الشيخ حسن حبنَّكة وروحية التمرد في حي الميدان

حسام جزماتي

حين صعُب على شيخ مدرسة في وسط دمشق لفظ الكنية الغريبة لتلميذه الجديد «حبنَّكة» سأله عن سكنه وألحقه بالاسم قائلاً: «أنت حسن الميداني». لن يترك ذلك أثره على لقب العائلة الرسمي في دائرة النفوس فقط، الذي أصبح «حبنَّكة الشهير بالميداني»، بل سيكون أصدق تعبير عن الطالب وتكوينه وحقل تأثيره المستقبلي.
في الكتاب الذي ألّفه عن أبيه بعنوان «الوالد الداعية المربي: الشيخ حسن حبنَّكة الميداني، قصة عالم مجاهد حكيم شجاع» يروي الشيخ عبد الرحمن سيرة ميدانية نموذجية لعائلة من عرب بني خالد هاجرت إلى هذا الحي على أطراف دمشق من أرياف حماة، حيث كانت قد اكتسبت لقبها الغريب والمهنة التي حافظت عليها حتى بعد أن قطنت جوار العاصمة، وهي تربية الأغنام في البادية، واستثمار مواليدها وأصوافها وألبانها وسمنها التي يخزنونها في خانات الميدان تمهيداً لبيعها.
كان والد حسن، مرزوق بن عرابي بن غُنيم، أول من استغنى عن العلاقات البدوية للعائلة، متجهاً إلى فتح دكان لبيع المواد الغذائية. واشتهر بالتدين والمحافظة على صيام النفل وحضور صلوات الجماعة في جامع منجك المجاور. وحين قرر أن يتزوج لجأ إلى مصاهرة عائلة من قرية الكسوة، جنوب دمشق بأقل من 20 كم، تهرباً من التجنيد الإجباري في الجيش العثماني/ التركي، الذي كان يعفي زوج المرأة الغريبة «المقطوعة» من الخدمة إذا لم يكن لها أهل تأوي إليهم في بلد زوجها.
كان حسن الثمرة الأولى لهذا القران. المولود عام 1908، الذي قرر والده أن يدخله سلك التعليم الناشئ ثم يدعمه في مرحلة الأخذ على الشيوخ بعد أن أتم الابتدائية، رغم أنه تزوج مبكراً وسكن غرفة في منزل العائلة حيث بدأت خطواته الأولى في التدريس. قبل أن يتم العشرين قاده طبعه المتحمس إلى الالتحاق بالثوار على الانتداب الفرنسي، وتحديداً بابن حيّه محمد الأشمر. ولما كُسرت شوكة «المجاهدين»، كما كانوا يسمّون، غادر إلى الأردن ريثما تهدأ الأوضاع ويعود ليحتفل برؤية ابنه البكر، المؤلف الذي يعدد، على نهج كتّاب السيَر، شيوخ والده الذي كان يصعد السند حتى وصل إلى الأخذ على بدر الدين الحسني، محدّث الشام الأكبر كما يُوصف عادة، باعث ما يطلق عليه دارسو المرحلة «النهضة التعليمية» التي عمدت إلى مواجهة مناهج التدريس الأوروبي الوافدة بتأسيس الجمعيات الإسلامية ومعاهدها الشرعية، ولا سيما «الجمعية الغرّاء» التي أنشأها الشيخ علي الدقر الذي لعب دوراً مركزياً في هذه الحركة، معتمداً على دعم «نخبة من صلحاء تجار دمشق» في تأسيس مدرسة وتأمين نفقة طلابها المكفولين داخلياً، طعاماً ولباساً ومأوى، ليكون منهم الخطباء والوعاظ والعلماء.
احتل الشيخ حسن الشاب مكاناً محورياً في مؤسسة شيخه الدقر، قبل أن ينفصل عنها لينشئ جمعيته الخاصة باسم «التوجيه الإسلامي» ومعهدها الذي حمل الاسم ذاته. وبدأ بدفع الرعيل الأول من تلاميذه إلى إلقاء الدروس العامة في جوامع مختلفة من حي الميدان، مركز نشاطه. بالتدريج أخذت أبنية المشروع تتسع وتتعدد، وأنصاره من الأعيان المحليين والمتبرعين يزيدون، وخريجوه يصعدون في أعمال السلك الديني. في الوقت نفسه لم ينقطع الشيخ عن خطبة الجمعة والدروس العامة التي كانت سبيله إلى استقطاب الجماهير والتأثير في الشارع. وإن أضيف إلى ذلك سعيه في تأسيس الجمعيات الخيرية واستقباله المستفتين وتحكيمه بين المتخاصمين وكثرة زواره في الأعياد والمناسبات و«الملمات»؛ أمكن أن نفهم أرضية شعبيته التي كانت تمتن وتتجذر وتنتشر عاماً بعد عام، مع ميله إلى «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» الذي قاده إلى الاحتكاك الدائم مع السلطة السياسية التي كانت، من جهتها، تزداد توغلاً في حياة المجتمع وضبطاً لمبادراته ذات الطابع الديني على وجه الخصوص، ولا سيما بعد وصول حزب البعث إلى الحكم بانقلاب 1963.
