لبراء السراج شاب سوري مقيم في أميركا، يوثق لاعتقاله عام ١٩٨٤م على يد النظام السوري على خلفية الصراع بين النظام وجماعة الطليعة المقاتلة، حيث توسع النظام السوري باعتقال الإخوان المسلمين والقوى الوطنية الديمقراطية. سُجن لمدة أحد عشر عاما، أغلبها في سجن تدمر، ومن ثم خرج من السجن عام ١٩٩٥م، وغادر بعد سنة الى أمريكا، ودرس هناك وأصبح طبيبا اختصّ وحصل على الدكتوراة عام ٢٠٠٨م، في زراعة الاعضاء في مدينة شيكاغو الأمريكية.
كانت تجربته في السجن والاعتقال تلح عليه أن يوثّقها و يكتب عنها، لكنّ تذكر ماعاش من آلام وعذاب وذكرى من تعذيب وإعدام هناك، جعله يتراجع دائما. الى أن جاء الربيع السوري في آذار ٢٠١١م، عندها بدأ في كتابة شهادته عن سجنه المديد. ليؤكد من خلال ذلك، أن الظلم والقهر الذي عاشه الشعب السوري، أدى إلى ثورته على النظام، التي كانت حتمية وضرورية.
يبدأ البراء شهادته من هذا التقديم، ويعود بعد ذلك ليتحدث عن نفسه، وذلك في اوائل عام ١٩٨٤م، إنه من عائلة حمويّة، تسكن في مدينة دمشق لهم فيها منزل، كما أن لهم أيضا بيت وأملاك في حماة، كان في السنة الثالثة من دراسته في كلية الهندسة الكهربائية، عمره احدى وعشرين عاما. وكانت قد مرّت سورية منذ سنوات بأحداث الصراع بين الطليعة المقاتلة والنظام السوري الذي استثمر ذلك ليبطش بالشعب السوري وقواه المعارضة، ارتكب كثيرا من المجازر، أكبرها في مدينة حماة حيث هدم أحياء وقتل عشرات الآلاف من أهلها، وكذلك في مدينة حلب وغيرها من المدن السورية.
كان النظام قد اعتقل أحد اخوة البراء قبل فترة لمدة شهر ونصف وأفرج عنه. البراء شاب متدين تردد على مساجد دمشق، وحضر بعض الدروس الدينية، لكنه لم يلتزم مع أي تحزب، وعندما تصاعد الصراع بين النظام وجماعة الطليعة وبعد اعتقال أخيه، أصبح أكثر حذرا بالنسبة لإظهار تدينه وتردده على المساجد. أحسّ أنه مراقب من خلال ذهابه للجامعة.
في إحد أيام ذهابه للجامعة وأثناء التفتيش تم التحفظ عليه من قبل الأمن، اقتيد إلى أحد الفروع الأمنية، واكتشف أنه معتقل. ومنذ ذلك الوقت بدأت رحلة عذابه واعتقاله. طالبوه في البداية أن يكتب كل شيء عن نفسه، كتب ولم يعجبهم، طالبوه أن يقدم اسماء شباب من الطليعة المقاتلة او الإخوان المسلمين، أنكر في البداية، وبدأت رحلة التعذيب والإذلال. وكان لا بد له أن يقدم لهم بعض الأسماء، وأعطاهم اسماء لبعض الشباب من الذين قتلوا في الأحداث أو هربوا خارج البلاد. وهكذا أصبح نزيلا في الفروع الأمنية بين حماة ودمشق، وبعد زمن حوّل مع آخرين الى سجن تدمر. اعتمد البراء في توثيقه لما حصل معه، على تحديد الزمن اليوم والشهر والحدث. في تدمر كان الجحيم ينتظرهم، لقد تيقن أن تحويلهم الى هناك، كان المقصود منه، عيشهم في أجواء رعب وخوف وتعذيب وإذلال مستمر، مع صلاحيات لإدارة السجن تصل لدرجة القتل في تعاملها مع السجناء. كما كان في السجن محاكم عسكرية صورية، تجتمع