عادت ألمانيا مجدداً لتتصدر سلسلة محاكمات تاريخية بتوجيهها اتهامات لمسؤولين في النظام السوري بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وذلك بعد مرور 75 عاماً على محاكمات نورمبيرغ.
فمنذ خريف عام 1945 سيق أكثر من 20 مسؤولا نازيا بينهم هيرمان غورينغ وألبرت سبير إلى محكمة بنورمبيرغ حتى تتم محاكمتهم على جريمة جديدة وهي اقتراف جرائم ضد الإنسانية. واليوم في كوبلينز، تلك المدينة الساحرة التي أقيمت فوق المنطقة التي يلتقي فيها نهرا الراين وموزيل، تم توجيه اتهامات لضابطين رفيعين سابقين في أجهزة مخابرات النظام، بارتكاب 58 جريمة قتل وأكثر من 4 آلاف جريمة تعذيب في سجن الموقع الأسود سيئ الصيت القريب من دمشق والذي يعرف باسم الفرع 251.
ومؤخراً أثنى وزير الخارجية الألماني هايكو ماس على تلك القضية ووصفها بأنها علامة فارقة في الحملة الساعية لمحاكمة أعوان الأسد على الجرائم التي ارتكبوها، وذلك عندما قال: “إننا هنا نقوم بدعم مبدأ العدالة العالمية الشاملة، ونشجع غيرنا من الدول على اتخاذ إجراءات وطنية خاصة بها ضد الجرائم بموجب القانون الدولي”.
غير أن محاكمة كوبلينز التي من المتوقع لها أن تمتد لفترة طويلة خلال العام المقبل، تعتبر الأهم من نوعها على الإطلاق، فقد قام المدعي العام في ألمانيا السيد بيتر فرانك بإصدار مذكرة اعتقال بحق جميل حسن، رئيس المخابرات الجوية السورية السابق.
وقد شهد مكتب المدعي العام الألماني في مدينة كارلسروه بجنوب غربي البلاد دراسة لآلاف الملفات والصور والفيديوهات ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي حول جرائم أخرى تشمل الهجمات بالغازات السامة التي نفذها النظام على الغوطة في عام 2013 وعلى خان شيخون في عام 2017.
فقد قتل أكثر من ألف إنسان في تلك الجرائم التي وثقت بأدق التفاصيل على يد ناشطي المعارضة السورية في الخارج وذلك لدى المنظمات الحقوقية وعلى رأسها الأرشيف السوري في برلين ولندن.
وبذلك أصبحت ألمانيا في موقف غير مألوف بالنسبة لها، نظراً لوجود ثغرات في مجموعة الأحكام التي تندرج ضمن القانون الدولي والتي تم الجمع بينها ووضعها ضمن ذلك القانون الشامل منذ محاكمات نورمبيرغ. إذ إن الجرائم من هذا النوع هي من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، ولكن سوريا ليست عضواً في تلك المحكمة، وقد أحبطت جميع المحاولات المتكررة لإقامة تفويض من أجل المحاكمة على تلك الجرائم، وذلك على يد الدول الحليفة للأسد في مجلس الأمن الدولي، وعلى رأسها روسيا والصين.
ولهذا خطت ألمانيا تلك الخطوة الفريدة مستغلة ثغرة في ذلك القانون. إذ خلال العقد الماضي، فر آلاف السوريين من الحرب الدائرة في بلدهم ووصلوا إلى هذه الدولة، بعضهم كانوا يعملون لدى النظام.
وحول ذلك يحدثنا كريستوف سافرلينغ أستاذ القانون الدولي بجامعة فريدريك ألكساندر بنورمبيرغ وإيرلنغن فيقول: “مؤخراً عانينا من مشكلة كبيرة في ألمانيا وهي تدفق هؤلاء اللاجئون الذين لم يكن بينهم ضحايا جرائم حرب فقط، بل أيضاً من ارتكبوا تلك الجرائم، حيث لم تظهر هويتهم الحقيقية بين جموع اللاجئين. ونظراً لوصول عدد كبير من الضحايا إلى ألمانيا، أصبح لدينا كم كبير من الأدلة والشهود حول مزيد من جرائم الحرب ، وهنا يجب على النيابة أن تنتبه، وأن تشنف الآذان ثم تتصرف”.
وخير مثال على ذلك ما حدث مع المتهمين في محاكمة كوبلينز، وهما العقيد السابق في المخابرات السورية أنور رسلان ومرؤوسه إياد الغريب، واللذين أنكرا كل التهم المنسوبة إليها، فقد انشق كلاهما عن النظام السوري في عام 2012، ليصلا في نهاية الأمر إلى ألمانيا حيث يحاكمان اليوم بموجب المبدأ المعروف باسم الولاية القضائية العالمية الشاملة، وحول ذلك يقول الأستاذ سافرلينغ: “لا يهم أين تم ارتكاب الجريمة، إذ يكفي وجود شك بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية حتى يقوم النائب العام بتحريك الدعوى”.
وهنا حتماً لابد وأن نتذكر محاكمات نورمبيرغ في ظل إجراءات التقاضي ضمن هذه الدعوى، بل إن ذلك خير دليل على مدى تغير ألمانيا على مدار 75 عاماً، إذ أصبحت اليوم تترأس عملية المحاكمة على جرائم حرب ارتكبت في دول أخرى.
وحول هذه النقطة يقول الأستاذ سافرلينغ: “لمحاكمات نورمبيرغ معنى خاص ومميز في ألمانيا بكل تأكيد، إذ ساد شعور لفترة طويلة بأن القانون الدولي قد نظم حينها ليهين الألمان.. لكن اليوم، وعبر الاستعانة بالمحاكم الدولية، وإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، أدركنا جميعاً بأن الأمر لا يتصل بإذلال الألمان وحدهم، بل تحول ذلك لقانون يسري على العالم بأسره”.
المصدر: صحيفة التايمز البريطانية / موقع تلفزيون سوريا