فهم الإنسان.. أولاً وأخيراً ..

بشير حنيدي

{{النصر عمل.. والعمل حركة.. والحركة فكر.. والفكر فهم وإيمان.. وهكذا فكل شيء يبدأ بالإنسان }} / جمال عبدالناصر.
فهم الإنسان ( الفرد والمجتمع ) ، وموقعه في عالم الوجود ، ودوره ضمن حركة التاريخ ، من القضايا الفكرية الفلسفية التي شغلت الفلاسفة والمفكرين على مدى قرون وقرون ، منذ عصر افلاطون وأرسطو إلى يومنا هذا ، مروراً بالمناهج الفكرية الكبرى ( مثالية هيجل ومادية ماركس / وكلاهما حيـّدت الإنسان ، وضعته بموقع سلبي ضمن حركة التاريخ  ) ، إلى فلسفة كيركجور وسارتر الوجودية ..
وفي عالم الفكر العربي المعاصر يعتبر كل من الدكتور عصمت سيف الدولة والدكتور عبدالوهاب المسيري ، من أبرز المفكرين العرب الذين انشغلوا بهذه المسألة  ..
الدكتور عبدالوهاب المسيري أغرق فلسفياً بهذا الموضوع في بعض مؤلفاته ،  وفي النهاية أقر بصحة النتائج التي توصل إليها الدكتور عصمت سيف الدولة بهدي مما اكتشفه وأبدع صياغته فكرياً وفلسفياً ( جدل الإنسان ) ، متجهاً نحو جملة نظريات ورؤى فكرية اجتماعية وسياسية..  بتفسير حركة التاريخ .. و في القومية والوحدة ، والاشتراكية ، والديمقراطية وغيرها …. وبهذا يقول المسيري صراحة : (( أعترف أنني لو كنت قرأت أعمال الدكتور سيف الدولة في بداية رحلتي الفكرية ، لوفـّـر عليّ هذا العناء الكبير )) .
اختلفت المنهجية العلمية التي اتبعها الفلاسفة والمفكرون لفهم الإنسان ، منها ما اقتصر على فهم الإنسان الفرد معزولاً عن المجتمع كما في منهجية كيركجور الوجودية .. ومنها ما تجاوز ذلك إلى الإنسان المجتمع بحثاً عن القوانين الموضوعية التي تحكم عالم الإنسان وحركة التاريخ كما في الفلسفة المادية / الماركسية .. ومنها ما سعى إلى الجمع بين المنهجين الأول والثاني كما في منهجية جان بول سارتر ، بحثاً عن التركيبة البنيوية لكل من الإنسان الفرد والإنسان المجتمع ، ذلك أن التركيبتين مختلفتين مع أن الإنسان الفرد هو الخلية الأساسية في تركيبة الإنسان المجتمع .
خصائص التركيبة البنيوية ( للإنسان / المجتمع ) تختلف عنها في ( الإنسان / الفرد ) ، فهي في المجتمع أكثر تعقيداً من خصـائص التركيبة البنيويـة للإنسان الفـرد ، وهذا ما أشار إليـه  ( دوركهايم ) في كتابه ” قواعد المنهج في علم الاجتماع ” : (( اجتماع الأفراد يخلق ظاهرة جديدة / مجتمع ، والمجتمع يمتاز بمزايا نوعية مختلفة تماماً عن مزايا الأفراد .. فإذا خلطنا النحاس بالحديد حصلنا على تركيب جديد ، إنه البرونز .. وخصائص البرونز تختلف كلياً عن خصائص كل من الحديد والنحاس .. ولمعرفة خصائص البرونز ، لا بد من دراسة البرونز بحد ذاته )) .
الدكتور عصمت سيف الدولة اختلف مع ( دوركهـايم ) بهذه المسألة ، ورأى  أن البرونز يتشكل من عنصرين مختلفين ( الحديد والنحاس ) ، بينما يتشكل المجتمع البشري من عنصر واحد وهو ( الإنسان ) ، فيقول في كتابه  ” أسس الاشتراكية العربية ” : (( إن دوركهايم تجاهل أن المجتمع إضافة إنسان إلى إنسان ، أي تكوين من نوع واحد ، كإضافة الحديد إلى الحديد ، أو إضافة النحاس إلى النحاس )) …. وهذا – بعد الاعتذار من أستاذنا ومعلمنا سيف الدولة – يستدعي إلى الذهن ملاحظتين ناقدتين لرأي الدكتور سيف الدولة :
1-    إذا كان الإنسان الفرد من حيث ( الخصائص / الفيزيولوجية والفطرية الغرائزية ) يعتبر نسخة واحدة متكررة ضمن تركيبة المجتمع ، فهو ليس كذلك فيما تبقى من خصائص ، وهي خصائص على قدر كبير من الأهمية بتشكيل شخصية الإنسان وهويته ، بل إن من هذه الخصائص تحديداً وحصراً تشكلت الهوية النوعية المميزة للإنسان … وفي هذا الجانب من هوية الإنسان وشخصيته ولاعتبارات موضوعية مختلفة ، فهناك اختلافات وتمايزات ليست بسيطة من فرد إلى آخر ، ليس في المجتمع الواحد فحسب ، بل حتى ضمن أصغر التشكيلات ضمن المجتمع الواحد ( الأسرة ) ، بل حتى الفرد ذاته..  فهو ليس ذاته دائماً بكل حياته .. فهو قابل للتغير والتطور من مرحلة إلى أخرى .. ومن موقع إلى آخر تبعاً لعوامل مختلفة .