بوقت لا يزيد عن دقائق، وكانت الأحكام تبدأ من سنوات سجن لتصل إلى المؤبد والإعدام، وكانت تحصل الاعدامات بشكل دائم وتختلف الأعداد في كل دفعة، يأخذوهم في وقت الفجر. أغلب المسجونين محسوبين على الإسلاميين، طليعة مقاتلة وإخوان، وسلفيين، كما وجد في السجن شباب محسوبين على بعث العراق، وبعض الشيوعيين، وكذلك الكثير من اللبنانييّن. اعتمدت ادارة السجن على التعذيب الجسدي والإذلال الدائم، ليلا ونهارا كل الوقت، ضرب وبطش وتعذيب، في التفقد الصباحي، وفي إخراجهم للتنفس، وكذلك عندما يؤخذون الى الحمّام، الذي لا يستغرق دقائق، يستحمون بشكل جماعي، الماء البارد وتحت الضرب. كذلك في الحلاقة التي تتحول إلى تجريح وتشويه لهم. هذا غير التعذيب الفردي العشوائي، بأدوات حادة، بورية معدنية، والدولاب والكبل الرباعي. يصاب الكثير منهم بعاهات من التعذيب، ومات البعض جرّاء ذلك. طالت الإعدامات حسب متابعة البراء ما يزيد عن أحد عشر ألف شخص في فترة وجوده في تدمر، الممتدة حوالي عشر سنوات، كما أنه سمع بالمجزرة التي حصلت في سجن تدمر عام ١٩٨٠م قبل سجنه باربع سنوات لقد سمع تفاصيل ما حصل، حيث حضرت طائرات هليوكابتر فيها عناصر من سرايا الدفاع، تم عزل السجناء في مهاجع معينة، واُخرج من لا يريدون تصفيته، وبدؤوا إلقاء قنابل على المهاجع، ومن ثم الدخول إليها، وإطلاق النار على السجناء الذين يستنجدون ويصرخون الله أكبر، استمر ذلك لساعات، حتى سكنت المهاجع كلها، لقد قُتل كل السجناء وكان عددهم حوالي الألف سجين او يزيد. كان ذلك ردا على محاولة فاشلة لإغتيال حافظ الأسد، حصلت عام ١٩٨٠م.
فصّل البراء ما كانوا يعيشوا داخل سجن تدمر، من كيفية الحياة والتعذيب اليومي والدائم، ليلا ونهارا، تحدث عن كثير من الشباب والكهول والأحداث مروا عليه وأثروا عليه، كانوا نماذج إنسانية. التجويع، التعطيش، الإذلال الدائم المقترن مع التعذيب الذي يؤدي في كثير من الأحيان الى الموت، كان البعض يتقدم لاستلام الطعام، وتحمل الضرب والتعذيب، والبعض يخرج للتعذيب بدلا عن آخرين كفداء وحماية الضعيف والمريض، عاش البراء مشاعرا إيمانية عميقة، يرى نفسه دوما تحت ألطاف الله، يلجأ له في كل نازلة، داوم على حفظ القرآن الكريم حتى ختمه، وكذلك حفظ الكثير من الأحاديث. كما عايش البراء الصّراع بين التوجهات الدينية المختلفة، سلفية ومذهبية وقرآنيّن، وكانت إدارة السجن تستثمر ذلك عبر خلق الضغينة بين السجناء، إلى درجة أن وظف بعضهم نفسه مخبرا لدى الإدارة، والمؤسف أن لا مكسب للمخبرين سوى واقع العار الذي يقعون به، يعذبوا ويضربوا وبعضهم قتل تحت التعذيب. عايش البراء وصول البعض لدرجة الإنهيار العصبي والعقلي، لدرجة الجنون. جرّب النظام جميع أنواع التعذيب والحرمان، على السجناء؛ التجويع، نقص مياه الشرب والنظافة، وأحيانا الإغداق بالطعام. تحدث البراء عن السجانين وانتقائهم، حيث كان أغلبهم من الطائفة العلوية، ممتلئين