قبل ذلك كان الشيخ قد شارك في وفد من الوجهاء والقادة الشعبيين ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، سافر إلى الإسكندرية لدعوة الرئيس السابق شكري القوتلي للعودة إلى البلاد من منفاه الطوعي، وهو ما حصل لاحقاً وانتُخب العائد رئيساً من جديد حتى قيام الوحدة مع مصر في عهده. حضر القوتلي خطبة الجمعة وصلى مؤتماً بالشيخ في جامع منجك أكثر من مرة، وسمع منه تعريضاً وانتقادات وتذكيراً بواجبات الحاكم.
أما في السنوات الأولى من حكم البعث فقد مال الشيخ إلى الالتقاء الدوري بعدد من الشيوخ المؤثرين في دمشق لتدارس الأوضاع العامة المقلقة بشكل متزايد. وكان يتلقى ضغطاً من القاعدة الأعرض للمريدين، دون أن يوافق على نهج مجموعة أسست «كتائب محمد» بهدف مواجهة السلطة عسكرياً، الأمر الذي كان يراه معركة محسومة النتائج سلفاً. وهو ما حدث بالفعل حين اعتصم جزء من هؤلاء في الجامع الأموي، فجرى اقتحامه بوحشية وقُتل بعضهم وسُجن قسم آخر.
في عام 1965 تصدّر حملة للوقوف في وجه قرارات التأميم وحرّض المشايخ على انتقاد الاشتراكية في خطبهم ومجاميعهم العامة والخاصة. حتى استدعي، مع ثلة منهم، للقاء حاد مع رئيس الجمهورية آنذاك، الفريق أمين الحافظ، ينقل الكتاب صفحات مما روي منه، وانتهى بعزل الشيخ حسن وعدد آخر عن الخطابة.
لكن الطبعة اللاحقة من حكم البعث أقدمت على سجنه في نيسان 1967، إثر بروزه كرأس للاحتجاج على المقال الشهير المسيء للأديان الذي نشر وقتها في مجلة «جيش الشعب» الرسمية. وأصدرت قرارها بحل جمعيته ومصادرة مبانيها وممتلكاتها، والحجز على أمواله الخاصة. متهمة إياه بتدبير مؤامرة على البلاد بالتنسيق مع العاهل السعودي وقتها فيصل بن عبد العزيز، مع التعريج على دور ما لأميركا وإسرائيل. لم يفلح التحقيق، الذي أجراه ضابط المخابرات المعروف عبد الكريم الجندي وأشرف عليه وزير الداخلية محمد عيد عشاوي، في إثبات شيء. وبعد شهرين كانت حرب حزيران قد كسرت عنفوان يسار البعث عندما أخرج الشيخ من سجن القلعة صباح سادس أيام حرب الأيام الستة.
يشير الكتاب إلى معالم «صحوة إسلامية» انتشرت، خلال السنوات اللاحقة، في دمشق وحلب وحمص وحماة وغيرها من المدن. ودفعت كثيرين إلى التفكير في الإعداد لثورة إسلامية وتدريب الشباب على القتال. وهو ما رفضه الشيخ دوماً بالنظر إلى الظروف غير المتكافئة للمعركة الموعودة، مصراً على توسيع القاعدة الإسلامية العريضة من الشبان والشابات دون حزبية. مما جعله وسيطاً مقبولاً، في كثير من الأحيان، للإفراج عن معتقلين من الإخوان المسلمين لدى حافظ الأسد مع تصاعد التوتر.
خلال السبعينات كان الشيخ حسن أصبح أبرز مشايخ البلاد، ولم يكن الأسد في وارد استفزاز شعبيته. فكان يستجيب لطلباته، التي ينقلها نيابة عن الأهالي، أحياناً، ويعتذر مراتٍ أخرى، ويستدعيه في ثالثة ليستشيره في قرارات ينوي اتخاذها ويريد تقدير ردة الفعل عليها. مع إظهار التبجيل في كل الأحوال، حتى أثناء الاعتراض على الدستور المقترح الذي كان الشيخ في مقدمة من وقّعوا مطالبين بأن يتضمن مادة «دين الدولة الإسلام»، ومن رافضي تدخل سوريا في لبنان، ومن الداعين إلى الإفراج عن كل المعتقلين السياسيين، بمن فيهم المسؤولون البعثيون الذين سجنوه.
في تشرين الأول 1978 توفي الشيخ عن سبعين سنة. شُيِّع بجنازة حاشدة مكتظة. وتحت ضغط مريدين متحمسين متكاثرين دُفن في غرفة ملحقة بآخر جامع كان يقوم على تشييده حينها. بعد عقود سيصبح هذا الجامع مركز الاحتجاج على حكم بشار الأسد في دمشق دون أن يتذكر كثيرون لماذا حمل اسم «الحسن». لكنهم سيلقون الشجاعة في خطيبه المسنّ محمد كريّم راجح، أحد آخِر الأحياء ممن تشكلوا على يد حبنّكة الميداني، فيما سيتوجه معتصمون آخرون إلى جامع غير بعيد في كفر سوسة يحمل اسم تلميذ له من طبقة أقدم، هو عبد الكريم الرفاعي.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى