تؤدي إلى تحطيم الأنظمة الحالية بطرق لم تفعلها في العام 2011.
ولكن، على الرغم من كل الإمكانات الهائلة غير المستغلة لشباب الشرق الأوسط، لا يوجد سبب وجيه للتفاؤل بشأن آفاق الشرق الأوسط. لن تكون هناك أي إعادة ضبط تلقائية سهلة عندما يتولى الرئيس المنتخب جو بايدن منصبه. من المرجح أن تقاوم المحاور الجديدة التي شكلها دونالد ترامب أي تغيير تدريجي في السياسة الأميركية. ولن تثق إيران بالتزام الولايات المتحدة في أي وقت قريب. ولن تتم إعادة بناء الدول الممزقة بسهولة. ولن يعود اللاجئون إلى بلدانهم في القريب. وسوف تستمر حركات التمرد في العثور على طرق لتجديد نفسها. وإذا لم يتم تعلم أي درس آخر من العام 2011، فلا بد أن يتعلم درس أن الشرق الأوسط بعيد كل البعد عن قدرة أي قوة خارجية على السيطرة.
*Marc Lynch: أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Arab Uprisings Never Ended: The Enduring Struggle to Remake the Middle East
المصدر: الغد الأردنية/ (فورين أفيرز)