تودّع تونس عام 2020 الصعبة على كل الصعد، وسط توقعات باستقبال عام أشد وأقسى، بحسب قراءات عدد من خبراء الاقتصاد وتحذيراتهم من مخاطر تُحدق بالبلاد وتهدد بجدية ما تبقى من مكاسب حققتها، بخاصة مع استمرار أزمة سياسية وسط حديث عن تحرك متوقع لرئيس الجمهورية قيس سعيّد بـ”تصور جديد” يقوم على الفرز وعلى إصلاحات سياسية قد تزيد من إرباك الوضع.
هناك إجماع في تونس على أن عام 2020 هو عام الهزات واللا استقرار، بل وحتى بداية انهيار اقتصادي واجتماعي غير مسبوق، ما قد يفسّر تعدد المبادرات للخروج من الأزمة، بلغ عددها تسعاً، أهمها مبادرة اتحاد الشغل، أهم منظمة وطنية في البلاد.
تعددت المبادرات والتصورات التي يذهب بعضها الى حد اقتراح تدخل الجيش وتفعيل الرئيس مختلف الأجهزة التابعة له، والتي تُمكنه مثلاً من وضع رجال أعمال وسياسيين مُتهمين بالفساد رهن الإقامة الجبرية الى حين ضبط الأمور وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها في غضون 90 يوماً بعد حل مجلس نواب الشعب عبر تقديم الحكومة الحالية استقالتها وعرض حكومة لا يقبلها أي مكوّن من مكونات البرلمان.
لكن مع انطلاق النقاشات في الحلول الممكنة للخروج من الأزمة المستفحلة سياسياً وتداعياتها على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، بينت النقاشات بين خبراء القانون الدستوري قصور دستور الجمهورية الثانية وافتقاده الآليات الدستورية التي تُمكن أي طرف، بمن في ذلك رئيس الجمهورية، من بلورة حل دستوري واقعي لا يُدخل البلاد في مغامرة مجنونة.
هذا المعطى زاد من التشاؤم مع إسدال ستار سنة 2020 على مبادرة، ربما تكون قاطرة إصلاحات طال انتظارها. وبات تعطيلها ينذر بالأسوأ على المستويات السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لذلك تعالت أصوات تدعو الى التسريع في البحث عن حلول تدشن مرحلة جديدة واضحة المعالم والأدوار، إلا أن العكس هو ما حصل تماماً.
فعلى المستوى السياسي، سجل آخر أسبوع من سنة 2020 إيقاف رئيس حزب “قلب تونس” نبيل القروي في قضية “تبييض أموال”، وطرح معه إمكان سقوط الحكومة التي يُعدّ القروي أحد عرابيها، وتُمثل كتلة حزبه في البرلمان (30 نائباً) أحد أهم داعميها. هذا الإيقاف زاد في إرباك المشهد وسط تساؤلات عن دور ما للرئيس سعيد، بخاصة أن الأخير لا يخفي موقفاً رافضاً لهذا الحزب وينعته بحزب “الفاسدين” ويتهمه ضمنياً بحبك المؤامرات في الغرف المُظلمة ويرفض رفضاً قاطعاً مشاركته في “حوار وطني” تشرف عليه الرئاسة.
وبرغم استبعاد مقربين من الرئاسة على غرار النائب زهير المغزاوي أن يكون هناك “دفع” من القصر الرئاسي لإيقاف نبيل القروي، فإن ذلك لم يكن كافياً لدحض هذه الفرضية التي يقول متبنوها إن الإيقاف يُمثل بداية عملية “الأيادي البيضاء” وحملة جديدة لمحاربة الفساد وأنها “بديل” الرئيس بعد تحفظه عن مبادرة اتحاد الشغل ولقائه الوزير السابق محمد عبو الذي كان قد دعاه الى التدخل والاستعانة بالجيش وبقوانين زجرية للتعجيل بفتح ملفات فساد، من جهة، وتكرار توعد سعيد بأنه سيتحمل مسؤوليته كاملة للرد على “جراد الفاسدين”، من جهة أخرى.