لذلك فالمجتمع ليس مركباً اجتماعياً واحداً متجانساً ، كتكوين من نوع واحد ناتج عن إضافة إنسان إلى إنسان كما يرى الدكتور عصمت .. وهذا تماماً ما أقره الدكتور عصمت نفسه خلال حديثه بموضوع آخر ، في كتابه ” هل كان عبدالناصر ديكتاتوراً ” : (( يختلف الناس اختلافاً كبيراً ، منهم الحكام والمحكومون ، الأغنياء والفقراء ، المتعلمون والأميون ، المستغلون وضحايا الاستغلال ، الملاك والمعدمون ، الأذكياء والأغبياء ، الأصحاء والمرضى ، الشيوخ والرجال والنساء ، والشباب والأطفال …. إلى آخره … ويتدرجون فيما بين تلك الحدود ، فلا نكاد نعرف مواطناً شبيها بمواطن آخر )) .
2-    مع أن الإنسان الفرد هو الخلية الأساسية في بناء المجتمع ، فالمجتمع ككل لا يتألف من تشكيل اجتماعي واحد متجانس ، إنما من مجموعة من التشكيلات الاجتماعية المختلفة ( الأسروية ، العشائرية ، القبلية ، العرقية ، الدينية ، المذهبية ، الطبقية ، الثقافية ، وغيرها ، …. ) ، تشكيلات لا شك أنها في إطار الوحدة الاجتماعية الكبرى تشترك بجملة خصائص عامة مشتركة ، إلا أن لكل من هذه التشكيلات خصاص خاصة مميزة تختلف عن خصائص كل من التشكيلات الأخرى ، وهي تشكيلات تفاعل الفرد مع الفرد تاريخياً فأنتج كلاً منها ، ومن ثم تفاعلت فيما بينها تاريخياً فأنتجت إطاراً مجتمعياً واحداً ، فجاء الناتج التاريخي مجتمعاً مركباً .. يتجاوز بخصائصه العامة كلاً من الخصائص البسيطة للإنسان الفرد والخصائص الخاصة بكل من هذه التشكيلات .. وآية ذلك أن هناك عوامل نوعية موضوعية مختلفة : ( اجتماعية ، اقتصادية ، سياسية ، أخلاقية ، تربوية ، علمية ، ثقافية ، دينية ) ، تلعب دوراً كبيراً بنشوء ظاهرة الاختلاف والتمايز فيما بين أفراد المجتمع من جهة ، وفيما بين التشكيلات المكونة للمجتمع من جهة أخرى .. وإن أسهمت تلك العوامل بتماهي شخصية الفرد مع التشكيلة الاجتماعية التي ينتمي إليها ، أو مع الشخصية العامة للمجتمع ككل ، فهي لا تلغي خصوصيته الفردية وهويته الخاصة المميزة له كفرد ، لتبقى حالة الاختلاف والتمايز ظاهرة حتمية داخل المجتمع الواحد .
وهذا ما يضيف إلى ( البرونز المجتمعي ) خصائص نوعية عامة ، تتجاوز كلاً من خصائص الإنسان الفرد وخصائص كل من التشكيلات الاجتماعية المكونة للمجتمع ، تتجاوزها وتتضمنها ولا تلغيها ، من هنا جاءت خصائص المجتمع خصائص مركبة وأكثر تعقيداً من خصائص الإنسان الفرد ، ومن هنا جاءت تركيبة المجتمع تتجاوز منطق إضافة إنسان إلى إنسان كما يرى الدكتور عصمت .
وهذا ما يجعل القوانين النوعية الحاكمة في عالم الإنسان / المجتمع ، تتجاوز القوانين النوعية الخاصة بعالم الإنسان / الفرد ، تتجاوزها وتتضمنها ولا تلغيها ، لهذا لا بد من البحث عن هذه القوانين في بنية الإنسان / المجتمع ، من خلال تشريح خصائص الإنسان / الفرد والمجتمع معاً  .. البحث عنها في أعماق المجتمع (( عما يمكن الإحاطة به )) من محددات لسلوك الإنسان / الفرد ، باعتبار الإنسان الفرد أولاً هو الخلية الأساسية في بناء الإنسان / المجتمع .. والعلاقة بينهما علاقة جدل وتفاعل مشترك ، علاقة الجزء بالكل ، وثانياً لأن السلوك الإنساني كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري في كتابه ” العلمانية الشاملة والجزئية ” : (( سلوك مركب إلى أقصى درجة ، وما يحدده ليس العوامل الواضحة والبرامج المحددة فحسب ، فدور العناصر الكامنة غير الواضحة وغير الواعية في تشكيل السلوك الإنساني على قدر كبير من القوة .. وفي معظم الأحيان تكون أقوى كثيراً من العناصر الواضحة التي يمكن للإنسان أن يستخدم إرادته ضدها ، فيتحاشاها أو يحاصرها أو يحددها )) ، وهذا ما اشار إليه بصيغة أخرى غوستاف لوبون في كتابه ” سيكولوجيا الجماهير ” : (( …. اشتغال الذهن أو آلية العقل والحياة الواعية للروح البشرية لا تشكل إلا جزءاً ضعيفاً جداً بالقياس إلى حياتها اللا واعية .. والمحلل الأكثر فطنة والمراقب الأكثر ذكاءً ونفاذاً لا يستطيع التوصل إلا إلى اكتشاف عدد ضئيل جداً من البواعث اللا واعية التي تحركه ، فأفعالنا الواعية متفرعة عن جوهر لا واع ، مشكّل من التأثيرات الوراثية بشكل خاص ….. وراء الاسباب الظاهرية لأعمالنا تكمن دائماً أسباب سرية مجهولة من قبلنا ، ومعظم أعمالنا اليومية ناتجة عن دوافع مخبوءة غالباً ما تتجاوزنا وتتجاوز وعينا )) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى