أطلق فريق عمل رفيع المستوى يدرس خيارات منطقة الشرق الأوسط للسنوات المُقبلة، على لبنان صفة “بركان اللااستقرار” بسبب استحالة التنبؤ بما هو آتٍ اليه عبر اللاعبين المحليين والخارجيين. ولأنه جار مُهم لكل من سوريا وإسرائيل، عدا عن كونه ساحة عسكرية مباشرة لإيران، تجد الدول الكبرى نفسها مضطرّة لأخذ لبنان في الاعتبارات الاستراتيجية لكنها تصطدم تكراراً بمستوى وقاحة السلطة الحاكمة بكل أنواعها واختلاف ولاءاتها.
ومع تسلّم الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن مفاتيح البيت الأبيض في 20 كانون الثاني (يناير) المقبل تَنصّب القيادات والمؤسسات الاستخبارية وشتّى فرق العمل في دولٍ رئيسية على رسم معالم المرحلة المُقبِلة لمصالحها في منطقة الشرق الأوسط على ضوء السياسات الأميركية الجديدة المُرتقبة ومسار العلاقات الثُنائية بين واشنطن وطهران وتداعياتها الفائقة الأهمية. روسيا التي تريد أخذ زمام المبادرة في سوريا كبوابة رئيسية لها ترى الآن ان هناك فرصة لدور مميّز لها في لبنان في المعادلة التي تنوي أن ترعاها بالذات في المثلث الإيراني – الإسرائيلي – السوري الذي عالجه المقال الأخير بتاريخ 20 كانون الأول (ديسمبر) الجاري.
فرنسا دخلت الدهاليز اللبنانية وباتت لاعباً – فاشلاً كان أو ناجحاً – في الاعتبارات الروسية. لكن إسرائيل هي التي أصبحت في نظر موسكو الشريك المُرشّح الأول لإحداث التغيير الجذري في الشرق الأوسط الذي تدرسه الأوساط الروسية المعنيّة من دون التخلّي عن الشريك الميداني الأصعب أي الحليف الإيراني. فروسيا تريد طيّ الصفحة السورية عبر تطبيق رؤيتها للسلم والاستقرار هناك، وهذا يتطلّب تأمين الظروف والأجواء في الجيرة المباشرة لسوريا عبر الدفع نحو سياسات جديدة ومختلفة مع كل من إيران وإسرائيل في الساحة اللبنانية.
الانتخابات المُقبلة في كل من الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل تضع البلدين في أجواء أزمات داخلية ليست مواتية لرسم سياسات جيوسياسية ثابتة بعيدة المدى. لكن ذلك لن يثني موسكو عن “تحديث” السياسة الروسية الخارجية للسنوات المُقبلة بحسب وصف أحد الفاعلين في رسم الخيارات المطروحة. ضمن عملية التحديث هذه العزم على التأثير في السياسات الإيرانية والإسرائيلية كي تتطوّر وتتغيّر وتُصبح مختلفة عما هي عليه الآن. ما تنويه موسكو هو إجراء مشاورات جدّيّة ومكثّفة مع إيران مطلع السنة المقبلة، وهي على تواصل مع إسرائيل في هذا الصدد حيث “نتلقى تفهّماً أكبر لموقفنا مما نتلقاه من إيران”، بحسب تعبير المصدر الروسي.
ما تمتلكه موسكو من أدوات تأثير مع إيران ليس هامشياً وهي قادرة على المساومة ولعب الأوراق لإبرام الصفقات. إيران أساسية وضرورية لروسيا في معالجة المسألة السورية، والعكس بالعكس. ما تتصوّره روسيا هو أن يتم التوصّل الى حل وسط ضمن معادلة اقتسام الكعكة بما يؤدي الى منع السيطرة الإيرانية الكاملة على سوريا من جهة ومنع إخراج إيران كليّاً من سوريا. وهذا يطبَّق على لبنان.
المهم في الرؤية الروسية الحديثة هو أن لبنان يجب ألّا يكون البلد الذي يعمّق الانقسام الإقليمي.
السنوات الثلاث المقبلة ستشهد “بيروسترويكا” جدّيّة في الشرق الأوسط بحثاً عن “استقرار جديد”، حسبما جاء في تقرير خاص لمجموعة عمل task force استراتيجية روسية نصّ على أن الدول الفاعلة وراء هذا التحوّل السياسي ستكون الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وإسرائيل في مقدّمته من دون استثناء أو استبعاد أية دولة عنه “بما في ذلك الدول الصعبة والمتناقضة مثل إيران والسعودية”. وهذا يتطلّب قيام لاعبين خارجيين باتخاذ “الخطوات الصحيحة”.
المشكلة الرئيسية هي، بحسب التقرير، مَن سيتحمّل المسؤولية في عملية تحقيق الاستقرار البعيد المدى بدلاً من البقاء في أجواء أزمة دائمة؟ الثمن السياسي والاقتصادي باهظ وروسيا قادرة فقط على تحمّل المسؤولية بصورة محدودة في هذه العملية. فمَن من داخل وخارج المنطقة سيسدّد نفقات هذه النقلة شبه النوعية؟ ولماذا لبنان مهم في هذه المعادلة؟
السبب هو أن لبنان “بركان للااستقرار”، بمساهمات داخلية وخارجية. لبنان كان في النظرة الروسية ملحقاً في إطار حوادث سوريا وفي ظلّها، لكنه اليوم بحسب الرؤية الروسية، “فائق الأهمية في عملية تشييد المستقبل السياسي” في المنطقة.
ما تواجهه روسيا وغيرها عند النظر في إمكان تحويل لبنان الى بلد مستقر هو استحالة الاستقرار طالما لبنان ساحة للتدخل الخارجي واستحالة الثقة باستعداد اللاعبين المحليّين لصنع الاستقرار في لبنان.
“المهمّة الاستراتيجية”، strategie task كما جاء في التقرير، هي تطوير لبنان ليصبح لاعباً سيادياً جاهزاً للعمل من أجل الأمن الإقليمي. هذا يتطلّب ان تكون مؤسسات الدولة حرّة من التدخّل الخارجي الدائم بالذات من إيران، “وإيران ليست راغبة بمثل هذا التطوّر”- أن يتحوّل لبنان الى بلد سيادي جاهز للعمل من أجل الأمن الإقليمي، كما جاء في التقرير. ذلك أنّ إيران تريد للبنان أن يبقى “ورقة صاخبة” wild card في “لعبتها الإقليمية”.
ما تقرّ به مجموعة العمل في تقريرها هو أنه ليس في وسع أيّة دولة أن تقوم بمفردها بتغيير “قواعد اللعبة” في لبنان، وأن تسويق القواعد الجديدة الضرورية للبنانٍ سيادي مستقر يتطلب “ضمانات جماعية”. ما طرحته من عناوين رئيسية لتغيير قواعد اللعبة تضمّن التالي:
– إزالة أو وضع حدود على “حزب الله” كي يكفّ عن النفوذ والتدخل المباشر.
– عدم اندلاع أي تهديد من الأراضي اللبنانية الى الدول الأخرى.
– تأمين مساعدة اقتصادية جماعية collective لترميم البلاد، بمعنى صندوق أو برنامج خاص للمهمّة.
– شمل لبنان في مختلف العمليات الإقليمية السياسية والديبلوماسية.
– التوصّل الى اتفاقات سياسية داخلية تؤيّد الاستقرار، حتى لو كانت بصيغة سريّة.
– أخذ القيادة المسؤولية الشخصية من أجل التنمية الوطنية.
كل هذا يتطلّب إزالة كامل نقاط اللااستقرار عن لبنان، “إما نتيجة حسن نيّة أو بالقوّة”، بحسب التقرير الذي يؤكّد أنه يجب تحويل لبنان من “ساحة صراعات الى دولة ذات مستقبل بأيّ ثمن كان”.
والسبب الأساسي وراء هذا التوجّه في روسيا هو حاجتها الى بلد يؤدي دوراً خاصاً في زمن تطبيع الوضع في سوريا. إنما هذه الرؤية والاستراتيجية بلا فائدة طالما يتحكّم بالبلاد زمرة سياسيّين لا يعنيها الاستقرار ولا السيادة. لذلك التفكير بالمفاتيح الخارجية لتجعل من المفاتيح الداخلية – بالإقناع أو بالقوة – عناصر مساهمة في تحويل مسار لبنان من دولة فاشلة الى دولة ضرورية لصنع الاستقرار الإقليمي.
المصدر: النهار العربي