في الحصيلة، تبدو البلاد بلا بوصلة ولا قيادة سياسية، تتقاذفها الأمواج بسبب صراعات تشق أجنحة الحكم مع تواصل حالة التوتر بين الرئاسات الثلاث (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان) ونزاع حول الصلاحيات وبرلمان مشكوك في مشروعيته وبات يوصف بـ”حامي المارقين”، ودستور بلا إجابات عند كل أزمة تعيشها البلاد.
أما على المستوى الاقتصادي والمالي، فالحصيلة هي الأسوأ منذ 140 سنة، بحسب توصيف وزير الاقتصاد التونسي علي الكعلي. ومع حلول 2021 ستبحث الحكومة عن تعبئة ما يناهز الـ19 مليار دينار بعنوان قروض من السوقين الداخلية والخارجية، وهي عملية صعبة ـ بحسب خبراء اقتصاد تونسيين حذروا من عام مقبل أكدوا أنه سيكون قاسياً ومحفوفاً بمخاطر على استقرار البلاد، وحتى على أمنها القومي.
تونس مُهددة بالإفلاس برغم النفي الرسمي، وقد تكون عاجزة في السنة المقبلة عن الإيفاء بالتزاماتها إزاء الهيئات المالية المانحة والسقوط تبعاً لذلك في مسار “إعادة جدولة ديونها”، الموصوف هنا بالسيناريو الأسوأ.
وتأتي الأزمة الاقتصادية مع تتالي احتجاجات تسببت في تعطل مواقع الإنتاج، منها في الحوض المنجمي، كان من نتائجه لجوء تونس، لأول مرة في تاريخها، الى استيراد الفوسفات لإنقاذ الموسم الفلاحي، وهي التي كانت تُصنف حتى سنوات قريبة ثالث منتج عالمي للفوسفات، لكن فشل الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 2011 جعلها عاجزة عن إدارة ملف شركة “فوسفات قفصة” العمومية وإخماد نار الاحتجاجات التي عطّلت مختلف مراكز تحويل الفوسفات.
وتجلى هذا الانهيار بإعلان تونس صيف 2020 القوة القاهرة على السوق العالمية للأسمدة بعد عجز المجمع الكيماوي التونسي عن الإيفاء بتعهداته إزاء شركائه في الأسواق الأجنبية والسوق المحلية. وفي الفترة نفسها هددت شركات بترولية في جنوب البلاد بمقاضاة الدولة بسبب خسائر تكبدتها، مؤكدة بداية تسريح عمالها جراء اعتصام تواصل أشهراً.
على المستوى الاجتماعي، دخلت تونس في ما يشبه الدوامة بظهور أساليب لم تعرفها البلاد في طرق الاحتجاج، جاءت بعد “الكامورة” (نسبة الى اتفاق الكامور الذي وقعته الحكومة مع تنسيقية اعتصم أعضاؤها وأنصارهم لأشهر بعدما أغلقوا مضخة لضخ النفط وبات هذا “الغلق” سمة الاحتجاجات الجديدة غير المؤطرة تقودها تنسيقيات، وتعطلت معها مصالح المواطنين على غرار غلق معمل الغاز في إحدى المحافظات وبقاء جهات من دون غاز منزلي).
وشهدت سنة 2020 زيادة في نسب الفقر، وتقول آخر الإحصائيات إن ما يقارب ربع الشعب التونسي بات من الفقراء، وزادت أيضاً نسبة البطالة والأمية وعادت مظاهر “الجهوية” المقيتة و”العروشية” والقطاعية وانهارت المنظومة الصحية والخدمات والتعليم، ووضعت مختلف مكاسب دولة الاستقلال على المحك.
سنة صعبة ترحل وعام يتوقع أن يكون الأصعب قادماً من دون أفق لإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، ولعل إعلان رئيسة الحزب “الدستوري الحر” عبير موسي قيادة “ثورة التنوير” وهو سليل حزب التجمع الحاكم لأكثر من 23 سنة والذي حل قضائياً وسقط سياسياً بعد سقوط نظام بن علي أحد أهم الأدلة على فشل منظومة ما بعد 2011 وحصيلة بائسة لكل حكومات ما بعد الثورة.
المصدر: النهار العربي