حقدا، تم تدريبهم على الضرب واستباحة السجناء، إلى درجة القتل، دون أي تبعات. وتحدث عن الأمراض السارية التي اصيبوا بها، السل والكوليرا، ناهيك عن الجرب وانتشار القمل فيهم. تنقل البراء بين الكثير من المهاجع، تعرف على آخرين أحبهم، وأفتقد الكثير ممن أعدموا لاحقا. في السجن محكمة عسكرية صورية، تأخر عرض براء عليها لسنوات، حاول أن ينكر ما فرض عليه من اعتراف في التحقيق، لكنهم حاسبوه على اعترافاته، وحكم لعشرين عاما. استمر سجن البراء في تدمر لسنوات طويلة، من ١٩٨٤م حتى بداية التسعينات. علم عن احضار الكثير من اللبنانيين سجناء الى تدمر، وكذلك بعض الشيوعيين، وبعث العراق، وعلم أن هناك مهاجع للنساء، هذا غير مهاجع الأحداث الذين كانوا بالمئات. ثم بدأ النظام بنقل الكثير من السجناء إلى سجن صيدنايا الذي بناه النظام حديثا للسياسيين، وتأخر البراء بالنقل له الى عام١٩٩٣م، اختلفت الحياة والمعاملة في سجن صيدنايا كثيرا عادوا إلى شروط حياة أقرب للإنسانية، في المعاملة والمأكل والمشرب، وحصول الزيارات لبعض السجناء. وصل خبر لبراء أن عائلته غادرت كلها لأمريكا، أحس بالغصة والفرح، لقد بعدوا عنه، لكنهم هربوا من ظلم مقيت. في سجن صيدنايا يعيش السجناء متكافلين في كل شيء، فالذي لا يأتيه زيارة ومال يساعده من يأتيه، وهكذا وجد البراء من أحتضنه وساعده. كان السجن مختلطا بين كل الإتجاهات السياسية. طال الزمن على البراء في السجن. زال خوفه من الإعدام بعد نقله لسجن صيدنايا، ولكن خاف أن يستمر سجنه لعشرين عاما. كان يحضر لقاءات مع مسؤولين أمنيين كبار مثل علي دوبا رئيس الاستخبارات العسكرية وآخرين، ولأكثر من مرّة، وكان آخرها ١٩٩٥م، وأعطي إخلاء سبيل، وخرج من السجن، إلى فرع التحقيق، ثم مجددا الى الحرية.
بحث البراء عن أهله وعلم أنهم غادروا لأمريكا، وصل لأقربائه، ساعدوه وبدأ رحلة تجهيز نفسه للسفر إلى أمريكا، انهى تخلفه عن الجيش لكونه معتقلا، وحصل على جواز سفر، وسافر الى أمريكا ملتحقا بأهله، استفاد من تعلمه الإنكليزية في السجن، وبدأ رحلة التعلم ليصبح طبيبا مختصا في زراعة الأعضاء في شيكاغو عام ٢٠٠٨م. كما ابتدأ كتابة سيرته الذاتية وشهادته، التي كتبها مطلع الثورة السورية عام ٢٠١١م.
في التعليق على الشهادة -السيرة- أقول:
ها نحن أمام شهادة أخرى عن ما عاشه الكثير من شبابنا السوري في سجن تدمر وفي غيره من السجون والمعتقلات، وأن درجة استباحة إنسانية الإنسان لهم، لا تُقبل بأي معيار، ومهما كانت أفعالهم، وأن مظلومية السجون والمعتقلات، هي نسخة مركزة عن مظلومية مجتمعية عامة، استمرت لعقود، عاشها كل الشعب السوري وذاق ويلاتها. وأن ثورة الشعب السوري في عام ٢٠١١م، كانت نتيجة حتمية لما كنا نعيشه من ظلم وقهر واستغلال وفساد وطائفية واستبداد، وأن الثورة كانت الحل لاسترداد الحقوق والحريات وبناء مجتمع العدالة والكرامة والديمقراطية.
الكتاب شهادة أخرى لكي لاننسى…